أحمد ابراهيم الفقيه - صراع الحياة والموت..

اعتبر العالم النفسي الأشهر سيجموند فرويد أن هناك قوتين محركتين للفرد وللمجتمع الإنساني عموما‏,‏ تتصارعان وتتقاطعان وتتناقضان‏,‏ إحداهما أسماها القوة الأيروسية باعتبارها قوة الحياة والحب والإبداع والإخصاب الجنسي‏,‏
والرضا النفسي, وحفظ النوع, وأسمي الثانية القوة الثانتوسية, المقتبسة من الكلمة الإغريقية التي تعني الموت, وهي القوة المحركة للعدوان والسادية, والدمار والعنف والموت أو القتل.
وفي توصيفه للقوتين يقول إن البشر لحظة استجابتهم لقوة الثانتوس, اخترعوا أدوات الدمار الشامل التي تعني إمكانية الانقراض لجنسهم, وبالمقابل فإن قوة الإيروس عند الاستجابة لها, ستقوم بالجهد الذي يؤكد وجود الإنسان واستمراره, والنضال ضد ذلك الخصم الذي لا يموت هو أيضا ولا يندثر إلا وهو الموت,ولكن من تراه يستطيع أن يقول ما مدي النجاح, أو ما هي النتيجة التي سيصل إليها كل منهما في نهاية المطاف؟ بمعني هل ستتمكن قوة الدمار في أنفسنا أي قوة الثانتوس, أن تنجح في الوصول بالجنس البشري إلي الانقراض عن طريق ما يراكمه البشر من أسلحة الفتك والدمار, أم أن قوة الأيروس, قوة الخير والمحبة والحياة ستنجح في إنقاذ البشر والمحافظة علي النوع؟
القوتان تتجاذبان النفوس, وتتجاذبان المجتمعات, وعن الصراع بينهما نتجت الحروب, وكانت آخرها حربان عالميتان شملتا الكرة الأرضية بما الحقتاه من موت ودمار, كما نتجت عن هذا الصراع إنجازات إنسانية تناقض القتل والاحتراب, ليس أقلها هذه الاختراعات التي أضافت قيمة لحياة البشر مثل ثورة الاتصالات والمواصلات وعلوم الجينات والأمصال التي صارت تقضي علي أوبئة ظلت لآلاف السنين تحصد الملايين من البشر, وهو صراع نراه في نفوسنا وفيمن حولنا عندما نري القوة التدميرية تنجح فتسبب جرائم القتل وأحيانا حماقات الانتحار وإيذاء بعضنا الآخر, أو تنجح القوة الأخري المناقضة لها, فنري تجلياتها فيما يعرض لنا من إبداع وجمال ومحبة وفتوحات في علوم الطب ومناشط لأعمال الخير.
وطبعا لهذين القوتين تجليات وانعكاسات في الفنون والآداب, وهناك تراث إنساني في الروايات والأفلام والمسرحيات التي تتكلم عن الصراع بين هاتين القوتين, اللتين يمكن أيضا أن ننسبهما إلي الشر والخير, وهو تراث موجود منذ فجر البشرية وما الصراع الذي نقرأ عنه في الأساطير الفرعونية عن ست إله الشر وأخيه أوزوريس الذي يرمز للخير, إن هو إلا معني من هذه المعاني التي تتكرر في كثير من الأساطير, بمثل ما نجد لها نظائر فيما انتجه الكتاب والفنانون من إبداع فني وأدبي علي مر العصور.
إذن فإن فرويد لم يفعل أكثر من القيام برصد حقيقة من حقائق الحياة البشرية, وربما أخضعها لشيء من تصوراته عن الطاقة الجنسية باعتبارها طاقة زود الله بها الكائنات الحية للتوالد وحفظ النوع, فكانت بالتالي قوة الحياة والخصوبة, بل إن فرويد نفسه يعترف بأنه مدين لأهل الشعر والأدب والفلسفة باستعارة هذين المصطلحين وبالفضل في اهتدائه لما يمثلانه من قوة في حياة البشر والمجتمعات.
المهم أننا أمام حقيقة كونية, أعتني برصدها علماء النفس, وأعتني بتصويرها أهل الأدب والفن, ولست هنا بصدد بحث أدبي أتتبع فيه أثر هذين العنصرين في القصة أو الرواية, ولكنني أريد أن أري تأثيرهما في واقع حياتنا العملية هذه الأيام, واحتكاما إلي الحالة التي تعيشها ليبيا وللماضي البغيض متجسدا في أربعة عقود من العهد الانقلابي يتقوض تحت ضربات الثوار, أقول ان هناك في هذه الثورة, أو هذا الصراع من أجل الحرية, أو هذه الحرب الشعبية التحريرية ضد كتائب الطغيان, يتجسد شيء من هذا الصراع بين قوة الحياة وقوة الموت, وأري أن هذه العقود من حكم السيد العقيد, كانت في جوهرها لحظة انتصرت فيها قوة الثانتوس, قوة الموت والقتل, قوة الدمار والعنف والتخريب, قوة الساديزم والعدوان, علي قوة الخير والحب والإبداع والخصوبة, القوة الإيروسية ـ كما في تعبيرات فرويد ـ ولأنه لا إمكانية لأن تحتكر قوة ما المجال علي الدوام, وتستأثر به علي حساب الأخري, فكان لابد لقوي الحياة أن تنطلق من أجل أن تسترد مواقعها وأن تحارب من أجل منع احتكار قوة الموت والعدوان لحياة أجيال وأجيال أو سيطرتها علي المشهد الليبي لآماد طوال, وبرغم حقيقة أن السيادة والسيطرة خلال أربعين عاما ونيف كانت لقوة الثانتوس, فإن قوة الأيروس لم تكن غائبة تماما, كان حضورها ضعيفا, ولكنها كانت موجودة لكيلا يقطع السيد ثانتوس دابر الحياة ويستأصل الزرع والضرع ويحيل الأرض إلي يباب, وهو طبعا ما حاول فعله بما أساله من دم, وما أشاعه من دمار, وما آثاره من حروب, وما نفثه من أجواء البلاد من كراهية وحقد ورعب, ومع ذلك كانت تلك القوة المحبة للحياة, تنافح وتدافع وتزرع بذورها وسط كل قطعة يباب يصنعها, لكيلا تتصحر الحياة البشرية, بمثل ما تصحرت الأرض, وكانت الحرب التحريرية التي أعلنها الشعب الليبي ضد الطاغية هي في حقيقتها حربا ضد قوة الموت والقهر والعدوان, وإحدي خصائص هذه القوة التي يجسدها الثانتوس, ظهرت جلية في الخطاب الذي رد به الطاغية علي طلائع هذه الثورة لأنه خطاب يعلي قوة الموت والدمار, ويحتكم إليها, ولا يري دورا للحوار ولا يعرف الاعتراف بالآخر ولا يدرك شيئا إلا أنه هو القوة الطاغية الباغية الماحقة الساحقة الحارقة الخارقة, التي يجب أن يخضع لها الآخرون ويعترفوا بسيادتها عليهم, وعندما يصدر هؤلاء الآخرون رأيا يخالفه أو يرفض سيطرته وتسيده عليهم لا يجد وسيلة يعرفها للتعامل معهم غير إحالتهم, عبر سيالاته الذهنية المريضة, وخطابة المعبر عن هذه السيالات, إلي جرذان, وصار التعامل معهم يقتضي بالضرورة تعاملا غير التعامل الذي يقوم بين البشر والبشر, وإنما بين البشر والجرذان, بمعني الحوار الوحيد الذي يستحقونه هو رشهم بالمبيدات الحشرية, أي قتلهم كما يفعل البشر مع الكائنات المضرة من دواب وحشرات, إنه خطاب الطغيان, خطاب الموت, خطاب الثانتوس الذي لا يعرف إلا المحق والسحق والقتل.
نعم هذا هو جوهر الصراع الدائر في ليبيا, ولعله كذلك في بقاع أخري من العالم العربي, استحوذ فيها أجناد الثانتوس علي المسرح عدة عقود, وحان بالنسبة لهم وقت الانسحاب, لإعطاء الفرصة لقوة أكثر جدارة بالحياة وجدارة بالحضور فوق أرض البشر, قوة الخلق والإبداع والجمال والحب والحرية والخصوبة والنماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى