محمد الراوى - الأديب الراحل ضياء الشرقاوى.. سر الوميض الذي أبرق ثم انطفأ

كان الأديب ضياء الشرقاوى أول من استقبلني وأخذ بيدي عندما نزلت إلى القاهرة عام 1968 بحثا عن مكان تستقر فيه أسرتي خلال حرب 1967 .

أصبح ضياء الشرقاوى هو دليلي الوحيد إلى الحياة الأدبية في القاهرة. وكان من حسن حظي أن يكون هذا الدليل ـ الذي أكن له الكثير من المحبة والتقدير ـ أديبا جادا، لا أستطيع أن أفصل بين الجدية التي يمارس بها أدبه وحياته الشخصية .

عندما طلبت منه أن يعرفني على طبيعة الحياة الأدبية وخريطتها في القاهرة، أشار علىّ بأن أقرأ أولا جيل الستينات الذي أثمر عددا من الأصوات البارزة، فقرأت دفعة واحدة الأعمال التالية : أوراق شاب من ألف عام لجمال الغيطانى/ الحداد لمحمد يوسف القعيد / إنسان اليوم السابع لعبد الحكيم قاسم، ومجموعة غاليرى 68 .

ثم عرفني بصديقه إبراهيم أصلان وزهير الشايب وخيري شلبى ومحمد مستجاب ومحمود الوردانى .

وفى جانب آخر تعرفت على الأصدقاء الدكتور نعيم عطية والدكتور عبد الغفار مكاوي وفتحي سلامة ونبيل عبد الحميد وآخرين .

وكان الأديب الراحل زهير الشايب في ذلك الوقت قد بدأ ينشغل بترجمة السفر الكبير " وصف مصر " الذي دفع حياته ثمنا له. وكان مستجاب، هذا الأديب الطيب الصاخب البدائي يكتب رواية " نعمان عبد الحافظ" وينشر فصولها في مجلة الكاتب التي كان يرأس تحريرها ويشرف عليها الراحلان الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور وعلى شلش .

كنا ضياء وأنا نذهب إلى مستجاب في بيته بالعمرانية لقضاء سهرات طويلة في النقاش وسماع الموسيقى الكلاسيك من جهاز أهداه إليه الدكتور عبد الغفار مكاوي .

كان مستجاب يطلق على الاسطوانات مازحا اسم " المطارح" ، وكان يقرأ علينا في كل زيارة ما يكون قد استكمله من روايته " نعمان " .

كان المرحوم على شلش يشتكى لنا من مستجاب مر الشكوى، لأنه لم يكن يعرف متى تنتهي الرواية، وفى كل مرة نزور فيها مجلة الكاتب ـ ضياء ومستجاب وأنا ـ يسأل شلش مستجاب : هل هذا هو الفصل الأخير؟ فيبتسم مستجاب ويحرك رأسه نافيا، بينما يبرز من طيات جيوبه فصلا جديدا من الرواية .

كان ضياء مهموما بأدبه، كثير القلق كثير التساؤل، وكنت الهث وراءه .

أتذكر مساء يوم من أيام الشتاء القارس، بقيت في البيت وحدي لا أستطيع الخروج لأن السماء كانت شديدة السواد، تمطر بغزارة، والكهرباء مقطوعة، فآثرت أن أجلس أقرأ وأكتب في المطبخ تحت ضوء لمبة نمرة خمسة .

وفى منتصف الليل والصمت والمطر يضغطان على أذنى، سمعت نقرا على باب الشقة، قلت في نفسي إنه الهواء وربما قطرات المطر.

لكنني سمعت النقر يتكرر فقمت إلى باب الشقة وأرهفت سمعى، وقلت بصوت خافت من؟ فإذا بصوت ضياء يقول بتنهد: افتح يا راوي .

فتحت الباب فوجدت شبحه أمامي .

وعندما دلف إلى الصالة رأيت ملابسه مشبعة بالماء وحذاءه ملطخا بالطين وهو يضم ذراعيه على أوراق تبرز أطرافها من السويتر الجلد الذي كان يرتديه. حسبت أن لا أحد بالبيت ، وكنت أفكر كيف أرجع إلى الشارع ثانية . كنت أقطن بمنطقة الهرم، وكان بيتي يقع على أطراف حقول واسعة لا بد أن ضياء قد اجتازها في طريقه إلىّ . كرر : حسبتك غير موجود.

أخذته إلى المطبخ بعد أن خلصته من كل ملابسه الخارجية المبللة بماء المطر ، وأعطيته بيجامة .

ـ ما الذي أتى بك في ذلك الوقت؟

ـ لم أذهب إلى البيت. كنت في عملي ولم أغادره إلا الآن . كنت أكتب في رواية جديدة وأردت أن أنسخها على الآلة الكاتبة فنسيت الوقت وآثرت أن أحضر إليك مباشرة .

قدمت إليه طعاما وجهزت الشاي وجلسنا على المائدة ، وتحت ضوء لبمة الجاز نمرة خمسة نشر أمامي أوراقه وكانت روايته " مأساة العصر الجميل " التي أخذنا نقرأ فيها حتى طلعت شمس الصباح .

كان ضياء يردد بعد أن انتهى من "مأساة العصر الجميل" : أي روح ضالة شريرة أنا ، أنا الذي أحيا وسط دفء الناس مهما بلغ شرهم وقبحهم، أنسى ساعات عطائهم ولا أتذكر عندما أكتب إلا القسوة .

وكان صراعه شديدا مع فكرة القبح والشر في مقابل الجمال والخير . كان يريد أن يكون خيرا في كتاباته مثلما في حياته .

لم يكمل ضياء سن التاسعة والثلاثين ، إذ قضى نحبه قبل أن يتمها عصر يوم 2/11/77 وحضر مستجاب اللحظة الأخيرة من حياة ضياء ، وكنت أنا قد عدت إلى السويس وقتذاك .

وقد ترك لي ضياء مهمة تفسيره، تفسير حياته وأفكاره.

وعدت إلى رسائله التي كان يبعث بها إلىّ عندا أكون في السويس خلال فترة حرب الاستنزاف ، حيث آثرت ألا أنقطع عن بلدي لأعيش وأرى وأسجل .

عدت إلى هذه الرسائل لأعرف وأكتشف سر هذا الوميض الذي أبرق ثم انطفأ . بعض الفنانين والأدباء يشعرون أن الموت سيدركهم لا محالة في منتصف الطريق ، فيعطون عطاءً متوهجا كاشفا متنبأً ، يسبقون به الموت .

وقد شاهدت بنفسي أول موقف إنساني كبير تجاه ضياء الراحل، كان صاحبه هو الأديب الروائي صبري موسى عندما التقيته في منزل الدكتور نعيم عطية ذات مساء بعد رحيل ضياء..ولا داعي لذكر التفاصيل .

أعرف أنه لا يمكن تفسير حياة إنسان إلا من خلال تاريخه كله، لكنى حاولت من خلال الفترة التي صادقته فيها، بالإضافة إلى رسائله الأدبية ، أن أضع قليلا من النقاط فوق الحروف .

حتى في رسائله وجدت ضياء يهتم أكثر بقضاياه الأدبية التي تؤرقه وتلح عليه .

وقد وضعت يدي على دور الأب في حياة ضياء، وأثبتُ أن ضياء الطفل والصبى ومعاملة أبيه له في تلك الفترة ستكون سببا رئيسيا في تحديد ملامح شخصيته التي جعلته يختار طريق الأدب، بل والتي أكسبته هذه الطريقة المتفردة في الكتابة وهذه الرؤية المركبة التي تمتاز بها قصصه .

وكثيرا ما كان يردد لي بأن أباه مثل أب كافكا، وقد كتبها لي في رسالته السادسة ورددها في رسالته السابعة.

ويعاود ضياء التساؤل ـ من خلال معاناته ـ عن الهدف الحقيقي للفن والذي هو في الحقيقة دعوة إلى الفرح الإنساني وانتصار الإنسان على الخوف والضياع والهزيمة وكل ما يهدد كرامة الإنسان.

وهو يقول بأن كل فن يدافع عن الإنسان والخير هو فن عظيم وباق في الذاكرة وضمير الإنسان .


الهوامش :

1ـ نشرت "مأساة العصر الجميل" أولا في مجلة الموقف الأدبي السورية، ثم نشرت ضمن مجموعة " بيت في الريح" بعد وفاته بدار المعارف عام 78

2ـ الرسائل الأدبية لضياء الشرقاوى نشرت في ملف خاص بمجلة القصة عدد 18 عام 78 وأعيد نشرها في دراسة نقدية في كتاب بمطبوعات هيئة قصور الثقافة .

3ـ من أعماله الأدبية " رحلة قطار كل يوم" قصص عام 66 / "سقوط رجل جاد " قصص 69 / "الحديقة" رواية عام 76 / "بيت في الريح" قصص 78 / "الملح" رواية عام 80 /"أنتم يا من هناك " رواية 86 / " المعمار الفنى في الروايات الصوتية" مقالات لم تجمع في كتاب نشرت في مجلات عربية ومصرية متفرقة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى