أدب أندلسي أحمد عبد المعطى حجازى - لما بدا يتثنى..

أعود فى هذه المقالة إلى الموشح أكتب عنه للأسباب ذاتها التى شرحتها فى المقالة السابقة، وهى ما يتصل بالموشح من أفكار ومعلومات وحقائق لا تستوعبها مقالة واحدة عن هذا الفن الذى نعرف أنه ثمرة من ثمرات اللقاء الخصب الذى تحقق بين اللغة العربية وشعرها،

واللغة الرومانسية التى كان يتكلمها الإسبان وشعرها. كما أن هذا الفن الذى عبر عن هذه الثقافة المزدوجة رحل إلى المشرق واستقر فى مصر واتخذها وطنا واصل فيه سيرته بعد أن فقد وطنه الأول. فابن سناء الملك ينظم عشرات الموشحات فى الأوزان التى نظم فيها الأندلسيون ويبتدع أوزانا جديدة، فضلا عما قام به فى تحديد شكل الموشح واستنباط قواعده والتمييز بين صوره المختلفة، وذلك فى كتابه الرائد «دار الطراز فى عمل الموشحات». وابن سناء الملك يشير فى مقدمته لكتابه إلى ما أضافه لهذا الفن فيقول: «إن الموشحات مما ترك الأول للآخر وسبق بها المتأخر المتقدم وغادر بها الشعراء من متردم». والاشارة هنا لقول عنترة بن شداد فى مطلع معلقته «هل غادر الشعراء من متردم؟» أى أن الشعراء الأوائل لم يتركوا معنى إلا وسبقوا إليه فلم يبق للمتأخرين ما يضيفونه. وهو قول لايصح فى نظر ابن سناء الملك على الشعراء الأندلسيين الذين بدأوا النظم فى الموشح لكنهم تركوا لمن جاءوا بعدهم من المصريين وغير المصريين المجال فسيحا ليواصلوا النظم فيه والاضافة إليه. بل نحن نرى أن الموشح الذى بدأ فنا عربيا من حيث لغته انتقل فى الأندلس إلى اللغة العبرية لغة اليهود الاسبان الذين استخدموا اللغة العربية فى إحياء لغتهم وفى نظم الموشحات بها. لأن العربية والعبرية لغتان ساميتان من أصول واحدة.

< وقد وقفت فى المقالة السابقة عند نموذج من موشحات ابن سناء الملك ونموذج آخر لشاعر مصرى آخر معاصر هو طاهر أبو فاشا. وسوف أقف فى هذه المقالة عند نماذج أخرى من موشحات الشعراء المصريين السابقين والمحدثين. لكن هناك سؤالا أريد أن أجيب عليه قبل أن أصل إلى هذه النماذج وهو: لماذا احتفت مصر بهذا الفن؟ ولماذا عاش فيها الموشح وازدهر؟...

والاجابة بكل بساطة أن مصر كانت منذ تولى السلطة فيها أحمد بن طولون فى الثالث الهجرى التاسع الميلادى بلدا مستقلا. وقد تأكد هذا الاستقلال مع الفاطميين ومن بعدهم الأيوبييون والمماليك. والاستقلال يعنى الاستقرار الذى توطنت فيه اللغة العربية وازدهرت فيه الثقافة.

ولقد كانت مصر بموقعها وباستقلالها محطة ينطلق منها المشارقة فى طريقهم إلى المغرب والأندلس، ويحط فيه الأندلسيون والمغاربة رحالهم وهم فى طريقهم للحج، وربما آثروا الإقامة فيها فأقاموا. وقد نزلها الأمير الأموى عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) يوم ترك دمشق حتى لايقع فى أيدى أعدائه العباسيين وانطلق منها إلى الأندلس ليؤسس فيها للأمويين خلافة جديدة عاشت نحو ثلاثة قرون.

والأندلسيون الذين استوطنوا مصر والاسكندرية خاصة كثيرون منهم أبوبكر الطرطوشي، والشاطبي.. وأبوالعباس المرسي، وابن خلدون الذى ولد فى تونس ونشأ فيها وتنقل بين مدن المغرب والأندلس ثم هاجر إلى مصر وبقى فيها يلقى دروسه فى الأزهر وفى غير الأزهر من المدارس المصرية.

ومن أجمل ما تركه الأندلسيون فى حديثهم عن مصر وفى التعبير عن عواطفهم نحوها موشح لأثير الدين الجيانى يتحدث فيه عن فاتنة مصرية نظرت أو نصبت له بعينيها شركا فوقع فى حبها كأنه لم يعرف الحب إلا فى مصر أو كأنه جاء من الأندلس ليعشق القمر فيها:

نصب العينين لى شركا
فانثنى والقلب قد ملكا
قمر أضحى له فلكا
قال لى يوما وقد ضحكا
أتجى من أرض أندلس
نحو مصر تعشق القمرا؟

ثم إن العوامل التى ساعدت على ظهور الموشح فى الأندلس شبيهة بالعوامل التى أثارت الإعجاب بهذا الفن فى مصر وساعدت على أن يتوطن فيها ويعيش حتى اليوم كما نرى فى هذه النماذج التى أقدمها فيما يلى وأبدؤها بموشح لصدر الدين بن الوكيل:

وصدر الدين بن الوكيل شاعر مصرى ولد فى دمياط سنة 566 هجرية ـ 7621 ـ ميلادية، واشتغل بالفقه وتخصص فى المذهب الشافعى ونظم الشعر فى مختلف الأغراض والأشكال، فى القصيدة، والموشح، والزجل، لكن شعره فى الموشح وفى الحب والخمر هو أكثر إنتاجه وأجمله:

ليذهبوا فى ملامى أية ذهبوا
فى الخمر لافضه تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فى تصرفه
وجه جميل، وراح فى الدجى لهب
لاتأسفن على مال تمزقه
أيدى سقاة الطلا والخرد العرب

هذه اللغة الشعرية المشرقية تختلف عن اللغة التى نظم بها صدر الدين بن الوكيل موشحاته. فلغته فى الموشحات أندلسية بمعجمها وصورها وإيقاعاتها كما نرى فى

هذا الموشح:

ليت شعرى!ما على ذات اللمِّيّ
لوشفى برد لماها ألمي
سفرت بدرا وماست غصنا
وعلى كثب النقا قد القنا
ياشبيه الشمس حسنا وسنا
إن من سماك شمسا ظلما
أى شمس طلعت فى الظلم
أيقظت وجدى بطرف ناعس
قد سبا كل نفور آنس
أنت يا أخت الغزال الكانس
فعلت عيناك فى القلب كما
فعلت فى الحرب أسياف الكمي!

الوزن والبحر (الرمل) والقوافى فى هذا الموشح تذكرنا بموشح لسان الدين بن الخطيب «جاءك الغيث إذا الغيث همى يازمان الوصل فى الأندلس». وهو حوار يدور دائما بين الموشحات المصرية والموشحات الأندلسية، وربما دار بين الموشح المصرى والشعر الأندلسى المنظوم فى الشكل التقليدى كما نرى فى موشح آخر لصدر الدين بن الوكيل استدعى فيه نونية ابن زيدون المشهورة وتحاور معها:

غدا منادينا محببا فينا
يقضى علينا الأسى لولا تأسينا
ياجيرة بانت عن مغرم صب
لعهده خانت من غير ما ذنب
ما هكذا كانت عوائد الحب
لاتحسبوا البعد! يغير العهد
إذا طالما غير النأى المحبينا

لكن السمات المصرية واضحة كذلك فى موشحات صدر الدين بن الوكيل نجدها فى قوله «ماهكذا كانت عوائد الحب» وفى قوله فى الموشح السابق «إن من سماك شمسا ظلما» فهى تعبيرات دارجة نعرفها ونستخدمها فى لهجتنا العامية.

ونحن نعرف أن الخرجة التى يختتم بها الموشح الأندلسى يفضل فيها أن تنظم بالعامية، أو باللغة الأصلية التى كان يتكلمها الإسبان قبل أن يدخل العرب المسلمون بلادهم. كما نعرف أن الموشح كله شكل شعرى لاينظم ليقرأ فقط، بل ينظم ليلحن ويغنى أولا فى مجالس الأنس والمنادمة التى يتحرر فيها الناس بما يأخذون به أنفسهم فى نشاطهم اليومى الجاد ويتخففون منه فى هذه المجالس فيطلقون فيها أنفسهم على سجيتها وينطقون بما يخطر لهم دون تكلف، وهكذا تسنح الفرصة للعامية فتحتل مكانا إلى جانب الفصحي، وقد تتغلب على الفصحى وتحتل المكان كله كما نرى فى الموشحات التى نظمها المصريون كلها بالعامية.

وقدمها لنا الشاعر الفنان شهاب الدين فى موسوعته البديعة «سفينة الملك ونفيسة الفلك».

وشهاب الدين محمد بن اسماعيل بن عمر شاعر كاتب موسيقى ولد فى مكة فى أواخر القرن الثامن عشر ورحل إلى مصر ليتعلم فى الأزهر وينخرط بعد ذلك فى الحياة الثقافية التى ازدهرت فى القرن التاسع عشر، فهو يساعد فى تحرير «الوقائع المصرية» ويصحح الكتب فى مطبعة بولاق ويصاحب الوالى عباس الأول ويلازمه فى حله وترحاله.

وشهاب الدين شاعر موسيقى أولع بالغناء والتلحين وخاصة بالموشحات التى جمع الكثير منها فى «سفينة الملك» وتحدث عنها حديث شاعر مغن يعرف البحر الذى نظم منه الموشح كما يعرف المقام الموسيقى الذى لحن فيه. وقد ضمت موسوعته مئات من الموشحات المنظومة بالفصحى وبالعامية.

ليش المليح غضبان ولايكلمني
وطرفه الوسنان بالسيف يكلمني
ناديت يافتان بالله ارحمني
أعرض وما سلم وراح يتعاجب
والعين ماتعلو يوما على الحاجب!

هنا يحق لنا أن نتحدث عن المطرب المصرى الشهير محمد عبدالرحيم المسلوب الذى ارتبط اسمه بفن الموشح وبواحد يعد من أشهر ما نظم ولحن وغنى فى هذا الفن وهو موشح «لما بدا يتثنى».

والشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب هو شيخ المطربين المصريين فى القرن التاسع عشر وأستاذهم. ولد عام 3971 وتعلم فى الأزهر ثم درس الموسيقى وتضلع فى أصولها وأصبح مرجعا فى غناء الموشحات والأدوار وتتلمذ على يديه عبده الحمولي، وكامل الخلعى وسواهما من كبار المطربين والموسيقيين المصريين. وامتد به العمر حتى توفى عام 8291 وهو فى عامه الخامس والثلاثين بعد المائة.

أما الموشح الشهير ففى نصه أكثر من رواية، وذلك بسبب شهرته الواسعة وجريانه على كل الألسنة، وهذه إحدى الروايات:

لما بدا يتثنى غض الصبا والدلال
حبى جماله فتنا أفديه هل من وصال
أومى بلحظة أسرنا فى الروض بين الظلال
غصن سما حينما غنى هواه ومال
وعدى وياحيرتى مالى رحيم شكوتي
فى الحب من لوعتى إلا مليك الجمال!

يرى الناقد السورى سعد الله أغا القلعة أن هذا الموشح ربما كان أشهر موشح عربى. وقد اختلف المؤرخون حول مؤلفه وملحنه فمنهم من نسب النص للشاعر الأندلسى لسان الدين بن الخطيب وهو زعم لا دليل عليه. ومنهم من نسبه للمطرب المصرى محمد عبدالرحيم المسلوب نصا ولحنا.

وليس هناك مغن عربى لم يغن هذا الموشح الذى تحول على يد المؤلف الموسيقى المصرى أبوبكر خيرت إلى عمل سمفوني.

فإذا كان لابد من ختام لهذا الحديث فأجمل ما أختمه به موشح أحمد شوقى الذى نظمه فى الأندلس على أوزان موشح ابن الخطيب وقوافيه وسماه «صقر قريش» الذى سبقه إلى الأندلس. لكن عبدالرحمن الداخل ذهب الى الأندلس ليحيى ملك آبائه الأمويين وشوقى ذهب منفيا بعد أن اشتعلت الحرب العالمية الأولى وخشى الانجليز المحتلون مما يمكن أن ينظمه شوقى ضدهم فقرروا نفيه وطلبوا منه أن يختار منفاه فاختار إسبانيا، وهناك كتب مسرحيته «أميرة الأندلس» ونظم نونيته التى استوحاها من نونية ابن زيدون، كما نظم الموشح الذى أقدم منه هذه المقاطع:

مَن لنِضْوٍ يتنزَّى ألَما
برّح الشوق به فى الغلَسِ
حنَّ للبان وناجى العلَما
أين شرقُ الأرضِ من أندلسِ
بلبلُُُ علّمه البينُ البيان
بات فى حبل الشجون ارتبكا
فى سماء الليل مخلوعَ العنان
ضاقت الأرضُ عليه شبكا
كلما استوحش فى ظل الجنان
جُنَّ فاستضحك من حيث بكى
ارتدى برُنُسَه والتثما
وخطا خطوةَ شيخ مُرعس
ويرُى ذا حدَبٍ إن جثما ً
فإن ارتد بدا ذا قعس
قلت لليل ولليل عواد
مَن أخو البث فقال: ابن فراق
قلت: ما واديه؟ قال الشجو واد
ليس فيه من حجاز أو عراق
قلت: لكن جفنه غير جواد
قال: شر الدمع ما ليس يُراق
نغبط الطير، وما نعلم ما
هى فيه من عذابٍ بَئِس
فدع الطير وخَّطا قُسما
صبر الأبك كدور الأنسِ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى