هكتور هـ. منرو (ساكي) H. H. Munro (Saki) - القصَّاصٌ The Storyteller.. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

كان الجو قائظا في ذلك النهار، وكانت عربة القطار شديدة الحرارة، وكانت المحطة القادمة في تومبلكوم تبعد نحو مسيرة ما يقارب الساعة. جلست بالعربة فتاة صغيرة، وبنت أصغر منها وصبي صغير. اِنْتَحَت عمة الأطفال جالسة على مقعد قصي في ركن العربة، وجلس في مقابلها في الركن الآخر شاب عزب لا يمت بصلة لتلك العائلة. إلا أن البنتين الصغيرتين والصبي كانوا يحتلون بشكل قاطع عربة ذلك القطار. كانت العمة والأطفال يتبادلون الحديث باستمرار ولكن بصورة محدودة تذكر المرء بذبابة مزعجة تأبي في حذر التوقف عن الدوران المستمر. كانت غالب جمل العمة تبدأ بـ "لا تفعل / تفعلي"، بينما كانت غالب ردود الأطفال تبدأ بـ "لِمَ؟". لَمْ يَنْبِسْ الرجل العزب بِبِنْتِ شَفَةٍ. صاحت العمة في الصبي وهو يوسع مساند المقعد ضربا، ويثير مع كل ضربة من يديه سحابة من الغبار: "توقف! لا تفعل ذلك!".

ألحقت العمة أمرها للصبي بقولها: "تعال وانظر من النافذة".

تحرك الطفل بكثير من التأبي إلى النافذة، وقال بعد لحظات: "لماذا يطرد الراعي الخراف من ذلك المرج؟"

أجابت العمة بصوت خفيض: "ربما كان يدفعها للتحرك نحو مرج آخر يكثر فيه العشب."

· رَدَّ عليها الصبي محتجا بالقول: "ولكن هذا المرج غني بالعشب. ليس هنالك في المكان غير العشب يا عمتي. يوجد بهذا المرج الكثير من العشب."

لم تجد العمة غير أن تجيبه بإجابة لا تخلو من بعض حمق وسخف: "ربما كان العشب في المرج الآخر أفضل منه في هذا المرج؟"

وسرعان ما جاءها رد الصبي سريعا ومحتوما: "أفضل لماذا؟"

أجابت العمة بصوت قوي: "انظر لتلك الأبقار." كانت الأبقار والثيران المخصية تملأ كل المروج من حولهم، ولكنها قالت ما قالت وكأنه أمر نادر الحدوث.

وأصر الصبي (واسمه سيريل) على تكرار سؤاله: " لِمَ يكون العشب في المروج الأخرى أفضل؟"

تحول تَقْطِيب وجه الرجل العزب إلى عبوس وإِكْفَهْرار شديدين. خطر بعقل العمة أن الرجل قاسٍ يفتقر إلى التعاطف، ولكنها أخفقت تماما في التوصل إلى أي رأي سديد في شأن العشب في المرج الآخر.

وفجأة قامت البنت الصغرى بفعل صرف أنظار العمة وسيريل عما كانا فيه من حديث بتردديها لأغنية "في الطريق إلى ماندالاي". لم تكن تحفظ غير المقطع الأول، غير أنها استفادت لأقصى درجة من معرفتها المحدودة جدا، فطفقت تعيد ذلك المقطع الوحيد مرارا وتكررا بصوت حالم ولكنه حازم ومسموع للغاية. وخيل للرجل العزب أن أحدا دخل مع تلك البنت الصغيرة في رهان على أن تقوم بترديد ذلك المقطع بصوت عالٍ لألفي مرة دون توقف. ومن المؤكد أن من دخل في ذلك الرهان معها سيخسره بلا أدنى ريب.

وحَدَجَ الرجل العزب العمة مرتين بِنَظْرَةِ لوم وعتاب، ثم نظر إلى سلك الاتصال بجانبه، ذلك السلك الذي يمكن للمرء أن يجذبه ليوقف القطار المتحرك عند حدوث طارئ ما. إثر ذلك سارعت العمة بمخاطبة الأطفال بالقول: "تعالوا هنا وأسمعوا مني هذه القصة".

تحرك الصغار في تكاسل نحو الركن الذي كانت تقبع فيه العمة في آخر العربة. كان واضحا أن سمعتها في حكي القصص ليست حسنة جدا عندهم.

وشرعت العمة في الحكي بصوت خفيض وكأنها تخصهم بأدق الأسرار، بينما ظل مستمعوها يمطرونها في أصوات عالية بالعديد من الأسئلة المشاكسة المتتابعة. وكانت قصتها تفتقر إلى الامتاع وروح المغامرة بصورة بائسة. كانت القصة عن صبية صغيرة لطيفة تحب مصادقة كل من تقابله بسبب طيبة قلبها، وذات مرة أنقذها عدد ممن كانوا يعجبون بها بسبب خلقها الرفيع من هجوم ثور هائج.

سألتها البنت الكبرى: "ألم يكن هؤلاء لينقذوها إن لم تكن بذلك الخلق الرفيع؟". كان ذلك هو ذات السؤال الذي خطر ببال الرجل العزب ولكنه لم يسأله لعمة الأطفال.

أقرت العمة في ضعف وببعض التأبي بمعقولية السؤال قائلة: "حسنا، هذا صحيح؟ ولكني لا أعتقد انهم كانوا سيقومون بإنقاذها بذات السرعة إن لم تكن فتاة طيبة ومحل إعجابهم".

ردت البنت الكبرى في قناعة لا تقبل الشك: "هذه أغبى قصة اسمعها في حياتي." بينما أكتفى سيريل بالقول: "أنا لم استمع إلا للجزء الأول من القصة، فقد كانت بالغة الغباء."

أما الصغيرة فلم تعلق على قصة العمة إذ أنها كانت مستغرقة في الهمهمة بالمقطع الأول من أغنيتها الوحيدة.

وفجأة صاح الرجل العزب من ركنه القصي مخاطبا العمة: "لا يبدو أنك مجيدة لرواية الحكايات."

اِنْبَرت العمة مدافعة بقوة ضد ذلك الهجوم المباغت وقالت للرجل بتصنّع بائن: "يصعب على المرء أن يحكي قصة للأطفال يمكنهم فهمها وتقديرها أيضا."

رد عليها الرجل ببساطة: "لا أتفق معك في هذا."

ردت عليه العمة في تحدٍ: "ربما كنت تود أن تحكي لهم قصة."

صاحت البنت الكبرى بالرجل: "هلا حكيت لنا قصة."

بدأ الرجل العزب في رواية حكايته: "كانت هنالك في قديم الزمان صبية صغيرة اسمها بيرثا، ممتازة بصورة غير اعتيادية."

هنا بدأ حماس الأطفال لسماع قصة الرجل يهتز للحظات، فقد بدا لهم أن كل القصص تتشابه، بغض النظر عمن يروي حكايتها.

واصل الرجل في رواية حكايته: "كانت تلك الصبية تفعل كل ما تؤمر به، وكانت صادقة دوما، وتحافظ على ملابسها نظيفة، وتأكل المُهَلَّبيّة وكأنها فطائر المربى، وتقوم باستذكار دروسها بصورة ممتازة، وكانت أخلاقها شديدة التهذيب."

سألته البنت الكبرى: "وهل كانت جميلة؟"

أجابها الرجل العزب: "لم تكن في جمال أي منكما، ولكنها كانت ممتازة بصورة فظيعة."

وهنا ارتفعت موجة حماس الصغار للقصة. لفت نظرهم استخدام كلمة "فظيعة" مع "ممتازة"، وكان أمرا محببا وجديدا عليهم كل الجدة. أدخلت الكلمة دائرة من الحقيقة كانت غائبة من قصص الصغار التي ظلوا يسمعونها من العمة.

واصل الرجل العزب في حكايته: "كانت بالفعل صبية ممتازة، ونالت على امتيازها العديد من الميداليات التي ظلت تحرص على لبسها أو تثبيتها فوق فستانها. كانت قد منحت ميدالية الطاعة، وأخرى للانضباط في المواعيد، وميدالية ثالثة للسلوك الحميد. كانت تلك الميداليات مصنوعة من معدن، وتصطك مع بعضها البعض عند سيرها في الطريق. لم يسبق لصبي أو صبية في المدينة التي كانت تعيش فيها تلك البنت أن حصل على ثلاث ميداليات دفعة واحدة مثلها. لهذا اعترف لها الجميع بأنها طفلة ممتازة."

قال سيريل: "ممتازة بصورة فظيعة."

"كان الجميع يتحدثون عن امتيازها، وسمع بذلك أمير البلاد فأصدر أمرا بالسماح لها بالتجول مرة في الأسبوع في منتزه خاص به كان يقع في طرف من أطراف المدينة. كان منتزها بهيج المنظر، ولم يكن يسمح قط لأي طفل بالدخول إليه. لذا كان سماح الأمير لبيرثا بالتجول في ذلك المنتزه الأميري شرفا عظيما."

سأل سيريل في حماس: "هل كانت هنالك أي خراف في ذلك المنتزه؟"

أجابه الرجل العزب: "لا. لم تكن هنالك في المنتزه أي خراف."

أتى بعد تلك الإجابة السؤال الذي لم يكن منه بد: "لماذا لم يكن هنالك خراف؟"

سمحت العمة لنفسها بعد سماعها لسؤال الصبي بالابتسام بصورة يمكن وصفها بأنها "ابتسامة عريضة".

رد الرجل العزب: "لم يكن هنالك خراف في المتنزه لأن والدة الأميرة كانت قد حلمت في منامها ذات ليلة بأن ابنها الأمير سيقتل إما بنَطْحَة من خروف أو بساعة ضخمة تقع على رأسه. ولهذا لم يحتفظ الأمير بأي خروف في منتزهه أو بساعة في قصره."

جاهدت العمة لتحبس لُهَاثا مصدره الاعجاب بتفسير الرجل العزب.

سأله سيريل: "وهل قتل الأمير بنَطْحَة خروف أم بوقع ساعة على رأسه؟"

رد الرجل العزب دون كبير اكتراث: "ما زال الأمير حيا يرزق. لذا لا نستطيع أن نحكم إن كان الحلم سيتحقق أم لا؟ ولكن على حال، لم تكن هنالك خراف في المنتزه، بل كانت هنالك العديد من الخنازير الصغيرة تحوم في كل أرجاء المنتزه."

"ما لونها؟"

"كانت سوداء ولها وجوه بيضاء. بيضاء منقطة باللون الأسود. وكان بعضها أبيض اللون دون أي سواد."

صمت الرجل العزب قليلا ليترك فكرة ما في المنتزه من كنوز ترسخ في خيال الأطفال، ثم عاود الحكي:

"أسفت بيرثا لخلو المنتزه من الزهور. وكانت قد أقسمت لعماتها وخالاتها والدموع تتساقط من عينيها ألا تقطف أي زهرة من زهور منتزه الأمير. وكانت تعني ما تقول. لذا أحست بالأسى من خلو المنتزه من الأزهار، وأحست أيضا بأنها سخيفة عندما وعدت بعدم التقاط أي زهرة في المنتزه."

"ولماذا لم تكن هنالك أي أزهار في المنتزه؟"

رد الرجل العزب بسرعة: "كانت الخنازير قد قضت على كل الأزهار في المنتزه. وكان القائمون على أمر المنتزه قد قالوا للأمير باستحالة وجود الخنازير والزهور في مكان واحد. لذا قرر الأمير الاحتفاظ بالخنازير وليس الزهور قي منتزهه."

وسرت بين المستمعين للقصة همهمات مؤيدة لقرار الأمير، غير أن الكثيرين كانوا سيتخذون قرار مختلفا.

"كانت هنالك أشياء بهيجة أخرى في المنتزه. فهنالك البحيرات العامرة بالأسماك ذات الألوان المختلفة، ذهبية وزرقاء وخضراء، وأشجار ظليلة تجد على أغصانها الببغاوات الجميلة تصيح بعبارات ذكية، والطيور الطنانة التي تردد بعض الألحان الشعبية الشائعة في تلك الأيام. وظلت بيرثا تتحرك في كل الاتجاهات وهي مستمتعة لأقصى حد. فكرت بيرثا في أنه لم تكن ليسمح لها بالمجيء لذلك المنتزه البديع والاستمتاع بما يحتويه إلا لتميز أخلاقها. وكانت ميدالياتها الثلاث تحتك ببعضها وهي تتجول في أرجاء المنتزه وتحدث أصواتا تذكرها بأنها بالفعل صبية ممتازة. وفي تلك اللحظة ظهر أمامها ذئب ضخم يجوس في المنتزه ويبحث عن صيد سمين يتعشى به من بين خنازير المنتزه الصغيرة.

ارتفعت درجة اهتمام وحماس الأطفال لما سمعوه للتو فسألوا بصوت واحد: "ماذا كان لون ذلك الذئب؟"

"كان لونه لون الطين، ولسانه أسود، وعيناه رماديتان وتلتمعان في قسوة ووحشية لا يمكن وصفهما. كانت بيرثا هي الشيء الوحيد أمام ذلك الذئب. وكان مئزرها شديد البياض والنظافة ويمكن رؤيته من مسافة بعيدة. رأت بيرثا الذئب وهو يخطو نحوها. غمرها شعور بالندم على مجيئها للمنتزه الأميري، ووجدت نفسها تطلق ساقيها للريح، بينما الذئب يلاحقها بخطوات كبيرة ومتلاحقة. أفلحت في الوصول إلى شجيرات كثيفة وفي الاختباء في واحد من أضخم تلك الشجيرات. وأقبل الذئب يشمم بين الأغصان، ولسانه يتدلى خارج فمه. كانت عيناه الرماديتان الباهتتان تلمعان بغضب شديد. بلغ الرعب ببيرثا مبلغه وقالت لنفسها: "لو لم أكن صبية ممتازة بصورة غير عادية لكنت الآن آمنة في بيتي." غير أن رائحة النباتات العطرية في المنتزه كانت من القوة بحيث جعلت الذئب يفشل في تحديد مكان بيرثا. وكانت الشجيرات شديدة الكثافة لدرجة أن الذئب فكر في أن العثور على بيرثا سيستغرق وقتا طويلا يحسن به أن يقضيه في اصطياد خنزير صغير. ولكن في تلك اللحظات ارتجفت بيرثا من شدة الرعب وهي ترى الذئب يجوس بين الشجيرات فأصكت الميداليات المعدنية الثلاث التي كانت قد حصلت عليها لدقتها في المواعيد ولأخلاقها العالية وسلوكها الحسن. كان الذئب يهم بالذهاب بعيدا عن المنطقة التي كانت تختبئ بها عندما تناهى لسمعه أصوات الميداليات وهي تصطك ببعضها فتوقف عن الحركة، وسمع للمرة الثانية أصوات احتكاك الميداليات المعدنية. اندفع نحو مصدر الأصوات وفي قسوة ووحشية واحساس غامر بالانتصار التمعت عيناه الرماديتان الباهتتان وهو يجر بيرثا من مخبأها ويلتهمها حتى آخر مضغة. لم يبق منها غير حذائها وقطع صغيرة من فستانها وميدالياتها الثلاث التي حصلت عليها لحسن أخلاقها."

"هل قتل الذئب أيضا أي من الخنازير الصغيرة؟"

"لا. كانوا قد هربوا جميعا".

قالت البنت الصغرى: "لقد بدأت القصة بداية سيئة، ولكن جاءت نهايتها رائعة."

وقالت أختها الكبرى بلهجة واثقة: "هذه أجمل قصة سمعتها في حياتي."

وقال سيريل: "هذه هي القصة الجميلة الوحيدة التي سمعتها طوال حياتي."

غير أنه كان للعمة رأي آخر. قالت: "هذه القصة غير مناسبة لتروى للأطفال. لقد قوضت مجهود سنين بذلتها في تعليم هؤلاء الأطفال بعناية فائقة."

رد عليها الرجل العزب وهو يجمع حقائبه استعداد لمغادرة عربة القطار: "على كل حال لقد أفلحت في إبقائهم صامتين لعشر دقائق كاملة، وهو أمر لم تكن لتقدرين على فعله."

فكر وهو يغادر رصيف محطة تومبلكوم في أمر العمة وقال لنفسه: "يا لها من امرأة تعيسة! سيقوم هؤلاء الأطفال بمهاجمتها علنا لستة أشهر قادمة على الأقل ويطالبونها بقصة غير ملائمة للأطفال!"


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبذة قصيرة عن المؤلف: وُلد الكاتب الأسكتلندي هكتور هـ. منرو (الشهير بـ "ساكي") عام 1870م في بورما، ومات في فرنسا عام 1916م وهو يشارك في الحرب العالمية الأولى كجندي عادي. وأشتهر بكتابته لقصص قصيرة (بالإضافة لرواية ومسرحية) امتازت بروح الفكاهة والسخرية، وبكتاباته في الصحف والإذاعة.

المترجم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى