صفاء عبد المنعم - كسر رخام.. قصة قصيرة

يرقد أبى بالحجرة المجاورة.
لم أكن أعرف فى يوم من الأيام، أنه سوف يجىء الوقت الصعيب، الذى لا يرانى فيه أبى، ولا يسمعنى، وهو الذى كانت أحاديثنا لا تنتهى أبداً منذ ذهابى إليه حتى مغادرة البيت.
كنا نقلب الماضى والذكريات، كما نقلب السكر داخل أكواب الشاى الساخنة صباحاً، وجميع من فى البيت لم يستيقظ منهم أحداً بعد إلا أنا وأبى.
يجلس هو على الكرسى القريب منى. وأنا أجلس على الكنبة البلدى الباقية من روح أمى الحبيبة والتى أعشقها كثيراً.
هو يحكى. وأنا اسمع.
ونتبادل الخبرات والحوارات الشيقة عن(الأهل، والأصدقاء الراحلين والحاضرين، وأحوال البلاد والعباد..) وكلما تذكر شيئاً من ماضى طفولته البعيدة منذ عام 1936 يحيكها لى بكل ود وصدق، وكأنه يقف أمام مرآة يرى فيها شبابه وطفولته البعيدة.
وكلما أنتهى كوب الشاى.
يسألنى : تشربى شاى ياقطة؟
أجرى بسرعة نحو المطبخ، واصنع كوبين من الشاى السادة لى وله، ونعود إلى حكايتنا، هو يحكى بشغف، وأنا اسمع بمحبة مفرطة، ودهشة قوية لتاريخ واحداث لم أعشها من قبل.
وحتى لو حكى الحكاية فى مرات سابقة من تاريخ الزيارات الفائتة، أو حكها منذ دقائق فى مناسبة ما، ثم أعاد حكيها فى مناسبة أخرى كنتُ لا أمل من حكيه وحديثه مهما طال بنا الوقت.
أنا أبنته الكبرى.
التى حملها على يده ليلة كاملة وهو جالساً يتأمل وجهها البض الصغير، وهى نائمة فى حالة سكون تام، ظل يتأمل وجهها حتى مطلع الفجر وهو صامتاً.
هكذا قالت لى أمى قبل وفاتها فى إحدى أحاديثها القديمة وهى تنشط ذاكراتها معى.
قالت لى : يوم ولدتك، ظل والدك يحملك على يده، وظل جالساً ينظر إلى وجهك غير مصدقاً أنه أصبح أب بعد زواج دام خمس سنوات كاملة، لم أنجب خلالها.
وجربت فيها جميع الوصفات البلدية والأدوية وأطباء كثيرين، وفى النهاية أنفجر طبيب كبير فى وجهى قائلاً : أنتِ طفلة صغيرة، رحمك رحم طفلة لم تنضج بعد، عندما تنضجين سوف تصبحين أم.
صمت بعدها، ولم أعد أبحث عن أطباء، ولا أستخدم أى وصفات بلدية، وسلمت أمرى إلى الله، ولكننى ظللت أدعو الله كل يوم قبل النوم(اللهم أرزقنى، اللهم أرزقنى) ورزقنى الله بكِ بعد خمس سنوات كاملة قضيتها فى الدعاء، ظللت خلالها أدعو الله سراً وجهراً، حتى أستجاب لى.
وبعد أن حملتُ فيك ولمدة تسعة أشهر كاملة، كنتى بداخلى طفلة هادئة، لا تتحركين، ولا تضربين بطنى بقوة أو عنف، فعرفتُ أنكِ سوف تكونين طفلة هادئة ومطيعة.
وبعد الوضع.
ظل والدك جالساً لمدة ليلة كاملة، وهو يحملك على يده غير مصدقاً، فحفر الكرسى الخشب فى رأسك الطرى حفرة عميقة، ولكنكِ لم تبكين، أو تصرخين، ظللت فاتحة عينيكِ الصغيرتين وتنظرين نحو وجهه النائم وهو يحملك على يديه.
فحملتك فى هدوء وسكون، وأخذت أرضعك، وأنا صامتة، أبكى واحسس بيدى المرتعشة على الحفرة التى صنعها الكرسى فى رأسك الطرى، ولم أخبر احداً فى البيت بذلك، وظلت الحفرة عميقة وقوية.
كانت كلما تحكى لى أمى هذه القصة، أضحك بأندهاش شديد وقوة، وأنا أقبلها من رأسها : وعشان كده ياجميل، طلعت راسى نشفة، ولا اسمع الكلام.
فتنهرنى، وتهشنى بيدها ضاحكة : طالعة لأبوكى، روحكم فى روح بعض، كأنه مخلفش إلا أنتِ.
هكذا كانت أمى كلما حكت قصة من القصص المريرة لحياتها، أو قصة من قصص التضحيات الكثيرة التى قدمتها من أجلنا كى تحافظ على هذا البيت.
كنت أضحك، وأملس بيد طيبة على رأسها وأقبلها.
وأحيانا كنتُ أمسك بيديها وأقبلها فى فضل وعرفان وصمت.
وكانت تنسحب بعدها من أمامنا فى هدوء شديد وتدخل حجرتها، تغلق الباب عليها، وتذهب فى نوم عميق.
لا أعرف إلى الآن بالضبط، لماذا أنسحبت أمى من الحياة بكل هذا الهدوء، وكل هذه السرعة!
المهم الآن.
أن أبى يرقد داخل هذه الحجرة فى صمت رهيب ومدمر لقلبى.
وكلما فتحت باب الحجرة، ونظرت نحوه، تنزل دموعى فى غزارة، تسقى الأرض تحت قدمى، وأحدثه بقوة، وصوت مرتفع كى يسمعنى : أزيك يابابا.
أصبح لا يعرفنى.
ولا يتذكرنى.
ولا ينظر نحوى مهما وقفت وحدثته، وأمسكت يده وقبلتها.
لدرجة أننى جلست إلى جواره على السرير فى هدوء، وأمسكت يده البضة الناعمة .. وحكيت له حكاية مولدى، لعله يسمعنى، أو يبتسم فى وجهى، أو يغلق عينيه، أى أمائة منه تشعرنى بأنه يستجيب لى.
وحدثته هكذا(أبى الحبيب، أنا أبنتك الوحيدة، فى قبيلة الذكور التى حملتها على يديك لمدة ليلة كاملة، بعد ولادتها مباشرة، وأخذت تتأمل وجهها البض الصغير، وقد صنع الكرسى الخشب، فى رأسى حفرة عميقة، ولم تخبرك أمى بذلك حتى لا تغضب من نفسك).
وأخذت يده الناعمة بين يدى، ووضعتها على رأسى فوق الحفرة تماماً حتى يتذكرنى.
وشعرت بأناملة تتحس الجرح القديم الغائر.
فطفرت من عينى الدموع.
وأحتضنته بقوة شديدة وهو نائماً أمامى على السرير. فأخذ يربت على ظهرى بحنو أب شعر بأن شخصا ما يجلس إلى جواره، ودفء ما يسرى فى يديه.
دون أن يدرك تماماً من هو هذا الشخص ويسمع صوته، أو يرى وجهه.
لقد حكى لى أخى بالأمس أن أبى أصبح يخلط بينهم فى الأسماء، فهو لا يعرف الآن تحديداً من هو الذى يرافقه فى الحجرة، فكلهم أصبحو عنده سواء.
وعندما لمح أخى الحزن البادى على وجهى، فتح الموبايل، وأخذ يسمعنى أخر حوار دار بينه وبين أبى قبل أن يفقد السمع، ويرتكن إلى الصمت تماماً.
رأيت الفيديو.
أبى يجلس فوق السرير، وأخى يدلك له يديه، ويسأله حتى ينشط الذاكرة الهاربة.
- أنتَ فين يابابا.
- أنا فى الجنة.
يضحك أخى ويدلك له صدره.
- فى الجنة من أمتى؟
- بقالى سبع تيام هناك.
هكذا يقول بصوت مرتفع ولسان متلعثم، وكلمات قليلة.
فيضحك أخى ضحكة عالية.
- لأ ياحبيبى أنتَ هنا فى مستشفى التأمين الصحى.
يترك أبى يده تسقط من يد أخى الممسكة له، ويقول غاضباً.
- عايز أنام .. أنام.
يضعه أخى على السرير.
ينزلق بهدوء طفل وديع، ويتركه، يذهب فى نوم عميق.
عندما أرانى أخى هذا الفيديو وهو يضحك ويقهقة : أبوكى كان فاكر نفسه فى الجنة. وهو كان فى المستشفى. ثم ضحك ساخراً(كان فاكر نفسه نايم على سرير أمه الحديد، وهو بيتقلب شمال ويمين، قال كان فى الجنة قال؟!) ثم تركنى وخرج من الحجرة لكى يدخن سيجارة.
كنتُ أريد أن أنهره بشدة، وهو يضحك بسخرية ومرارة لاذعة، فهو يدرك بالشكل المباشر، والوعى المدرك، أن أبى كان نائماً منذ عشرين يوماً على سرير حديد فى مستشفى التأمين الصحى، وأنا أدرك بحسى الإبداعى، أن أبى كان فى الجنة مثلما قال له، يمرح مع صغاره الذين سبقوه بأعوام طويلة، فعنده فى الجنة هناك ولد وبنت توفيا صغاراً وهما الآن يأخذان بيده من على السرير، ويدخلانه الجنة الموعودة.
وبعدما عاد أخى وجلس على نفس الكرسى إلى جوارى فى الصالة الواسعة، وأنا جالسة على نفس الكنبة الأثيرة لدى، وأبى يرقد فى الحجرة المجاورة لنا، أخذ يبكى لمدة طويلة، وينهنة مثل طفل صغير، وأنا أربت على ظهره، وأتحسس الحفرة الغائرة فى رأسى، وأبكى معه فى صمت بكاءً مراً.

21 مارس 2019

الكاتبة صفاء عبد المنعم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى