حميد بن خيبش - بَا عروب

لم يكن للشارع غير اسم واحد : شارع الحرية , إلا أن المرويات عنه تعددت إلى حد يصعب حصرها :
هنا ألقيت قنابل يدوية الصنع على موكب المارشال الفرنسي إبان الاحتلال .
وعلى الرصيف المحاذي للميناء رست سفن أجنبية عملاقة , وتخلص الأهالي من عباءة الفقر بفضل السجائر المهربة و المصنوعات الجلدية الرديئة .
أما سوق الجوطية الذي ستر عوراتنا على امتداد عقود طويلة فكان مسرحا لأشهرالروايات العربية. بل إن مئات القراء توافدوا عليه للتطلع في سحنات البائعين و "الدلالة" , و استكمال متعة القراءة !
أسماء لامعة و أحداث جسام توارت إلى الخلف بعد أن صار الشارع ملكا لكهل قصير القامة يُدعى : باعروب !
زعموا أنه ابن جنية ألقت به ذات ليلة على شاطيء البحر , فعثر عليه صياد عجوز تولى العناية به . و قيل أنه ابن مقاوم عنيد غيبته سجون الاحتلال . بينما رجح آخرون أنه نزيل سابق لإحدى دور الأيتام قبل أن تضيق ذرعا بقاطنيها وتلقي بهم تباعا إلى الشارع .
وحده با عروب يملك الحقيقة , لكنه لم يشأ الإفصاح عنها ليظل الغموض رديف سيرته . تلك خطة الغرباء دوما حين تشرئب أعناقهم لما وراء خبزهم اليومي !

استحوذ بدهاء على موقف السيارات أمام دهشة و تساؤلات لم تطل . فما هي إلا بضع رشفات من ويسكي مستورد حتى يبدأ رئيس البلدية بمكاشفة الذات ومصارحة ناخبيه من رواد الحانة ! هكذا علم شارع الحرية أن باعروب "يُدفيء" جيب الرئيس مرة في الأسبوع بربع المداخيل . أيا كان الموقف بعد ذلك فإن الشارع استعاد بعض هدوئه , وكفت علب الصفيح المتحركة عن إزعاج ساكنته بمنبهاتها و بذاءة سائقيها .
آه !
نعم..تذكرت ..وحدها سيارة رئيس البلدية أربكت منامهم لأشهر , قبل أن يُعثر على حطامها أسفل الوادي . توزع الشارع بين محوقل وشامت ثم عادت أخبار باعروب لتتصدر المشهد.

أصابته لوثة السمسرة فانهمك لأشهر في إغراء الأرامل و المستضعفين لترك بيوتهم , مقابل وعد بامتلاك شقة ضمن مخطط للإسكان ترعاه البلدية . حاز إعجاب المقاولين الجدد فاستفاق شارع الحرية ذات صباح على باعروب وهو يركن سيارته في نفس الموقف !
ضربة حظ ؟
ربما ..لكنها ضربة موجعة !

تغيرت معالم الشارع منذ التحاق المغرر بهم بالحي الصفيحي المحاذي لسوق الجوطية . صخب لا يكف , وزعيق باعة بالنهار تعقبه بذاءات غلمان الصفيح ليلا . زعموا أن أقراص الهلوسة نفحة من "بركات" باعروب قبيل الانتخابات , إلا أن زوجته الثانية لم تدع حفل عرس أو ختان يمر دون أن تلصق الشائعة بطليقته الأولى . الحق يقال , فهي أكثر زوجاته غيرة عليه , و أملكهن للجرأة على تحطيم المنافسين له في الاقتراع المقبل . شراسة غير معهودة ممن كانت حتى الأمس القريب أرملة رئيس البلدية المنتهية ولايته في قعر الوادي !

تندر رواد المقاهي في شارع الحرية بمن أسموهم عشية التصويت "ميليشيات باعروب" .
غلمان وقحون وأرامل متلهفات للزغردة . الفوز كان متوقعا دون الحاجة إلى فرز أصوات منهكة , وأحلام بالدوران في فلك "الحاج" باعروب .
لم أفك حتى اليوم لغز التقابل بين الحج و الانتخابات , و لِم الإصرار على إقحام المقدس في لعبة ترتوي من المدنس !
طرقت سمعي كلماته المتعثرة وهو يندد عبر الأثير بسوء التدبير الحكومي لملف البسطاء , و يعلن أن حزبه الذي قدم شهداء في سبيل الحرية , لعل آخرهم رئيس البلدية المنتهية ولايته في قعر الوادي , سيكون في الموعد , و سـ...
صار لكل بيت صفيحي عداد كهرباء . وازدان شارع الحرية بنقاط بيع مكشوفة لأقراص الهلوسة , و بحارس جديد لموقف السيارات .
زعموا أنه ابن مناضل عتيد غيبته زنازين الاعتقال .
ورجح آخرون أنه نزيل سابق لإحدى دور الأيتام قبل أن تضيق بهم ذرعا .
وحده الحارس الجديد يملك الحقيقة , لكنه لم يشأ البوح بها كعادة من تشرئب أعناقهم لما وراء خبزهم اليومي !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى