سعيدة عفيف - مَـسْـــخ

3c7469c3-4c84-42bd-8ac2-3b4d876b7137.jpg


"كم مرة رأيت الأفق دون الانتباه إلى جماله؟ كم مرة نظرت إلى السماء دون الانتباه إلى عمقها؟ كم مرة سمعت الأصوات من حولي دون أن أدرك أنها جزء من حياتي؟"
- باولو كويلو

بعد الظهيرة، وبالجهة الخلفية من البيت، تجلس السيدة غالية كما العادة، على كرسي خشبي، تحت المظلة التي تتوسط جنينتها المتواضعة، تمد يدها من حين إلى آخر على الطاولة، لتمسك بفنجان القهوة الذي ترشف منه رشفات متباعدة، ثم تعيده بعد ذلك من حيث أخذته.
تتأمل توهج الأعشاب تحت أشعة الشمس القوية، مستبقية نكهة القهوة اللذيذة بفمها، لتستشعر قوة مُرَكَّزِ طعمها تدغدغ قمة رأسها. فيما قسوة الأشعة تغلف مقلتيها بغلاف رقيق من الدمع، فتبدوان سابحتين إلى حيث لا شطئان ولا مرافئ.. تغلقهما بخفة لتفتحهما ثانية على تلك الوريدات مختلفة الألوان، والمتناثرة على طول حافة شريط أخضر، يحاذي ممشىً مُبلطا لا يتجاوز عرضه المترين، يفصل بين مكان جلوسها وما تبقى من أمتار مغروسة، تمتد إلى حيث يوجد الباب الحديدي ذو المصراع الواحد الذي يفضي مباشرة إلى الشارع...
وهي مستغرقة بين هذا المشهد وتماوجها الباطني، تنتزعها الأفكار من محيطها.. تشدها أحداث الرواية، ثم تتذكر...
في ذلك الزمن البعيد، تحديدا في القرن الخامس الميلادي، كان الراهب هِيبَا يصرخ آمرا عزازيل بأن يبعد عنه صوت الغواية، لكن عزازيل لا يلبث أن يجيبه، هذا ليس صوتي يا هِيبَا، إنه صدى روحك... لم يكن عزازيل سوى ذلك الأنا الآخر المحبوس داخل هِيبَا، لم يكن سوى صوت روحه التي تئن تحت وطء رحى التساؤلات الأبدية، والتي تولدت في ذهن البشر منذ الأزل، رحىً تدور دورات لا نهائية غير حافلة بالمكان والزمان. غير حافلة بالمعنى الجوهري للإنسان..
عزازيل منّا وفينا وإلينا.. عزازيل في أعماقنا كما الإله.. إنه صوتنا الآخر.. إن نحن أصخنا السمع جيدا...
وتستمر الحكاية في التداعي..
.. كان هِيبَا شاعرا طبيبا في جبّة راهب. وكانت روحه الشاعرة ممزقة بين أمور الدنيا والدين، بين إرضاء النزعات الإنسانية والإغراق والتوغل في الزهد عن كل ما هو دنيوي، تواقا إلى التحرر من صوت الجسد، طموحا إلى أن تتوثب روحه وتحلق بعيدا في سماوات الطمأنينة والمحبة الإلهية.. غير أن كلا من صراعات الخير والشر الأبدية، والتساؤلات ذات الطابع التشكيكي والتي لا يجد لها جوابا، واهتزاز إيمانه بين الفينة والأخرى، واشتهاءات الجسد النزقة المنفلتة من جميع النواميس، إلهية كانت أم وضعية، تدهمه وتباغته غالبا، بل وتنتصر عليه أحيانا، وتلقي به في أسراب عذابات لا تنتهي...
ويتهادى إليها صوت من الأعماق:
- لماذا تتذكرين كل هذا يا غالية؟
- لست أدري، نحن لا نهرب من أنفسنا إلا إليها.. والتاريخ، مادام يكرر نفسه، لَخير شاهد على ذلك. ثم قد يكون هذان الرجلان يوقظان في نفسي تذكر أحداث تلك الرواية..
- تقصدين أَرْ.. وَ نُو..
- ومن غيرهما؟ لا يوجد غيرهما..
- كلاهما يخطب وُدَّك، ويطمع في التقرب منك دون غيره..
- يعبثان ويَهدِران وقتهما فيما لا طائل منه..
- فيمَ؟
- في مخاطبة الودِّ. أجل، لا طائل من ذلك!
- وما العمل؟
- لا عمل. هل رأيتِ بأمِّ عينيك يوما جسدا حيّاً بلا روح؟ أو روحا تحيى خارج الجسد؟
- قد تكون للأرواح أطياف مثل ما نسمعه في الحكايات والأساطير، لكن بمعنى اقتران الروح بالجسد، فلا يمكن ذلك أبدا..
- هما كذلك.. شيء من حكاية الراهب ذكرني بهما، ربما عذاباته وتناقضاته، التي ليست سوى تناقضات الحياة نفسها، وحلمه بمعرفة الحقيقة الغائبة عن واقعه.. شأنه في ذلك شأن أي إنسان متقد الفكر لا يهدأ، مشتعلة روحه للإشراق؛ غير أن هِيبَا وأمثاله جسد وروح لا يتجزآن، أما هذان، فروح غائبة عن الجسد، وجسد غائب عن الروح.. وكلاهما في عذاب لا يدركانه، جراء النصف الآخر الممعن في الغياب..
- وأنتِ؟ ألستِ في حيرة منهما؟
- لا. الأمر محسومٌ بالنسبة لي.. أنتِ فقط من تسأل..
- وأنتِ من أنتِ؟
- أتأمل مليا في هذا الهم الكبير الذي يسكننا، ما نحن عليه من تناغم طبيعي وما نفكر فيه وننكره من جوهر وجودنا، وفي الصراع المرير العقيم بينهما.. كأن الشيء وضده ما يحكمنا، فنسقط في مهاوٍ تجهض كينونتنا ونصير كائنات ممسوخة.. لهذا ترينني أغوص عميقا في ذاتي لأنجو بها من كل هذا المسخ..




ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة في انتظار حب الرشاد - مطبعة سفي غراف 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى