فاروق شوشة - عبد القادر القط ..

علي صفحات الأهرام كانت التجليات الثقافية والأدبية الأخيرة للدكتور عبد القادر القط طيلة السنوات الأربع الماضية‏,‏ كانت مقالاته نصف الشهرية بمثابة الصفحة الأخيرة في سجل حافل بالإبداع والنقد والفكر‏,‏ والمشاركة الجادة والحية في حياتنا الثقافية والادبية علي مدار أكثر من نصف قرن‏.‏
وظن كثيرون أن مقالاته في الأهرام ستتسع لكتابات نقدية جديدة‏,‏ تواكب الإبداع الأدبي في الشعر والقصة والرواية والمسرح وتصنيف إلي دراساته في هذا الجال‏,‏ وبعد أن ظهرت أجيال جديدة من المبدعين‏,‏ واتسعت طرائق التعبير‏,‏ واختلطت معايير القول‏,‏ لكن ناقدنا الكبير فاجأ هؤلاء الكثيرين بعزوفه التام عن الكتابة التي يتوقعونها منه‏,‏ فقد آثر ــ وهو يتعامل مع قراء منبر واسع الانتشار كالأهرام ــ موقف المفكر لا الناقد‏,‏ المفكر الذي تشغله قضايا التعليم والشباب والتربية والدراما التليفزيونية‏,‏ والهموم الوطنية والقومية‏,‏ أكثر مما تعنيه الكتابة عن مجموعة شعرية أو رواية‏,‏ أو أي عمل أدبي يتطلب نقدا وتقويما ومتابعة‏.‏

هكذا أتيح لقرائه ــ وأنا أحدهم ــ أن يروا في الدكتور عبد القادر القط ما لم يروه من قبل‏,‏ وجه المربي والكاتب الساخر الذي يعني بشئون الحياة اليومية والقضايا التي تشغل الناس في لقاءاتهم ومجالسهم‏,‏ ويحرص جهده علي أن يكون قريبا من هذه الشواغل والاهتمامات‏,‏ بعيدا عن صورة الناقد الاكاديمي التي لا تلائم طبيعة قراء الأهرام‏,‏ وميولهم العامة غير المتخصصة‏,‏ هكذا كان يحرص دوما علي أن يوضح موقفه في كتاباته كلما سأله سائل‏.‏
وعندما جمع ناقدنا الكبير بعض هذه الكتابات في كتابه الجميل ــ الذي يعد آخر ما أصدره من كتب ــ وهو‏:‏ أربعون صباحا أدرك قارئ الكتاب أن هناك وجوها ظلت زمنا طويلا غير مكتشفة في الدكتور عبد القادر القط‏,‏ حتي جاءت كتاباته في الأهرام‏,‏ فنزعت القناع عن فصول من سيرته الذاتية في مرحلتي النشأة الأولي والتكوين ثم البعثة والعمل الجامعي‏,‏ وعن ذكريات حميمة ــ لاتزال حية في وجدانه ــ مرتبطة بعالم القرية وشخصياتها الحميمة التي تركت تأثيرها فيه‏,‏ وفي قصائده‏,‏ كان يحلو له كثيرا أن يعود إليها بين الحين والحين‏,‏ وكانت هذه الذكريات من الحيوية والحرارة والعمق‏,‏ بحيث جعلته يعود إلي الشعر ــ بعد نصف قرن من وداعه ــ ليكتب قصائد جميلة بالعامية ــ وهنا مصدر الدهشة والغرابة ــ لا بالفصحي التي ابداع بها ديوانه الشعري الوحيد ذكريات شباب الذي قدمه للقارئ علي استحياء في طبعته الأولي قائلا‏:‏ كان من حق هذه القصائد أن تنشر منذ خمسة عشر عاما‏,‏ فقد نظمتها بين عامي‏1943,1941‏ ثم سافرت إلي الخارج قبل أن يتاح لي نشرها في ديوان كامل‏,‏ فلما عدت بعد خمس سنين كان قد طرأ علي إدراكي للحياة تحول كبير جعلني أحس بشئ غير قليل من الغربة نحو ما تضمنته
قصائدي من عواطف‏,‏ لم اعد قادرا علي الشعور بمثل ما فيها من حدة وقوة انفعال‏.‏
ولكني مع ذلك لم أفقد رضائي عنها من حيث تعبيرها ونجاحها في تصوير تلك العواطف الجياشة التي كانت تمتلأ علي صباي‏,‏ ولم استطع أن أقطع بيني وبينها تلك الصلة النفسية الوثيقة التي تقوم دائما بين الأديب وعمله‏,‏ ولا أن أفقد ما أحمل لها من حب‏,‏ وهي جزء عزيز من شبابي بقلقه وحيرته وعجزي وقوته‏.‏

وحين أسندت مؤسسة الباسطين إلي ناقدنا الكبير مهمة إعداد الجزء الخاص بالشعر المصري في إطار مشروعها مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين وكتابة المدخل النقدي لهذا الجزء‏,‏ كان جميلا أن يلتفت الدكتور القط إلي قصيدة بعينها من بين قصائد ديوانه ذكريات شباب ليضعها ضمن هذه المختارات وهي قصيدة بعد عامين التي أعتبرها نموذجا لشعره الرومانسي‏,‏ يقول فيها‏:‏

منذ عامين ها هنا كم وقفنا
تتساقي بشجوها الأبصار
وبلونا من حبنا نبضات
لم تدنس جلالها الافكار
خالصات لحسنا دافقات
بوجود يخيفنا فنحار
كم ركنا إلي الفرار فنادانا
إلي لفحة الحبيب أوار
ونظرنا إلي السفوح بشوق
فدعتنا للقمة الأخطار
منذ عامين ها هنا كم تراءت
لصبانا علي الدجي انوار
فنفضنا قلوبنا من أساها
وازدهتنا بلحنها الأوتار
لم تكن غير أمنيات ولكن
كم اتيحت في ظلها أوطار
وسمونا بسحرها ورؤاها
لحياة تقضها الاسمار‏!‏

وتصدرت هذه المختارات الترجمة التي كتبها ناقدنا الكبير لنفسه علي هذه الصورة‏:‏ من مواليد عام‏1916‏ تخرج في كلية الآداب‏,‏ جامعة القاهرة‏1938‏ نال درجة الدكتوراه من جامعة لندن‏1950‏ عمل أمينا بمكتبة جامعة فؤاد الأول‏(‏ القاهرة‏)1939‏ ــ‏1945,‏ فعضوا بهيئة التدريس بكلية الآداب جامعة إبراهيم‏(‏ عين شمس‏)1950,‏ وتدرج في الوظائف الجامعية حتي رئيس قسم اللغة العربية‏1961‏ ــ‏1972,‏ وعين عميدا بكلية الآداب‏1972‏ ــ‏1973.‏
وأعير إلي جامعة بيروت العربية‏1974‏ ــ‏1979‏ ويعمل الآن استاذا متفرغا بكلية الآداب جامعة عين شمس‏.‏

رأس تحرير مجلات الشعر‏1964‏ ــ‏1965‏ والمسرح‏1967‏ ــ‏1968‏ ــ والمجلة‏1970‏ ــ‏1973,‏ وإبداع‏1983‏ ــ‏1991‏ وهو عضو في مجلس إدارة جمعية الأدباء والجمعية الادبية المصرية‏,‏ واتحاد الكتاب‏,‏ والمجلس الأعلي للثقافة‏.‏
حصل علي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولي‏,‏ وجائزة الملك فيصل العالمية‏1980‏ وجائزة الدولة التقديرية في الأدب‏1984(‏ ونضيف الآن جائزة مبارك في الآداب‏2002).‏

من مؤلفاته‏:‏ مفهوم الشعر عند العرب‏(‏ وهو موضوع رسالته للدكتوراه‏)‏ في الأدب المصري المعاصر‏,‏ في الأدب العربي الحديث‏,‏ في الشعر الإسلامي والأموي‏,‏ الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر‏,‏ الكلمة والصورة‏.‏
ونضيف الآن أربعون ربيعا الذي صدر بعد كتابته لهذه الترجمة الذاتية‏.‏

ــ ترحم عددا من الأعمال المسرحية والقصصية والروائية لشكسبير مرتنيسي وليامز وريتشارد سون وثورنتون وايلدر وبوشكين‏.‏
أتيح لي التعرف علي الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط في مستهل حياتي الإذاعية ــ قرب نهاية الخمسينيات ــ عندما بدأت في تقديم برنامج مع النقاد من إذاعة البرنامج الثاني‏(‏ الثقافي الآن‏)‏ بعد انتقال صاحبته الإذاعية والإعلامية الرائدة الأستاذة سميرة الكيلاني للعمل بالتليفزيون ضمن الكوكبة الأولي من المؤسسين الكبار واكتشفت علي الفور ما يتمتع به الدكتور القط من دماثة نادرة‏,‏ وخلق رضي سمح‏,‏ ولسان عف‏,‏ والتزام جاد‏,‏ وعلي مدار أكثر من مائة وخمسين حلقة قدمتها من البرنامج طيلة عدة سنوات‏,‏ كان الدكتور القط ضيفا في معظمها‏,‏ خاصة في الحلقات التي تتناول أعمالا شعرية‏,‏ وسرعان ما بدأ منهج الدكتور القط في التعامل مع النصوص الشعرية والنفاذ إلي جوهر بينها وتشكيلها وعالمها من الصور والرموز والدلالات والايحاءات يتضح ويصبح كاشفا عن حسه النقدي العميق وقدرته الفذة علي تذوق النصوص الشعرية وتأملها‏,‏ متكئا إلي شاعريته وثقافيته التراثية والعصرية وخبرة الطويلة وتمرسه بالشعر العربي‏,‏ وهو الذي عالج في رسالته للدكتوراه مفهوم الشعر عند العرب‏,‏ خاصة أنه نجا من الوقوع في شرك الايديولوجيا التي قيدت حرية نقاد آخرين‏,‏ وسرعان ما أصبح
الدكتور القط نجم الندوات والحوارات النقدية في كل مكان‏,‏ في الجمعيات والمؤتمرات والملتقيات‏,‏ خاصة أنه كان يفضل هذه الصيغة الشفاهية في التعامل مع النصوص الادبية أكثر من الكتابة عنها‏,‏ ولو أن ما قاله عبر مئات الحلقات والمناقشات النقدية ــ يمر سنوات طويلة ــ جمع ونشر لكان له من ذلك كتب بالعشرات‏,‏ لكنه تبدد مع الاثير‏,‏ ولم يبق منه الا تلك الصورة الحميمة لناقدنا الكبير‏,‏ وهو يحنو ويهتم‏,‏ ويشارك ويقدم عشرات الأسماء من مختلف الأجيال‏,‏ يأخذ بأيديهم ويفسح لهم في مجالات النشر والحياة‏,‏ ويدعمهم أدبيا وماديا‏,‏ حتي وإن تعرض لعقوق بعضهم وتنكرهم لأبوته الروحية واستاذيته‏,‏ دون أن يخلف هذا العقوق في نفسه مرارة تذكر‏,‏ أو يصرفه عن دوره المعتاد‏,‏ منذ انتصاره لحركة الشعر الجديد وحفاوته بأجيالها المتتابعة وصولا إلي أصحاب قصيدة النثر‏.‏
مؤثرا ألا يكون في موقف القطيعة المعرفية أو النقدية عن أي إبداع جديد‏,‏ مدركا أن دوره باستمرار واستاذيته تفرضان عليه موقف الابوه والرعاية والتوجيه في حنو ورفق‏,‏ منتبها وسعه إلي العثرات والأخطاء والميل والإنحراف والزلل‏,‏ في لغة أدبية راقية‏,‏ وترفع عن الدنايا والصغائر‏.‏

ثم ازدادت معرفتي بالدكتور عبد القادر القط من خلال الجلسات الحميمة للجمعية الادبية المصرية‏,‏ لسنوات طويلة متصلة‏,‏ ونجومها من المبدعين الكبار‏:‏ صلاح عبد الصور وشكري عياد وأحمد كمال زكي وعز الدين إسماعيل وعبد الرحمن فهمي وعبد الغفار مكاوي يلتفون حول قطبها ونارها الدائمة التوهج والاشتعال فاروق خورشيد‏,‏ ويرون جميعا في الدكتور عبد القادر القط الناقد الكبير والإنسان الجميل والاستاذ المتحضر والصديق الحميم‏.‏
وكان غرام الدكتور القط بالشطرنج ثم بكرة القدم تجسيدا حيا لحسه الدرامي ــ علي مستوي مشاركة الأصدقاء والرفاق جلسات السمر والمؤانسة‏,‏ خاصة بعد رحيل صديقه الحميم الناقد الكبير أنور المعداوي‏,‏ وارتباطه العميق بالجمعية الادبية المصرية في لقاءاتها كل ثلاثاء‏,‏ ثم في ندوته الاسبوعية صباح كل جمعة في مصر الجديدة طيلة سنواته الأخيرة‏.‏
وعندما بدأ الجدل يثوار من حول المقولة التي سعدت بها الصحافة الادبية ورأت فيها دفعا لمناخ الركود والأسن‏,‏ وهي أن الرواية قد أصبحت ديوان العرب‏,‏ وتحمس البعض للشعر ــ باعتباره فن العربية الأول وديوانها المستمر عبر العصور ــ كانت مشاركة الدكتور القط الطريفة في هذا السجال بالإشارة إلي أن الدراما التليفزيونية ــ وليس الشعر أو الرواية ــ هي ديوان العرب الآن‏,‏ ولم يكن هذا الرأي من قبيل المفاجأة أو المصادفة‏,‏ بعد أن كان التفات الدكتور القط واهتمامه بهذا الفن الادبي الجديد ــ كما سمناه ــ قد تجلي في مقالات عدة علي صفحات الأهرام قبل أن يكون من كتابها الدائمين‏,‏ وكان الدكتور القط سعيدا كل السعادة بالاثر الذي تتركه هذه المقالات في نفوس من يصادفهم‏,‏ وفي كثير من القراء‏,‏ فهو يكتب عن مسلسلات شغلت الناس واثارت اهتمامهم علي مدار أيام واسابيع متصلة‏,‏ وبقي أن يقرأوا تحليله النقدي للنص وطريقه وتصوير الشخصيات وإخراج الحلقات وصولا إلي أدق التفاصيل التي تتصل بالحركة والملابس واللغة والديكور والإضاءة وغيرها‏,‏ وهو ما يضع ناقدنا الكبير في موقف الريادة بالنسبة للنقد التليفزيوني‏,‏ الذي اهتم بمتابعة المسلسلات الدرامية بوجه خاص‏.‏
وفي كتابه البديع الكلمة والصورة رؤية متكاملة تكشف عن وعيه النقدي العميق وأفقه الإنساني الرحب وبصيرته النافذة وعدسته اللاقطة‏,‏ ولعل كثيرين لا يعرفون أن الدكتور القط كان في مقدمة مستشاري الإنتاج الدرامي التليفزيوني الذي يعهد إليهم بقراءة النصوص وتقويمها والحكم علي صلاحيتها قبل اعتمادها للتنفيذ‏.‏
وكثيرا ما كانت له نظراته وآراؤه التي تعدل‏,‏ وتغير وتلغي وتعترض علي كثير من هذه النصوص‏,‏ والتي كان يؤخذ بها دائما من منطلق الثقة الكاملة في ناقدنا الكبير وفي نظراته الموضوعية الصائبة‏.‏

وفي لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة‏,‏ ثم في مجمع اللغة العربية‏,‏ كان التتويج الجميل لهذه العلاقة الحميمة التي ربطتني بالدكتور القط منذ نهاية الخمسينيات‏,‏ ومطالع الستينيات حتي الأيام الأخيرة قبل رحيله‏,‏ كان مجلسي دائما في المجمع إلي جواره‏,‏ ويأبي حسه الدرامي المرهف إلا أن يعلق علي ما يدور من حوار ومداخلات‏,‏ يتقاطع بعضها احيانا بسبب ضعف السمع‏,‏ فيهمس لي‏:‏ لقد بدأت الكوميديا السوداء‏.‏ وتظل لغة الدراما هي المسيطرة علي كل تعليقاته الطريفة والساخرة‏,‏ ويبدو أنه ــ وهو الفنان في جوهره ــ لم يكن يتسيغ كثيرا مما يستمع إليه‏,‏ أو ما يتطرق إليه الجدل والنقاش‏,‏ وكان حين يضيق صدره‏,‏ يتخلف عن جلسات المجمع جلسة أو جلستين‏,‏ ثم يعود فيفاجئه أن الكوميديا السوداء لاتزال‏,‏ وأن ما يؤمله ــ كما عبر عدة مرات من عكوف علي القضايا والمشكلات الخاصة باللغة العربية‏,‏ والاهتمام بها أكثر من الاهتمام الطاغي بمصطلحات العلوم لم يتحقق‏,‏ بل علي العكس‏,‏ يفاجأ دوما بكثرة المتحمسين للنهج الذي يعترض هو عليه ويريد تغييره ــ فيصمت مستسلما مبتلعا حسرته وحزنه الشفيف‏.‏
سنظـل نذكر عبد القادر القط كثيرا بعد رحيله ونفتقد فيه أكبر ناقد معاصر اختص الإبداع الشعري بالنصيب الأوفي من كتاباته واهتمامه وتمتع بحس أدبي وذوق نقدي لا يقاربه فيهما احد‏,‏ وإنسانا جميلا كان وجوده الإنساني نسمة ندية وخلقا سمحا ولغة عفة‏,‏ واستاذا حنا علي تلاميذه ــ من مختلف الاجيال ــ ومنحهم من نفسه ومن جهده ومن علمه الكثير‏.‏

نذكره مع من نذكرهم من نقادها الكبار الذين سبقوه إلي عالم الخلود‏:‏ محمد مندور وغنيمي هلال وعلي الراعي وشكري عياد‏,‏ الذين آمنوا بالحرف العربي‏,‏ ولم يتنكروا للثقافة العربية‏,‏ فمنحهم الإبداع العربي مكنون أسراره وهم بنفذون إليها في ضوء ثقافتهم العصرية‏,‏ ورؤيتهم الإنسانية الموضوعية الشاملة‏.‏
نذكره دوما ونذكرهم‏,‏ فقد كانوا بعض منارات الزمن الجميل‏!‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى