علي زعلة - الحذاء..

في متحف والرف ريتشاردز في مدينة كولون الألمانية الذي أقيم مؤخراً لتخليد أعمال الرسام الهولندي فان جوخ، تركز الحديث حول لوحته الأكثر صيتا وأهمية وهي لوحة «الحذاء» التي رسمها جوخ عام 1886 وتعد اليوم من أبرز وأكثر الأعمال خلودا في حياة الفنان الفقير.
اللوحة التي باتت اليوم مثار حديث المهتمين بالأدب والفن والفلسفة والنقد تجاوزت كونها مجرد لوحة عالمية لفنان لم تُبع له لوحة واحدة في حياته، لتكون محل دراسات متباينة تستقصي السر وراء تسيّد الحذاء وبطولية القدم.
ففي حين يرى البعض فيها رمزية لحياة العوز والإنهاك والتشرد التي عاشها جوخ، ذهب آخرون إلى أن الحذاء يرمز إلى الأرض وعلاقة الإنسان الفطرية بها، فيما قال كثيرون إن الحذاء بأربطته وفتحته العليا التي تقود إلى ظلامه واستغلال تدرجات الضوء والظل والألوان القاتمة، يصور إيحائيا وضمنيا عُقَد الإنسان وغموضه حتى في أبسط الأشياء وأكثرها استخداما في حياته كالحذاء.
مارتن هيدجر المفكر والفيلسوف الشهير، شاهد حذاء فان جوخ في إحدى صالات العرض الفنية، استثار الحذاء اهتمام الكبير هيدغر، وكتب عنه مقالة في كتابه المهم (أصل العمل الفني)!في إحدى روايات أجاثا كريستي تكتشف الآنسة ماربل أن السيدة المقتولة ماتت قبل ثلاثة أيام من الحادثة، وأن القاتلة تقمصت شخصيتها وارتدت نفس ملابسها، وقلدت مشيتها وطريقة تخاطبها وتعاطيها مع الناس لكنها نسيت أن ترتدي حذاء ثمينا لافتاً للنظر كما اعتادت تلك السيدة الأرستقراطية أن تفعل قبل موتها.
وفي الأدب العالمي الكلاسيكي، ظل حذاء سندريلا بطل الحكاية التي لا تمل، وبات رمزا لجمال المرأة وأنوثتها وإظهار مفاتنها عبر كل الأزمنة.
أما في التراث الدنماركي فنجد كارين في حكاية «الحذاء الأحمر» فتاة يتيمة تربت على يد عجوز ثرية وطيبة، وفي الكنيسة التي لها تقاليدها وهيبتها أصرت كارين على انتعال حذائها الأحمر والرقص به أمام الجميع، فما كان من الحذاء إلا أن أخذها في الرقص بعيدا بعيدا، حتى خرج بها عن المكان وسط محاولة الجميع مساعدتها في التخلص من الحذاء الذي عجزت هي نفسها عن التخلص منه، وجد الحذاء بعد ذلك ملقى على رمال الشاطئ، مفرغا من قدمي صاحبته الجميلتين.
يمثل الحذاء رمزا لدلالات وإسقاطات متناقضة وعديدة، تعكس أيديولوجيا الشعوب، وأنماط تفكيرهم وموروثاتهم المقدسة والتقاليد المحترمة أو الممتهنة؛ فالكعوب العالية كما يقول علماء النفس ترمز للكبرياء والسلطة والتسيد في حين توحي الأحذية الخفيفة الواطئة بالتعبير عن معاني التواضع أو ربما العبودية أحيانا في عصور مضت.
في ديننا الإسلامي تترك الأحذية خارج حدود المسجد لتجسد دلالة العبودية والخضوع أمام الوقار والتعظيم للخالق سبحانه، وفي المقابل فقد قرأت حديثا عن المصطفى عليه السلام يحث على الصلاة في الأحذية مخالفة لليهود.
في العصور القديمة، كانت الأحذية حصرا على سادة الناس وأثريائهم، ولذلك ارتبطت ولا زالت بأفكار الناس تجاه الثروة والغطرسة والمباهاة والغرور، إن لم يكن في اقتناء الحذاء بحد ذاته ففي التفنن في نوعيته وماركته وما يدفع لقاءه من ثمن.
هو رمز للحماية والصحة والراحة، وهو جزء من فلسفة الحياة الكبرى، فالخطوة تقود إلى النهاية، وأثر الحذاء يدل على وجهة صاحبه ومقصده، والمسير يرسم طريق الإنسان نحو ما يبحث عنه من خلود.
هناك جدليات قائمة ومفترضة وأخرى مؤكدة على ثنائية المقدس والمدنس فيما يخص القدم والحذاء، تكاد تتشارك فيها معظم الحضارات، تليدها وجديدها، سواء فيما يخص التقبيل أو الإهانة أو التعذيب أحيانا.
ففي بعض الحضارات المندثرة كانت القوانين تنص على أن الملكة المجحفة في حق شعبها تعاقب بالرقص في حذاء حديدي مسخّن حتى الموت.
في تراثنا وأدبنا العربي أيضاً يحضر الحذاء دالا ومدلولا على السياق الذي تعارف الناس به عليه، سواء كان ذلك في الشعر أو في أمثال الناس وحكاياتهم وأعرافهم.
فالفاشل يعود بخفي حنين، والعاشق يصف حبيبته بـ»حافية القدمين»، والفضول يذكرنا بقصة حذاء جحا والبخل بالحكاية الشهيرة عن التاجر البغدادي أبي القاسم الطنبوري وحذائه الذي فعل به الأفاعيل، وحتى في أيامنا الحاضرة لازال الناس يتذكرون بفخر وزهو قصة حذاء مرتضى الزيدي الذي أوشك أن يلطم وجه بوش الابن، إلى درجة أن سعوديا عرض مبلغ عشرة ملايين ريال ثمنا لهذا الحذاء العروبي!
لا يكاد يذكر الحذاء إلا متبعا بالجملة المألوفة سماعيا «وانت بكرامة» في إسقاط جلي على ما يرتبط به الحذاء من هوان وذلة ونجس.
السؤال الذي يعرض نفسه وسط هذه الدوامة الرملية هو: ماذا إن كان فان جوخ يرمز بالحذاء إلى عقل الإنسان؟
العقل الذي يبلى ويتفتت لفرط ما أنهكه التفكير والقلق. العقل الذي يدوس على رمضاء الحقائق وتنخسه أشواك الظنون وشظايا الحيرة ومخلفات الأرق؟ وهو عرضة لالتصاق ما يقع عليه به، وعرضة للاتساخ والغسيل أيضا.
العقل الذي يحل العقد ويربطها، يغوص في ظلام نفسه، يعتاش على كله من بعضه، ويحكّ أسئلته ببعضها.
العقل الذي حفته الأرقام والحقائق وتشابكت فيه المدخلات والمعطيات، ألا يكفيه شقاءً أنه لا يستبدل ولا يُركن في خزانة ليرتاح ولو مؤقتا؟ ولا تبطنه جوارب أو مراهم مضادة للتآكل أو الروائح الكريهة أو العفن؟
هل العقل يشبه الحذاء حقاً؟ وأي جلد منهما هو الأقوى والأكثر مراسا وقدرة على مقاومة الاحتكاك؟ هل هو من باب المفارقة أن يكون أحدهما في أعلى جسم الإنسان والآخر في أسفله؟ وهل يمكن أن يستبدل أحدهما مكان الآخر؟
من الذي قال «ما فائدة اتساع العالم إذا كان حذائي ضيقاً؟» ترى أي حذاء تقصد أنت يا جوخ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى