عبد العال الباقورى - أستاذي أحمد الوكيل..

تختزنهم الذاكرة واحدًا واحدًا، وأكاد في هذه اللحظة أتحسس أثر كل منهم في تكوين وإثراء هذه الذاكرة.

إنهم أساتذتي الأوائل في سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، وسبق ذلك سنتان في مدرسة نزلة باقور "الإلزامية"، وكان التعليم الإلزامي أربع سنوات، وكانت في الجيل الذي سبقنا وربما الذي قبله تعتبر "شهادة" تؤهل حاملها للقب أفندي.

وكان أكثر متعلمي الأرياف في ذلك الوقت من حملة هذه الشهادة، وشهادة "الكفاءة" أو كفاءة التعليم، هذا بالطبع إلى جانب التعليم الأزهري .. وبعد سنة في المدرسة الإلزامية انتقلت إلى مدرسة "أبونا عمّار" التي كانت المعهد الأول الذي تعلمت فيه التسامح أو إن شئت فقل "التآخي الديني"، في هذه المدرسة كان للخواجة شفيق الدور الأكبر في تعليمي مبادئ القراءة والكتابة. وكان شخصية فقيرة، لا تفارقه السيجارة، ولا يكف طوال اليوم عن التعليم سواء في المدرسة أو في خارجها.

وأظن أن النسبة الأكبر من أبناء جيلي في "باقور" و"نزلة باقور" تبعد كل منهما عن الأخرى حوالي الكيلو متر، وقد اندمجتا حاليا تقريبًا، ولا يكاد يفصل بينهما في بعض أجزائهما سوى شريط السكة الحديد و"طريق القاهرة" أو طريق القاهرة – أسوان الزراعي، قد تعلموا على يديه، ويشاركه في هذا الدور وربما يتفوق عليه أستاذنا "الشيخ عثمان قرضه" شيخ الكتاب .. وهو شيخ يختلف كثيرًا وربما جذريًا عن الشيخ الذي حدثنا عنه الأستاذ العميد الدكتور طه حسين في "الأيام".

الخواجة شفيق والشيخ عثمان لكل منهما صفحة خاصة في دفتر الذكريات الذي يروي كيف نما التعليم في قرية مصرية منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين وفي ظل ثورة يوليو المجيدة .

وفي هذا الدفتر تتزامن شخصيات معلمين آخرين، مثل الشيخ أحمد العمري والشيخ عبد الرحيم فراج والشيخ عبد الرحيم غلاب والشيخ أحمد محمد عنتر والشيخ محمود محمد موسى (جدي من ناحية الأم) وكان هؤلاء جميعًا من أساتذة اللغة العربية، بعضهم شرفت بالتلقي منهم مباشرة، وآخرين تولوني بالعناية والتوجيه والتشجيع.


الشيخ
أحمد حسن الباقورى
وكان الشيخ أحمد عنتر هو الذي أطلق علي بشكل خاص لقب "الباقوري" مع أن جميع تلاميذه في المدرسة الابتدائية من القرية نفسها أي باقور أو من نزلة الباقوري مثلي، وكان ذلك تيمنًا بلقب الأستاذ الكبير أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف حينئذ، وكان الشيخ عنتر يتوسم أني سأكون مثل الشيخ الباقوري الكبير.

وخلال تلك السنوات تعدل ترتيب سنوات التعليم فأصبح التعليم الابتدائي ست سنوات والإعدادية ثلاث سنوات، ولذلك انتقلت إلى مدرسة الأقباط الإعدادية وأنا في السنة الثانية، وهذه المدرسة واحدة من أقدم المدارس "الحديثة" في صعيد مصر، وربما أنشأتها الإرسالية الأمريكية، ولم أعد أذكر الاسم الذي حملته في البداية، ولذلك كان مبناها عريقًا.

أما عن المكتبة فحدث ولا حرج، سواء من حيث "دواليب" الكتب، ومقاعد القراءة، أو من حيث ثروتها من الكتب والموسوعات. ولذلك كان لأساتذتها أكبر الأثر في تكوين المرء وتثقيفه وتوجيهه وترشيد قراءته، والأخذ بيده إلى عالم الصحافة والكتابة .. أي والله عالم الصحافة والكتابة مرة واحدة، وكان هذا على يدي أستاذ لا أنساه ما حييت هو الأستاذ أحمد عبد الحليم الوكيل. كيف كان ذلك؟

قبل الدخول في تفصيلات جواب هذا السؤال، أريد العودة إلى البدايات الأولى لقراءة الصحف، وكيف كانت الصحف في ذلك الوقت تصل إلى قرى غير نائية في صعيد مصر.

كان الشيخ عبد الرحيم فراج من أول من رأيتهم يحرصون على قراءة الصحف بشكل يومي، وكان أحيانًا ينتظر وصول البائع، بل يبادر بإرسال من يحضر له صحيفته المفضلة من محطة القطار، حيث كان قطار الصحافة يصل إلى هذه المحطة حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًا.

وكان بعض الذين في سنوات وفي سلم التعليم يفعلون هذا أيضا، خاصة في أيام الأجازة الصيفية.

وإلى جانب هذا كان "الخواجة راتب" يحمل "ربطة الصحف" ويدور بها على زبائنه المعروفين، وربما المعدودين أيضًا، وكان يقوم بجولة ما بين أبو تيح وأسيوط، عبر القطار، ولكنه يطوف بقرى باقور، ونزلة باقور والمطيعة مشيًا على قدميه إلا إذا وجد من يشفق عليه ويحمله معه في سيارته، ما بين نزلة باقور والمطيعة، وربما كان توزيعه في المطيعة أكبر من توزيعه في باقور ونزلة باقور معًا.

وظل يفعل هذا بشكل يومي وبانتظام إلى أن تقدم به العمر، فبدأ يعتمد على صبي يدعى "بسيوني" الذي ظل يمارس هذه المهنة على مدى نصف قرن أو أكثر، فقد رحل عن دنيانا أخيرًا، بعد أن انفرد بممارسة توزيع الصحف في القرى الثلاث بعد رحيل معلمه ... وقد أورث المعلم بسيوني هذه المهنة إلى أحد أبنائه.

ولو جاز للمرء أن يقول "هؤلاء ثقفوني" لوضع الخواجة راتب بينهم، كان رحمه الله يجيد صنعته، ويعرف أصول مهنته، هذه آخر نسخة من رواية الأستاذ إحسان عبد القدوس الجديدة، لقد حجزها فلان (ويذكر أحد الذين يشاركونني الاهتمام بالقراءة) ولكن بما أنك غالي عندي فإني أعطيها لك، ثم أدبر له نسخة, ويسأل : هل ستريد العدد الجديد من "الكتاب الذهبي" أو "كتب للجميع" أو "كتاب الهلال"، فهذا العدد فيه رواية للأستاذ أمين يوسف أو غراب، أو كتاب جديد للأستاذ فتحي رضوان .. أما "الرسالة الجديدة" فقد يتأخر وصولها. كيف ومن أين عرف؟! ليس مجرد "بياع جرايد"، بل إنه يقرأ الجرائد حيث توزيع الصحف في ذلك الوقت، في الصعيد.

علمًا بأن الصعيد قد عرف الصحف الإقليمية في وقت مبكر قبل مدن الدلتا والقناة ... وهل كان أحمد الوكيل يعرف هذا حين دفع أبناء مدرسة إعدادية إلى إصدار صحيفة مطبوعة، صدر منها عددان؟

إذن نفتح صفحة أستاذ أحمد عبد الحليم الوكيل من البداية، ولن نقرأ اليوم سوى سطور منها .. في ذلك العام 1955، هبط على مدرسة الأقباط الإعدادية في "أبو تيح" ثلاثة من الأساتذة حديثي التخرج من كلية دار العلوم، كان الوكيل أحدهم والآخران _ ولا أنساهما بالطبع _ هما محمد ياسين وحامد عمارة.

ياه، دنيا. ما أبعد الزمن، ولكن ما أقرب الذكريات .. حقًا، الذكرى صدى السنين الباقي . من أين هذا الأستاذ؟ من المنوفية، في الوجه البحري، من قرية تدعى "ميت خلف" أظنها من أعمال شبين الكوم عاصمة المحافظة.

منذ أول حصة لم نشعر أنه يحس بغربة _ واحد من بحري _ طالع من الجامعة، جاي على الصعيد صرف.. فقد بدا سعيدًا بالتجربة، ومستبشرًا، فقد أقدم على مهمته في التدريس والتعليم بكل همة ونشاط وحب، وأخذ يعيد ويزيد في درس النحو بحيث لم يخرج تلميذ من الفصل إلا وقد استوعب الدرس.بسرعة.

استقطب الأستاذ تلاميذ التفوا من حوله وأحاطوا به، فوجدوه مدرسًا غير عادي في علمه وخلقه وفي حسن توجيهه لهم بابتسامة لا تفارقه حتى في أكثر المواقف إثارة للغضب .

وبسرعة بدأ ينشط خارج قاعة الدرس، وركز في نشاطه على جماعة الإذاعة والصحافة، وساعده في ذلك ناظر مدرسة من أنشط النظار الذين عرفتهم في سنوات دراستي، كان يدعى إيليا جرجس.

وعلى يدي أحمد الوكيل تحول طابور الصباح إلى حصة تثقيف، تتضمن نشرة أخبار، لا تقتصر على ما نسمعه من الراديو أو نقرأ في الصحف، بل يجب _ كما نبهنا _ أن نقدم أخبار "أبو تيح" بل وتوابعها ومعها أخبار المدرسة والمدارس الأخرى، بشرط أن تكون هذه الأخبار دقيقة وسريعة ومفيدة لمن يسمعها.

وفي الفسحة (كانت فسحة الغداء 45 دقيقة) كانت الإذاعة المدرسية تقدم برنامجًا متكاملا . يضعه التلاميذ ويقدمونه بأنفسهم، ودون أي تدخل مباشر من أستاذهم الذي ما لبث أن انتقل بهم من صحف الحائط إلى صحيفة مطبوعة صدرت في حجم "التابلويد" وكانت فيها أخبار ومقالات وحوارات وكاريكاتير .. وكنت رئيس تحريرها ولم يمنع صدور أعداد أخرى سوى نقص الإمكانيات المادية، فقد كان الأستاذ الوكيل يتكفل بجزء لا يستهان به من تكاليف طباعتها، وكذلك الأستاذ الناظر إيليا جرجس.

هل من هذا اليوم حلمت بالصحافة؟ ربما. ولكن دور أحمد الوكيل في حياتي يومئذ لم يقف عند هذا الحد، كان يتابع ما أقرأ، ويناقشني فيما قرأته ويوجهني لما يجب أن أقرأه.

ويومًا غضب مني بشدة، فقد وجدني أقرأ كتاب بعنوان "الأدب وفنونه"، لا أذكر اليوم مؤلفه، ولكن أذكر أنه قال لي: مثل هذا الكتاب نقرأه في مرحلة تالية، وعليك اليوم أن تقرأ ما لا يشتت اهتمامك.

وكانت "كراسة المكتبة" التي تعرف في ذلك الوقت لكل تلميذ – أداته لضبط قراءتي، وفي اليوم نفسه الذي غضب فيه، اتفق مع الأستاذ غبريال مشرف المدرسة على أن يضع في لوحة ناحية أسماء الكتب التي أستعيرها، وموعد استعارتها وموعد تقديمها.

وحينما غادرت مدرسة الأقباط إلى مدرسة الثانوية في "أبو تيح" مع نهاية العام الدراسي 1955-1956. قد بكى تلاميذه عند وداعه،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى