محمد خضير - لغة الماء..

تتصف لغة الماء بالانحدار من الشمال الى الجنوب، انحدار الطبائع البشرية والأحوال الطبيعية، في دورات متعاقبة من الخصب والجدب، والثورة والهدوء. ويبدو أن لغة الانسان العراقي، غير المحصورة بلسان أبجديّ، هي تلك المرتبطة بهذين الانحدارين الطبيعيين والبشريين، أو الدورتين المائيتين: الغضب والهدوء.
في مقتبل حياتي الأدبية كتبتُ قصة عنوانها "النداء" وردتْ فيها تسمية "روح الماء"، أما في وسط الحياة فقد كثرت ألفاظُ الماء مع اتساع رقعته وطوفاناته، ثم شحّت في نهاياتها مع انحسار الماء في دجلة والفرات وروافدهما.
كانت روح الماء الهامسة وحياً غامضاً يوجّه حركاتي ومشاعري المتراوحة بين حرمانٍ وإدقاع، وإلهامٍ مُسرِف في عطاياه الانسانية والطبيعية. أما الدورة الثانية فكانت امتداداً للروح الملهِمة الاولى، لكن بصيغة البحث عن لغة تذلل غضبي وتملأ روحي بالسلام المفقود. وخلال هذه الدورة تسللت الى نصوصي ألفاظ الرموز الأسطورية والطبيعية المخيفة، المتصلة بالماء في انحداره من الأعلى الى الأسفل.
قد تشكل الدورة الثالثة من لغة الماء بحثاً نهائياً سِمتُه الانحسار والترسُّب اللذان يمثلانهما دورا الفيضان والصيهود لحوضي الرافدين المتغير مع تغيرات الروح ونضوب غضبها. إنها مرحلة السلام التي يرعاها الواقعُ المتسع على اليابسة، المكتظ بالمهاجرين؛ وأصبحتُ أرتقيه بمفردات باقية في وَشَل "الكشكول" ذي الصفحات المتناقصة من لغة الماء.
لم تعد لغة الماء سوى انتقالٍ من غضب التيار المنحدر من التضاريس الشمالية الغاضبة الى مجرى ضيق في مساحات الأهوار السطحية اللامعة كصحفة "الطابَق" وقرص الرزّ المخبوز على سطحها المفلطح.
رؤيا تجرّ ذيولها كما يجرّ الرافدان الغاضبان وعداً مستحيلاً بدورة أخيرة من لغة الدعة والسلام.
رؤيا أشارك بها الملايين المتوترة التي تتشتت لغاتها كلما تغير اتجاه الانحدار من الشمال الى الجنوب.
وليس من ناجٍ في أعقاب الطوفان إلا الروحُ الباحثة عن جُوديّها..
ولكلّ نصيبُه من هذه اللغات، كثُرَ أم قلّ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى