محمد الشرادي - عقد نكاح

مشاهدة المرفق 939
أنت في مقتبل العمر و تتمنى أن يكون لك زوجة و ولد، و لكن قل لي هل أنت الرجل الذي يحق له هذا التمني؟...أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه و بين نفسه؟
نيتشه
هكذا تكلم زرادشت
في مهب الريح
بعد منتصف الليل،جلس تحت ضوء عمود كهرباء،يلعق جراحة كقط خرج لتوه من معركة حامية الوطيس. بأصابعه المتورمة يحاول وقف نزيف الدماء من جروح أصابت مناطق متعددة من جسده الفتي.لم يصدق أنه نجا من محاولة اغتصاب.عليه أن يتوارى عن الأعين، و يجد لنفسه مكانا آمنا يقضي فيه ما تبقى من ليلته الأولى في الشارع. حاول النوم.لكن البرد، و الألم منعا الكرى عن جفونه.لا أحد يسأله، أو يهتم به. لم يضايقه الأمر، حتى في البيت، لم يظفر بالنوم إلا لماما،لانشغال والديه بحروبهما اليومية، التي تستمر عادة حتى ساعات متأخرة من الليل.كان يدفن رأسه تحت الوسادة،كي لا يسمع الألفاظ النابية، والاتهامات التي يندى لها الجبين. في المدرسة يخجل من النظر في عيون أصدقاء الحي. بحث في قلبَي ْوالديه عن واحة يتفيأ ظلالها،لم يجد غير صحراء قاحلة تاه بين كثبانها الرملية. فتش في قبو ذكرياته المظلم عن نقطة ضوء أنارت قلبه بالفرح،لم يجد سوى غبار المعارك. نظر إلى عيونهما بحثا عن معنى للأمومة الحاضنة،و الأبوة الحانية.لم ير سوى متصابيين عكرت الوحدة صفو حياتهما، و أثلج صقيع السرير جسميهما،فأقاما عقد نكاح على عجل، و عندما داهمتهما أولى ثماره أصيبا بالذعر، فصرفا خوفهما صراعات طاحنة. تبادلا خلالها الطعنات، فأصابته طعنة نجلاء أدمت قلبه و أصابت حاضره و مستقبله في مقتل.
ذكريات بطعم الحنظل.لم يخرجه منها إلا طلائع النور التي أخذت تمسح الظلمة عن وجهه. انطلق مدشنا نهاره الأول في الشارع بنفسية مهزوزة، و بعينين طافحتين بالهواجس،و القلق، و الأسئلة تتناسل في ذهنه( أيستطيع هذا الحمل الوديع، الذي طوحت به الأقدار أن يتكيف و قيم هذه الغابة الذي وجد نفسه فيها على حين غرة؟ أيستوعب بالسرعة اللازمة قانون الاصطفاء الطبيعي المهيمن على أحراشها؟...أيستطيع أن يكون حربائيا يتفنن في اختلاق الأكاذيب، وابتكار أساليب التحايل لتحقيق مطامحه؟) في هذا الصباح المغاير لكل الصباحات التي عاشها، لا طموح له سوى الحصول على شيء يقمع جوعه. هذه المرة، سيكتفي بسلال النفايات. يصارع عليها الكلاب، و القطط المنبوذة مثله، لعله ينتزع من بين أنيابها، و مخالبها شيئا مما فاضت به موائد الأثرياء.
عجيّ ( العجي من ماتت أمه )
عندما طلق أبوه أمه، أحس براحة كبيرة.على الأقل سيستريح من ضجيج المعارك.لكنها تزوجت بسرعة كبيرة. و وجدت ضالتها مع الرجل الجديد.صار كعلقة في حنجرة زوج أمه. يطَّير به في كل حادث.لا يمكنه أن ينظر إليه دون أن يبصق على الأرض. يوم قرر طرده من المنزل ، لم تبد أمه أية مقاومة. اكتفت بأن وضعت دريهمات قليلة في جيبه، ودخلت غرفة النوم موصدة الباب خلفها، وخلف حياته كلها.
لطيم ( اللطيم من مات أبواه )
أخذ الليل يحكم قبضته على المدينة،و يشهر سيف الظلام في وجهه.كيف يحمي نفسه مما يخبئه سواده؟انزوى في مكان معتم لعله يجد فيه الملاذ الآمن.رفع رأسه إلى السماء. بدا له القمر شاحبا. رأى فيه وجه أبيه. لم تتغير نظراته الباردة حتى بعد غيابه الطويل. يوم الفراق، اكتفى بأن غادر البيت. لم يعرّج على غرفته ليراه، و يقبله. تلاشى وقع حذائه خلف الباب،فتلاشت في قلبه صورة الأب الذي كان...
في جوف الليل
فجأة هب واقفا. أصاخ السمع جيدا. كان آذان الفجر يرتفع في جوف الليل من صومعة بعيدة. اهتز صدره اهتزازا قويا. لقد شغلته مأساته عن صلواته. جرى نحو المسجد، بقلب متعب، وعقل مشوش.انتبه الإمام بعد الصلاة لاضطراب الفتى. ربت على كتفه مستفسرا عن سر اكتئابه. حكى الطفل مصيبته. تدفقت مجاري الدمع في عينيه.حفرت أخاديد عميقة على خديه إلى فيه. خاطبه الإمام:
- من حقك أن تبكي والدين خانا الأمانة.و لكن أليس لك أحباب يهبون لنجدتك؟
نكس أعلام عينيه تعبيرا عن خيبة آماله. اتكأ على أقاربه من أبويه. لم يصادف من الجميع سوى الخذلان. فسح له الإمام المجال لكي يتوجه إلى الله بالدعاء. لكن الفتى خاطبه:
- تاهت دعواتي، و ضلت طريقها. صرت كمن انقطعت به السبل في جزيزة معزولة، فأرسل طلب نجدة في قنينة، و جلس ينتظر السراب.
ربت الفقيه على كتفه، و أطلق زفرة حارة قبل أن يخاطبه:
- أجل بني، أفقدتك الطعنات التوازن. أخاف أن تظل طريقك،و تتيه كحمل وديع في غابة مليئة بالذئاب الجائعة. أعلم أنك تريد...
أمسك الولد بيد الفقيه مقاطعا إياه:
- أنا لم أعد أطمع إلا في شيئين:أن أتكئ على جدار لا ينهار، و أن أصلي جهة قبلة تعرفني.


الشرادي محمد, ‏9/5/13

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى