عبدالرزاق دحنون - أوائل الأمثال المُدوَّنة

من يترك حرفاً على الآجر, يتألق مثل الشمس
حمورابي

يحمل المثل بهجة المعرفة البشرية التي تراكمت عبر العصور, ويمثل عصارة الحكمة الشعبية التي تجلت في هذا القول المختصر الذي تناقلته ألسن الناس جيلاً بعد جيل.

فهل المثل له قيمة الدستور الذي يحكم العلاقة بين البشر على اختلاف أهوائهم ومشاربهم؟ أم هو وجهة نظر تمثل عقلية الفرد أو المجموعة البشرية أو المجتمع الذي أطلق المثل في وقت من الأوقات؟ أم هو قول طريف يحمل روح السخرية من الحياة الصعبة التي ورثها البشر من أبيهم آدم؟ أم أن قيمته تكمن في تصويره حالة اجتماعية تاريخية ومرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والفكري للناس؟

يبدو أن المثل يجمع بعضاً من هذه العناصر كلها, لأننا إن كنا في ريب من الأخوة البشرية المشتركة بين جميع الأقوام والأجناس؛ فإننا نرجع إلى أقوالهم السائرة وأمثالهم وحكمهم ومواعظهم ووصاياهم, لأنها أكثر من أي نتاج أدبي آخر, تخترق قشرة الاختلافات الحضارية وفروق البيئة, وتكشف أمام أعيننا طبيعة البشر الفطرية في كل زمان ومكان.

يقول الميداني في مجمع الأمثال نقلاً عن إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. والمثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر بين الناس، والأصل فيه التشبيه، فقولهم مثل بين يديه إذا انتصب. وقد سميت الحكم أمثالاً لانتصاب صورها في العقول، مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب. وقد قدر العرب الأمثال تقديراً عالياً فجمعوها وصنفوها وأخرجوها في كتب رقيقة الحواشي منخولة العبارة قيمة المعنى. وأقول -وعساه يكون قولاً مقبولاً-: إن أفضل المصنفات في هذا الباب هو مجمع الأمثال للميداني.

والميداني هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري، والميدان حارة من حارات نيسابور كان يسكنها فنسب إليها. وهو أديب ولغوي فاضل. مات في رمضان سنة 518 هـ، ودفن بمقبرة الميدان.

وهنالك رواية تقول: بعد ما ألف الزمخشري كتاب (المستقصى في الأمثال) اطلع على مجمع الأمثال للميداني فدهش لحسنه وجمال صنعته, ويقال إنه ندم على تأليفه المستقصي في الأمثال لكونه دون مجمع الأمثال في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد.

وقد كنت أسمع بمجمع الأمثال للميداني ولم اجتمع لا بالميداني ولا بكتابه في معارض الكتب التي زرتها في دمشق أو في جامعة حلب أو معرض الكتاب في أبوظبي أو معرض الشارقة للكتاب وهذه المعارض تجتمع في أروقتها آلاف مؤلفة من الكتب. وقد هداني الله إلى نسخة إلكترونية موافقة لطبعة دار المعرفة، بيروت لبنان بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. وقد كانت هذه النسخة جليسة محببة لشهور عدة، والجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً, وقد وجدت عند الميداني عالماً غنياً من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مدرك عارف بحقائقها. نعم, أقولها بكل ثقة, فاجأني مجمع الأمثال بما يحمل من معارف في العلوم والفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم اللغة وعلم النبات وعلم الحيوان والطبخ والأزياء, وندمت لأنني لم أسع إليه بجهد وتصميم أكبر في فتوتي.

والسؤال الآن: متى بدأت الشعوب تدون أمثالها وحكمها ومواعظها؟ في الجواب: استمر الظن عند الناس أن سفر الأمثال في التوراة هو أقدم مجموعة من الأمثال في التاريخ المدون, وقد كتبت في القرن الخامس قبل ميلاد السيد المسيح في وحدات أدبية، ثم جمعت هذه الأمثال والحكم في كتاب واحد ونسبت إلى الملك سليمان.

إلا أن هذا الظن تراجع مع نشر الباحث في علم الآثار إدوار كييرا عام 1934 جملة ألواح فخارية وكسر ألواح من مجموعة مكتشفة في مدينة نفر السومرية على الفرات جنوب شرق بابل في بلاد مابين النهرين. تضمنت هذه الألواح أمثالاً يرجع تاريخ تدوينها إلى الألف الثاني قبل ميلاد السيد المسيح. وقد أتيحت الفرصة للباحث الشهير في السومريات صموئيل نوح كريمر بين عامي 1951 – 1952 كي يستنسخ الألواح الموجودة في متحف إستانبول في تركيا عن هذا الموضوع. وعهد بها إلى الباحث إدموند جوردن, وبعد أشهر من العمل المتواصل وجد جوردن أن مجموعات كثيرة من الأمثال السومرية يمكن جمعها وإكمالها من المادة التي كانت بين يديه، وقد استطاع جمع زهاء 300 مثل من الأمثال الكاملة تقريباً. والكثير من هذه الأمثال لم يكن معروفاً من قبل. ويجب القول إن هذه الأمثال قد رويت وأعيدت روايتها في أكواخ القصب وتناقلتها شفاه رعاة الضأن الفقراء وشفاه أجيال من الأمهات السومريات قبل أن تنقش على ألواح من طين دجلة والفرات.

والمدهش أن تكون هذه الأمثال, بما عبرت عنه, وكأنها تحكي حال البشر اليوم, بحيث لن نجد صعوبة كبيرة بعد مرور آلاف السنين على تدوينها في معرفة ميولنا وحوافزنا وعيوبنا وآمالنا وأحلامنا الضائعة. وكما هو حادث في زماننا كان لبلاد سومر فقراؤها الدائمون مع همومهم ومتاعبهم, وقد أوجزوا ذلك إيجازاً بديعاً في هذه المقاربة:

خير للفقير أن يموت من أن يعيش، فإذا حصل على الخبز عدم الملح, وإذا كان لديه الملح عدم الخبز، وإذا كان لديه اللحم فيكون قد فقد الحمل, وإذا كان عنده الحمل فيكون قد فقد اللحم. وكان الفقير يلجأ إلى إنفاق ما ادخره أو كما عبر عن ذلك المثل السومري: يقضم الفقير فضته. وفقراء بلاد سومر كانوا على العموم قانعين بما قسم الله لهم من الأرزاق فقالوا: من ملك الفضة الكثيرة فقد يكون سعيداً, ومن ملك شعيراً كثيراً فقد يكون سعيداً, ولكن من لا يملك شيئاً في وسعه أن ينام. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

ونجد الفقير في بعض الأوقات يندب حظه لأنه صاحب رفاق السوء فيقول: أنا جواد أصيل لكنني ربطت مع البغل ووقع علي جر العربة وحمل أكداس القصب والقش. وفقراء بلاد سومر يحتارون في أمر معاشهم ومصروفهم كما نحتار نحن اليوم فيقولون: كتب علينا الموت فلننفق وما دمنا سنعيش طويلاً فلنوفر. أما عندما يقترضون من الآخرين لتحسين شروط حياتهم فيقعون في مأزق أشد وأدهى, وعبروا عن ذلك بقولهم: يقترض الفقير فتركبه الهموم. والظاهر أن خوف الإنسان الفقير من جابي الضرائب في أيامنا هذه كان له ما يماثله عند أهل سومر فهم يقولون: يمكن أن يكون لك سيد أو يكون لك ملك لكن من تخشاه فهو الجابي.

وقد فطن رب الأسرة السومرية بحصافته وحرصه ما للعيال وكثرتهم من هموم وتعب ومشقة في توفير الزاد والخبز لأفواههم الشرهة، فقال: يد ويد ويعمر البيت, معدة ومعدة ويخرب البيت. والعرب تقول: العيال سوس المال. وقد ذكرني هذا المثل السومري بذلك الزوج العربي الفقير حين بشرته امرأته بأن ابنه قد نبت ثغره- نبتت أسنانه- فقال: أتبشرينني بعدو الخبز؟ اذهبي إلى أهلك. ونحن نسأل ما ذنب تلك المرأة المسكينة؟

وقد ضجر الآباء من مشاغبات أولادهم وتمردهم فقالت الجدة السومرية تصف هذا الوضع: ما كل عيال الفقير خضوعين على السواء. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر في آية هي في مضمونها وتلاوتها من ألطف ما سمعه البشر على مر العصور: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا, وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23-24). وانظر إلى حنان الأم السومرية وحدبها على أطفالها وهي تحدث جارتها بهذا المثل: قالت الكلبة باعتزاز: لا فرق عندي أكانوا صغاري بلون الظبي الجميل أم مرقطين مثل أولاد الضبعة المرقطة فإني أحب صغاري.

وقد أدرك فقراء سومر ما للزواج من احتياجات يعجز الشباب الصاعد عن الوفاء بها فقالوا: من لم يعل زوجة أو طفلاً فقد سلم أنفه من المقود. والإشارة هنا إلى الخطام الذي يربط بأنف الأسير. وكثيراً ما كان الزوج السومري يشعر بأنه مهمل كما يؤكد المثال القائل: زوجتي خرجت إلى المعبد وذهبت أمي إلى النهر وأنا أموت جوعاً في البيت.

أما عن لجلجة المرأة وإلحاحها وتبرمها فقال المثل السومري: المرأة المتبرمة في البيت تضيف عذاباً إلى عذاب, فلا عجب إذا ما وجدنا الرجل السومري يندم على زواجه فيما يتضح من المثل الآتي: من أجل لذته الزواج وإذا ما تدبر الأمر الطلاق. كما أنه لا عجب إذا ألفينا العريس والعروس يدخلان في الحياة الزوجية وهما في مزاجين مختلفين كما في المثل القائل: القلب الفرح العروس والقلب المغتم العريس. أما عن الحماة أم الزوج أو أم الزوجة فيظهر أنها كانت أهون شراً من نظيرتها في العصور الحديثة, فلم تأتنا أي قصص أو أمثال عن الحماة السومرية, ولكن الكنة زوجة الابن هي التي كانت ذات شهرة لا تحسد عليها, ويظهر هذا واضحاً من المثل الذي يبين ما هو حسن وما هو رديء للرجل: الزوجة مستقبل الرجل والابنة خلاص الرجل والابن ملجأ الرجل أما الكنة فشيطان الرجل.

وكان أهل سومر يقدرون الصداقة تقديراً عالياً إلا أن القريب أدعى للاهتمام وصلة الرحم, وإذا كنا اليوم نأخذ بالحديث النبوي: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»؛ فإن المثل السومري يقول: تدوم الصداقة يوماً ولكن القرابة باقية إلى الأبد. والملاحظ أن الأمثال السومرية تزخر بالحكمة والموعظة الحسنة, والمثل السومري يقول: تخلصت من الثور الوحشي فجابهتني البقرة الوحشية, وهذا يشبه قول الشاعر:

المستجير بعمر عند كربته = كالمستجير من الرمضاء بالنار

ويمعن الحكيم السومري في قول لطائف الأمثال وأندرها:

لم يمسك الثعلب بعد ولكنه يصنع الحبل لعنقه. هل يكون حمل بلا جماع وهل يكون سمنة بلا أكل؟ وكل إنسان يميل إلى من يلبس الثياب الفاخرة. ولم يستطع كلب الحداد أن يقلب السندان فقلب وعاء الماء بدلاً منه. تباهى الفيل وقال ليس مثلي في الوجود فلا تشبه نفسك بي فأجابه عصفور صغير: ولكن أنا مع صغري وقلت شأني خلقت كما خلقت أنت.

وعن الحرب والسلم وجد أهل سومر أنفسهم في المأزق ذاته الذي يحدق بنا اليوم كما جاء في أمثالهم: الدولة الضعيفة في العدة والسلاح لا يمكن أن تطرد العدو عن أبوابها. ومن يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام. تذهب فتأخذ أرض العدو ثم يأتي العدو ويأخذ أرضك. وقد وقف السومري بحزم ضد دكتاتورية الإنسان وتسلطه فقال: الإنسان أطول إنسان لا يمكن أن يطال السماء, الإنسان أعرض إنسان لا يمكن أن يغطي الأرض.

أما حين يشرك السومري الحيوانات في صياغة المثل يصبح هذا المثل حكاية طريفة تدل على ذوق رفيع وفكر يجمع بين الواقع والخيال, فأنت تجد السومري في الأزقة الهادئة لمدينة أور يقول لرفيقه: لم يستطع الثعلب أن يبني لنفسه بيتاً فدخل بيت صديقه كالمنتصر. ويغمز من قناة أهل السياسة بقوله: المدينة التي لا توجد فيها كلاب حراسة يحكمها ابن آوى.

عبدالرزاق دحنون
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى