ميلى يا مومو - موت المؤلف في المسرح بعد الحداثي.. ترجمة: أحمد عبد الفتاح

أود أن أبدأ بتمييز مسرح ما بعد الحداثة من خلال التصنيفات السابقة: "الدراما الكلاسيكية" والدراما الحديثة" فالدراما الكلاسيكية تتميز بالقيمة المتضمنة في الحبكة والالتزام بالمبادئ الارسطية في الوحدة الدرامية. ولاحظنا في القرن التاسع عشر أيضا كيف أدخلت فلسفة هيجل حركة الانسان / الشخصية الى مقدمة الفن الدرامي ودراما الشخصيات في أعمال "إبسن" و"ستراندبرج" و"تشيكوف" وراينا كيف وصلت المحاكاة الارسطية الى أوجها في المذهب الطبيعي عندما تأثرت عروض المسرح الحديث بأفكار "تشارلز داروين" ويلاحظ "ريموند ويليامز" الدقة التي وصلت اليها التراجيديا في الدراما الحديثة، حيث أبرزت مأزق الوجود الإنساني المستلب فى العالم المتقدم صناعياً وتكنولوجياً فهو يرى أن مسرحيات "صامويل بيكيت، التراجيكوميدية تمثل اختزان وحط من قيمة الانسان في دراما عبثية جديدة.

وترى "إليانور فوش" أننا نشاهد في مسرح ما بعد الحداثة "موت الشخصية" وموت المؤلف المسرحي" وأقر "ميشيل فوكوة" بموت الانسان ونادى "فرانسوا ليوتار" بانهيار ما وراء السرديات وبانهيار البنيات الحداثية، نجد ان النزعة الانتقائية هي التي تميز ما بعد الحداثة الان. ولكن على العكس من مفهوم "فريدريك جيمسون" الذى يقول بالنزعة الاستهلاكية الجماعية المفرطة للرأسمالية متعددة الجنسيات، فان المسرح بعد الحداثي يشتق نظريته النقدية من الرؤى بعد البنيوية حول السيميوطيقا.

وفى هذا العرض يزعم "بويرون أن الحقيقة يمكن أن تكون متاحة من خلال عالم الايهام، إذ أنه من خلال "المسرحة" فقط يمكن أن تتجلى الحقيقة. فالمسرح يعبر عن الحقيقة من خلال استخدام تقاليد مصطنعة. واشار ايضا الى ان الحقائق المقدمة يمكن ان تكون ملائمة من خلال نفس التقاليد المسرحية والدرامية التى تستخدم كوسيط للتعبير عن الحقائق من الممكن ان تكون هذه الحقائق ضرورية. وانه من خلال الحدود ووسائل التعريف المرتبطة، يمكن ان تتبلور الحقائق المعبر عنها.

إن تفسير "ويليامز" و "بويرو" هو تأكيد عميق للمفهوم البنيوى وبعد البنيوى فى تعرية اللغة وانساق العلامة والشفرات. ورغم أن هذا المفهوم متأصل في تقاليد المسرح الكلاسيكي والمسرح الحديث فان هذا الادراك بعد الحداثي هو ما تسميه "ليندا هاتشون" الطبيعة الاسيتطاية لمسرح ما بعد الحداثة.

ومع انهيار اللغة العامة فان مسرح ما بعد الحداثة ليس إلا استفزاز لتأمل السياقات التاريخية والثقافية للغة لكى يصوغ نفسه، ويمكن رؤية نفس السمة في الفنون الأخرى أيضا. فصمموا الرقصات بعد الحداثية قاموا بتصميم رقصات تدور حول فن الرقص نفسه، وتساءلوا عن الأصل الفعلي لمفردات الحركة التي تولد الرقص أثناء المشي والقفز .. إلخ. وقد صدق هذا أيضا في التجريب في مختلف أساليب الرقص التي نراها في المزيج الذى تقدمه "تويلا تارب" الذى تمزج فيه بين الجاز والباليه وأساليب قاعات الرقص وقد تجلى هذا في رقصات "آجنس لوسين" و"آليس ريس" اللتان مزجتا بين الجاز والباليه وحركات الرقص الشعبي الفليبينى.

ويرى المعماريون بعد الحداثيين تاريخ العمارة باعتباره مصدرا متنوعا للعلامات التى يمكن أن تمتزج فيما بينها، ولذلك نجدهم يضعون الأعمدة اليونانية الكلاسيكية والزخارف والمواد الصناعية الجديدة بجوار بعضها البعض بشكل انتقائي في تصميم البناء الواحد.

ويرى المسرح بعد الحداثي مختلف التقاليد الثقافية والتاريخية باعتبارها مصدرا هاما للعلامات ويصف "كان" كيف ترى ما بعد الحداثة التاريخ باعتباره مخزن للعلامات المتاحة للممارسة المسرحية بعد الحداثية.

ففى أحداث عروض "هاملت" فى سنغافورة، يتم تقديم هاملت باعتبار انه ممثل في مسرح "النو" اليابانى، وتقدم "أوفيليا" باعتبارها راقصة من جزيرة "بالى" وفى احداث العروض الموسيقية للمخرج "دولانج هابى" يتم تقديم احد المشاهدين الى عوالم غير مترابطة في الملاهي الليلية وحفلات موسيقى الروك، والأغاني الشعبية بأسلوب برودواى، مع استخدام اساليب التمثيل والملابس وتصميم العرض والموسيقى والعناصر الاخرى المأخوذة من مختلف السياقات.

ومع انهيار الحدود الحداثية يستخدم المسرح بعد الحداثي الجماعية والتعددية فى أسلوب تناول العملية المسرحية ككل، وقد انعكس هذا في مختلف أساليب تناول العرض المسرحي علاوة على وجود ممارسة أخرى هامة في المسرح بعد الحداثي هي الاستخدام "بين النص inter text" أو ما يسميه "فريدريك جيمسون" (ثقافة المقاطع)، حيث يمكن استخدام عدة نصوص للتعليق على بعضها البعض، كما فى حالة عرض "روميو وجولييت" حيث تنتهى المسرحية بمونولوج يؤديه "بوك" من مسرحية "حلم ليلة صيف" وعرض "ل.س.د" لفرقة "ووستر جروب" التي استخدمت فيه مسرحية "البوتقة" لأرثر ميللر للتعليق على الاحداث.

وفى العرض الموسيقى لمسرحية "نيك بنشاى" بعنوان "أوياى أولان" حيث تشكو الشخصية الرئيسية من تراكم القمامة، ويشير الى أن أسوأ أنواع القمامة هو الشعر الذى يقدمه الشعراء بعد الحداثيين الجدد ومن بينهم "بتشاى" نفسه.

الأوبرا والسيمفونية من ابتكار الحداثة!

ومع انهيار مماثل لمفهوم تتابع الأحداث الأرسطي والمفهوم الهيجلى "السبب والنتيجة" اللذان ينتميان إلى الحداثة، نجد أن المسرح بعد الحداثى يتميز بتعدد الأبعاد والآنية. والمثال المبسط لذلك هو مسرحية "إيرين فورنز" لافيفو وأصدقائها" حيث يتم تقسيم المشاهدين إلى مجموعات لمتابعة مشاهد المسرحية التي تحدث في عدة أماكن مختلفة. ومشهد الشاطئ في عرض "سكاهاريان" حيث يتلاقى الماضي والحاضر في نفس المكان على خشبة المسرح .. إذ نرى ممثل يقوم بصيد السمك بينما يلهو آخر بمظلة المطر .. وعلى الجانب الآخر يجلس باقي الممثلين على كراسي في انتظار أدوارهم.

وهنا لا يمكن رؤية تعدد الأبعاد والآنية في الكيفية التي يتم بها ترتيب الحبكة، فالممثلون يؤدون الشخصيات بمختلف أبعاد الأداء والتمثيل في نفس المكان والزمان.

وعلى الرغم من استعداد الممثل لأداء الشخصية التي يجسدها فإنه يجلس على كرسي جانبا في انتظار أن يأتي دوره ثم يقوم بتجسيد كل من ذاته كممثل والشخصية التي يلعبها.

فهو موجود باعتباره ممثل وشخصية في المسرحية في نفس الوقت ولكن على مستويات وأبعاد مختلفة، ولذلك فهو موجود بدنياً وآنياً على خشبة المسرح.

ولأن "إليانور فوش" ترى أن المسرح بعد الحداثي يتسم باستبعاد كل من الشخصية والحبكة، فإنها تلاحظ أن العناصر الأخرى يتم استخدامها بشكل متساو فهي ترى أن كل عنصر دلالي – الإضاءة وتصميم المشاهد والموسيقى .. إلخ، بالإضافة إلى الحبكة والشخصية – تقدم بشكل مستقل على نحو ما مثل الممثل . وأشارت إلى أن العناصر الأرسطية قد ظلت موجودة ، ولكن يتوقف تسلسلها الكلاسيكي والبنيوي الحديث على استخدامها.

وهذا التوجه الجديد في العرض قد اشتق جذوره من المسرح البريختى الملحمي، إذ يقول "بريخت" "اليوم نرى المسرح وهو يعطى أولوية مطلقة للقصص الحقيقية" إن أولوية أداة المسرح هي أولوية وسيلة الإنتاج.

فالمسرح يمكن أن يعرض كل شيء .. إنه يمسرح. ولأن المسرح بعد الحداثي يرى موت الكاتب المسرحي، فإن المخرج الآن يلعب الدور المركزي كمنظر مسئول عن إبداع لغة العرض.

ويتميز المسرح بعد الحداثي أيضاً عن المسرح الحداثي بصيغة إنتاجه.

فالثورة الصناعية وفكرة الإنتاج الضخم، وتقسيم العمل، قد أثرت في إنتاج المسرح والموسيقى أيضاً، فالأوبرا والسيمفونية على سبيل المثال هما من ابتكار الحداثة المصابة بجنون العظمة. ففي القرن الثامن عشر استولت السيمفونية على صوت الحداثة إذا يتم إنتاج الموسيقى بواسطة مجموعة كبيرة من الموسيقيين الذين يقسمون إلى مجموعات أما الأوبرا وهى أكبر إبداع حداثي فإن إنتاجها يحتاج مجموعة من العمال والفنانين الذين يعملون ضمن جماعة كبيرة تتضمن الأوركسترا والمغنيين والراقصين وصانعي الملابس والنجارين .. ألخ. وفى الوقت الذى تؤدى فيه الموسيقى فى القاعات والغرف نجد أن الأوبرا والسيمفونية تعرضان في دور الأوبرا الكبيرة ويرتادها آلاف المتفرجين.

هذا النموذج الجديد في الانتاج المسرحي يدعو إلى توجه جديد من المشاهدين أيضا فالتطهير الأرسطي يصل إلى أقصى درجات غموضه في المسرح بعد الحداثي وتعتمد التجربة الجمالية على صناعة المعنى لأن التجربة الجمالية التي تتجلى فى العملية بعد الحداثية هي أقرب ما يكون إلى التسامي الكائنى وبعكس دراما أرسطو التطهيرية التي تخضع متلقيها الى توجه مؤكد نحو الإيهام التمثيلي للدراما الكلاسيكية والدراما الحديثة يقرن "كانت" أن المسافة ضرورية من أجل تحقيق المتعة والإشباع الجمالي ويقترح "بريخت" في المقابل "رؤية مركبة" في المسرح .. وهى رؤية لابد ممارستها لأن تأصل ما وراء تدفق المسرحية أهم بكثير من التأمل داخل تدفق المسرحية.



المصدر/ جريدة مسرحنا


موت المؤلف في المسرح بعد الحداثي!! « موقع الكاتب والفنان المسرحي محسن النصار

تعليقات

أعلى