عبدالقادر القط - دفاع عن الرومانسية..

حين تذكر الرومانسية اليوم لايراد بها ما كانت تعنيه حين كانت مذهبا ادبيا وفلسفة حضارية سائدة في المجتمع العربي طوال النصف الاول من هذا القرن‏، فبعد انحسار مذهب ادبي سائد لايبقي منه عند الناس بعد ان يسود مذهب جديد‏، الا سماته العامة في سنوات ضعفه الاخيرة وعجزه عن مسايرة ما طرا من تحول‏.‏
وهكذا لم يبق اليوم في اذهان الناس من الرومانسية الا مفهوم عام شائع لايمثل جوهرها ولاطبيعة نماذجها في فنون القول المختلفة، حين كانت دعوة للعودة الي منابع الادب والفن في الوجدان والحياة والطبيعة‏، وتطلعا الي مثل عليا‏، وسعيا وراء صيغ جمالية جديدة تنبذ العتيق والمستهلك وتبحث عن العصري والمبتكر‏.‏
وقد انقضت الرومانسية كما ينقضي اي مذهب بزوال عصره لكنها‏-‏ من بين المذاهب جميعا‏-‏ تنطوي علي عناصر تمس جوهر النفوس والعواطف المشتركه بين الناس علي اختلاف الازمان والمذاهب‏، ويمكن ان يمتد وجودها علي نحو ما ولست اريد بهذا دعوة ساذجة الي عودة الرومانسية‏، فقد يقدر لها ان تعود في فلسفة وصيغ جديدة‏، وقد لاتعود ابدا‏، بل اريد ان اشير اليها لاتحدث خلال صورتها السطحية الشائعة‏-‏ عن منهجين في التفكير والدراسة يسيطران اليوم علي تصورنا لكل جديد واسلوبنا في تقديمه للناس‏.‏
حين نقدم نظرية جديدة في الادب او الاقتصاد او الاجتماع لا نعني كثيرا بدواعي ظهورها وبيان فلسفتها بقدر ما نهتم بتاكيد مخالفتها القديم العتيق او الفاسد او غير الملائم‏.‏
وفي سبيل ادانه القديم واثبات تخلفه عن روح العصر ننتزعه من سياقه التاريخي ومرحلته الحضارية فنحكم عليه حكما مطلقا يبدو معه بالضروره متخلفا او غير صالح للتعبير عن طبيعة الحياة الحاضرة.‏
ويمكن ان نطلق علي المنهج الاول مصطلح التعريف بالنفي‏، فحين نعرف ما يسمي الان شعر الحداثة لا نتحدث الا قليلا عن طبيعته في الرواية والفن‏، وعن اختلاف نصوصه من شاعر الي شاعر ومن رواية الي رواية، ونصرف اغلب جهدنا في تعريفه بانه ليس كنصوص المراحل الاولي من الشعر الحر وليس في تجربته وصيغته كنماذج الشعر الرومانسي‏.‏ ونعرف الرواية الحديثة بانها لم تعد كروايه الوقائع التي تروي فيها الاحداث بترتيبها ولم يعد راويها عليما بكل شيء ويبدو مثل هذا النفي شيئا بديهيا مادامت المقارنة بين قديم انتهي عصره وجديد يخالفه بالضروره‏.‏ لكن هذا المنهج يظل مسيطرا وشائعا ليشمل كثيرا مما جد علي حياتنا في الاقتصاد والاجتماع والسياسه‏، فاذا اردنا ان نبرر الاتجاه الي التخصيص او الخصخصه‏!‏ لم نتحدث كثيرا عن فلسفتها بل نلح علي بيان عيوب الملكية العامة لكي ننفي عن الاولي الجديدة عيوب الثانية العتيقة‏.‏
ولعل هذا الاتجاه الغالب الي نفي الاخر ان يكون من وراء ما نشهد في حياتنا الثقافية والادبية في هذه الايام من فرقة وتمزق وعداوات تبدو بعيدة عن طبيعة الفكر وشمائل المفكرين‏.‏
وخلال المقارنه غير المنهجيه وغير المنصفه بين القديم والجديد ينتزع القديم من سياقه التاريخي ومرحلته الحضاريه‏، فاذا بالرومانسيه فهم سطحي للحياه وتعبير مسرف في الذاتيه‏، واذا بالواقعيه نقل مباشر للحياه قريب من الصوره الفوتوجرافيه الخاليه من الفن‏.‏
وبهذا المنهج غير السليم يصبح كل تراث الانسانيه في الادب والموسيقي والفن منفيا عتيقا‏، لايجد فيه المعاصرون شيئا من المتعه او المعرفه لانه يخالف العصري في الفن والادب والموسيقي‏، علي حين مازال الناس يستمتعون بكثير من ابداع التراث ويستقبلونه وكانهم يتنقلون في اله الزمن فيدركون ابداع كل عصر مضي حسب ما كان سائدا في ذلك العصر‏.‏
ولم يقتصر منهج التعريف بالنفي علي ابداع المرحله السابقه لحياتنا الحاضره‏، بل امتد ليصدر احكاما مطلقه علي الادب العربي في جميع عصوره‏، ومن بينها مرحله وثيقه الصله بنهضتنا الحضاريه الحديثه هي مرحله الاحياء التي كانت منطلقا لكل ماتلاها من تجديد‏.‏
ويعرف دارسو الادب العربي الحديث البارودي شاعرا رائدا لحركه الاحياء التي وضعت الشعر العربي الحديث علي نقطه بدء صالحه للتطور‏، حين ردته الي اساليبه ابان عصور ازدهاره في ظل حضاره شامله‏.‏
لكن نقادنا الذين يسلكون منهج التعريف بالنفي وينتزعون الظواهر من مراحلها الزمنيه والحضاريه ومن بينهم الشاعر ادونيس يرون في البارودي شاعرا رجعيا عاد بالشعر الي عهوده التقليديه بدل ان يبدا من حيث انتهي شعراء العصر المملوكي والعصر التركي‏.‏ فهو ليس كهولاء الشعراء الذين اقتربوا من الحياه اليوميه وصاغوا شعرهم في اساليب ليست كالاساليب التقليديه الموروثه في الشعر العربي القديم‏.‏
ولو تحرر هولاء النقاد من سلطان الفكره السابقه ونظروا نظره موضوعيه الي الشعر المملوكي لراوه في اغلبه شعر مناسبات وتكسب‏، فقير اللغه ضعيف الاساليب متواضع المواهب‏، لايصلح ان يحتذي به او يكون نقطه انطلاق نحو التجديد‏، مهما يكن ارتباطه بالحياه الواقعيه او اليوميه‏.‏
ولم يكن البارودي يخفي احتذاءه باساليب الشعر العربي القديم في عصور ازدهاره‏، بل كان دائم الزهو بقدرته علي مجاراه كبار الشعراء‏، لكن اي ناقد بصير لايمكن ان يزعم امكان اختلاط شعره بالشعر القديم‏..‏ تحول دون ذلك نسخه عصريه في التعبير واتجاه جديد في التجربه‏.‏
ومن المعروف ان حياه البارودي كانت حافله بالاحداث منذ صباه حين اشترك في كثير من الحروب حتي عاني مراره الهزيمه والغربه والفقد في منفاه علي مدي سبعه عشر عاما بعد فشل الثوره العرابيه‏.‏ وبهذه التجارب الذاتيه تميز شعره عن كثير من نماذج الشعر العربي القديم واصبح ارهاصا بالحركه الرومانسيه التي تمثل الذاتيه اهم محور في رويتها وفيما تجلب من صيغ شعريه جديده‏.‏
وماكان للبارودي او لغيره من الادباء ان يقفز فوق طبيعه عصره فيصبح فجاه رائدا لمذهب ادبي جديد‏.‏
كذلك فعل الادباء والفنانون في عصر النهضه الاوروبيه‏، فلم يعودوا الي ادب العصور الوسطي وفنها‏، بل عادوا الي ادب وفن ازدهر في ظل حضاره مكتمله في العصر الاغريقي‏، ليحاكوها اول الامر‏، ثم لينطلقوا بعد ذلك الي العصريه والاصاله‏.‏
والحركه الرومانسيه التي كان البارودي ارهاصا لها ليست كما تبدو في مفهومها الشائع رويه سلبيه للحياه يغلب عليها التشاوم والاعتزال‏، بل هي في جوهرها حركه ايجابيه تنبعث من فرحه الفرد باكتشاف ذاته بعد ان ظلت مقهوره في عهود طويله من الظلم والتخلف‏، وتقوم علي اعتزاز الفرد بثقافته ووعيه وتطلعه الي المثل العليا‏، وعشقه للجمال وعدائه للقهر والظلم‏.‏ وقد حملت في صيغها الفنيه عبء التجديد والخروج علي الانماط البيانيه المكرره لتصبح منطلقا لما تلاها من حركات في التجديد‏.‏
واذا كانت الرومانسيه قد ارتبطت عند الناس بالشعر‏، فقد سبقت مع ذلك الي فن جديد له جذور قديمه في النثر العربي هومن القصه والروايه الذي بدا في صورته الحديثه متاثرا بالقصص الغربي‏.‏
وفي القصص الرومانسي العربي يبدو المبدع العربي مشغولا بالقضايا العاطفيه كسائر الرومانسيين‏، لكنه يبدو ايضا مهموما‏-‏ من خلال التجربه العاطفيه‏-‏ بقضايا فيها كثير من الوعي الاجتماعي والحضاري‏.‏ وهو في هذا يبدو ممهدا علي نحو غير مباشر للاتجاه الواقعي الذي تلا الرومانسيه بعد حين‏.‏
وكان نفوذ الجاه والمال وسلطانهما علي العواطف الانسانيه النبيله‏، والمواجهه غير المتكافئهبين الحب والمال محورا لكثير من الروايات والقصص القصيره‏.‏وكان الراوي يمثل صوت المبدع الرومانسي في احتجاجه وفي سخطه علي انانيه صاحب الجاه والمال‏، وفي رثائه للمقهورين من المحبين‏.‏
واذا كانت روايه زينب تعد طليعه بارزه للروايه العربيه الرومانسيه‏، فانها تدور في جانب مهم من جوانبها حول المواجهه بين الفقر والغنى ‏، وان كان غنى نسبيا لايبلغ حد الثراء‏.‏ وحين يعجز المحب الصادق الذي تبادله زينب حبا بحب عن ان يدفع ضريبه الاعفاء من الخدمه العسكريه ويرحل مع بعض فرق الجيش المصري الي السودان‏، يخلو الجو للغريم الغني فيظفر بزواج زينب‏.‏
وحين يقتل المال الحب في الروايه الرومانسيه‏-‏ العربيه والغربيه‏-‏ تموت المراه المحبه الوفيه مرضا او كمدا‏.‏ وقد يموت وراءها المحب او يبقي شاهدا علي جور المال وعسفه بالعواطف النبيله‏.‏
هكذا ماتت زينب‏، وهكذا ماتت سلمي كرامه في روايه خليل جبران الرومانسيه البديعه الاجنحه المتكسره كما ماتت مرجريت في غاده الكاميليا‏.‏ وتبدو المراه المحبه مهياه بتكوينها الجسدي والنفسي لكي تكون ضحيه صالحه علي مذبح المال والجاه هكذا كانت سلمي كرامه‏:‏
كانت سلمي كثيره التفكير قليله الكلام‏.‏لكن سكوتها كان موسيقيا ينتقل بجليسها الي مسارح الاحلام البعيده‏..‏ اما الصفه التي كانت تعانق مزايا سلمي وتساور اخلاقها‏، فهي الكابه العميقه الجارحه‏.‏ الكابه كانت وشاحا معنويا ترتديه‏، فتزيد محاسن جسدها هيبه وغرابه‏، وتظهر اشعه نفسها من خلال خيوطه كخطوط شجره مزهره من وراء ضباب الصباح‏..‏
والضحيه الرومانسيه لاتساق الي مذبح المال والشهوات علي غير وعي‏، بل انها في كثير من الاحيان‏-‏ كما في غاده الكاميليا والاجنحه المتكسره تسير طائعه الي حتفها في سبيل رضا الاب او سلامته او اجلالا للتقاليد المرعيه‏.‏
هكذا قبض القدر علي سلمي وقادها عبده ذليله في موكب النساء الشرقيات التاعسات‏.‏ وهكذا سقطت تلك الروح النبيله بالحبائل بينما كانت تسبح لاول مره علي اجنحه الحب البيضاء‏، في فضاء تملاه اشعه القمر وتعطره رائحه الازاهر‏.. ‏وسلمي كرامه هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحيه ثروه الوالد واماني‏، فلو لم يكن فارس كرامه رجلا غنيا لكانت سلمي اليوم حيه تفرح بنور الشمس‏.‏
قد تبدو التجربه الرومانسيه في تلك الروايات انتقائيه لا تلتفت الي كثير من الاوضاع التي يمكن اذا التفت اليها الروائي ان تجعل الروايه اقدر علي الاقتراب من الواقع دون اغراق في الاساليب الشعريه والبيانيه‏، لكنها تبقي مع ذلك برهانا علي ان الرومانسيه لم تكن كما يصورها بعض نقادنا ومبدعينا المعاصرين تجارب ذاتيه خالصه بعيده عن الهموم الاجتماعيه والانسانيه العامه‏، وانها لم تكن مسرفه في الخيال‏، او الوهم‏، وان بعض بذور الواقعيه كان كامنا في تلك التجربه الي ان يتاح له ان ينمو علي نحو جديد‏، وفي تربه جديده تهيئها روح العصر وتحولاته الحضاريه‏.‏
ومن ينظر في الصور الفنيه لتلك التجارب يجد فيها اصولا لا تخفي لما نسميه الان قصيده النثر في نصوص متميزه كانت تعرف حينذاك باسم النثر الفني او الشعر المنثور‏، وان انكر كتاب قصيده النثر تلك الصله الواضحه بين بعض نماذجها التي لاتسرف عن عمد في النثريه‏، ونماذج من ذلك الشعر المنثور‏.‏
واذا كان كتاب قصيده النثر حريصين علي ان ينسب ابداعهم الي الشعر فلابد ان يحرصوا كذلك علي ان يتحقق في نصوصهم قدر من الشعريه يجد فيها المتلقي ما يجده في الشعر من متعه الفن‏.‏
ولن يجديهم في الاقتراب من المتلقي ان يتوسلوا ببعض ومصطلحات النقد الحديث‏، التي قد تكون صحيحه في ذاتها‏، ولكن تطبيقها في الابداع يبدو احيانا علي نقيض دلالتها عند واضعيها من النقاد‏.‏
ولن يجديهم تكرار القول ان شعرهم ليس كالشعر الموزون وان رؤيتهم ليست كرؤيه الرومانسيين او الواقعيين‏، فان المتلقي لا يستمتع عن طريق المقارنه بين الجديد والقديم‏، بل بما يجد في الجديد من رؤيه وفن‏.‏


نقلاً عن جريدة الأهرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى