الديماني ولد محمد يحيى - الدرة.. وحلم البقاء - قصة قصيرة

ودع "إيمان" بسرعة البرق.. سار في شوارع المدينة بخطى متسارعة.. الغبطة تملأ جوانحه، لقد اختارته لتلك المهمة النبيلة..عبق من التاريخ يحثه على السير.. تذكر أمجاد أجداده الكنعانيين.. ودولتهم العظيمة في "يور سالم"...

قبل خمسة آلاف سنة – من الآن- بنى أجدادك مجدا عظيما على هذه الأرض، أرض النبوءات، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه..حكايات جدته، وهي تكفكف الدمع بعدما فعل الجنود الصهاينة بابنتها، يسترجعها بمرارة...!!

لم يكن في هذه المدينة الطاهرة أي يهودي في تلك الفترة...

خيل إليه أنه يرى "ملكي صادق" و "يبوس" وهما يتعانقان في قصر "أورسالم" ويتبادلان أطراف الحديث...

تلمس الحجارة من جديد ما زالت في جيبه..واصل السير بخطى حثيثة، تذكر، وهو يسير كلمات "إيمان" العذبة وهي تصف طريقة التنفيذ:

عزيزي "الدرة" ستضع الحجارة الواحدة فوق الأخرى حتى تكتمل السارية فوق قبة الصخرة، وترفع عليها علم الوطن الذي سأحوكه –أنا- في نفس الوقت... !

تراءت له القبة تطاول سطوح المنازل ، ميزها من دون عناء، ما زالت أوصاف "إيمان" لها ماثلة بين عينيه (الشكل، اللون، المكان...)، تسلق الجدار بسرعة، واعتلى القبة.. موجة من الرؤى اللذيذة تزاحمت في عقل "الدرة"، وهو يلامس سطح القبة، عمر بن الخطاب يعطي الأمان لأهل المدينة، يزيل عن الصخرة ما بها من أقذار، عبد الملك بن مروان منهمك في بناء القبة، وصلاح الدين يرفع فيها المصاحف ويعين الأئمة، ويضع المنبر في المسجد الأقصى..ذكريات جميلة تمتزج بالمرارة المتولدة في نفس الفتى وهو يتذكر تدنيس الصهاينة للمسجد الأقصى كل يوم واعتداءاتهم المتكررة عليه... !؟

استرجع الإشتباكات التي تقع بين شباب الإنتفاضة والمتطرفين اليهود في رحاب الحرم المقدسي...حجافل من الجنود الصهاينة مدججين بالسلاح في مواجهة شيوخ ونساء عزل... !

شباب وأطفال يقذفون الحجارة صوب الجنود..أرضية الحرم حجارة، وعبوات فارغة ودخان يتصاعد..دماء ودموع في كل اتجاه... !!

تذكر باشمئزاز محاولات الصهاينة الدنيئة لهدم المسجد الأقصى وتهويد القدس الشريف، قصة الأنفاق المريبة..وهيكل داود المزعوم..تألم في الصميم للموقف المخجل للقادة العرب وهم يتفرجون... !!

تجرع ألم الذكريات وبدأ بتنفيذ المهمة.. بدا منهمكا يختار الحجارة بعناية كبيرة، "إيمان" دقيقة الملاحظة، تحب الجمال، تحب النظام...

بدت المهمة مسلية، أقرب ما تكون إلى ألعاب الأطفال.. انتابه شعور بالمرارة، لقد تذكر أيام الطفولة، وكيف حرمه الاحتلال متعة اللعب... !!

آخر المحاولات كانت في ذلك اليوم الأسود، أذعنت الجدة لطلباتي المتكررة، وذهبنا إلى السوق، كم هو مروع ألسنة اللهب تتعالى وسحب الدخان تتكاثف... !!

تعال يا ولدي لا تخف سينفرج الكرب وتحصل على لعبة جميلة...

ماما ! لقد احترق محل الألعاب بالكامل.. بقايا ألعاب متفحمة يرفسها الجنود بأقدامهم، والأطفال يبكون... !

اسكت يا ولدي، سأصنع لك لعبة..

كفكف الدمه وواصل بناء السارية، كان يخشى أن تسبقه "إيمان" وتأتي بالعلم قبل انتهاء البناء.

أخذت السارية ترتفع شيئا فشيئا، سره منظرها وهي تعانق السماء!

نظر بزهو ناحية الأرض، كمن يطلب شيئا، فإذا بإيمان ترتسم على شفتيها العسليتين ابتسامتها المعهودة، وهي تقدم علم الوطن بين كفيها، وقد تناسقت ألوانه تناسقا يخطف الألباب.

استظلا بالسارية، وقد رفرف عليها العلم، تبادلا نظرات الإعجاب وابتسامات الاستحسان.. كانا سعيدين، لقد حققا حلم الحياة، حلم البقاء على الأرض المقدسة.

الديماني ولد محمد يحي


الدرة وحلم البقاء فائز في المسابقة المنظمة من طرف اتحاد الأدباء والكتاب
إيمان: طفلةمن فلس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى