محمد مباركي - صبي في ليل البحر

أعياني المشي على الرصيف الطويل في ليل السعيدية الصيفي، بعد نهار قضّيته سابحا بين صفحات
" مئة سنة من العزلة " . استهوتني رواية " غابرييل كارسيا ماركيز " . تمنيت أن تطول الرواية إلى ما لا نهاية. تموقعتْ قرية " ماكوندو " في داخلي ، تغلي fأحداثها وأبطالها كالمرجل.
أعياني المشي، فجلست على الكورنيش موليا ظهري جحافل المارة تمشي الهوينى. نصف عراة كانوا يمشون وكأن نهار العري على الرمال الملتهبة لم يكفهم. كنت أنظر إلى البحر تحت الأضواء الكاشفة العالية مشبكا يدي على ركبتي اليمنى، أتأمل سحر البحر وقد لبس ظلام الليل . صعدتْ منه سحابة بخار بطيئة، واندفعت منه أمواج متلاطمة وقت المد، بيضاء كالحليب المخثر، تتكسر بجنون على الشاطئ برائحة الصدف البحري. وقوارب صغار الصيادين هناك بعيدة تتلألأ قناديلها البترولية الصغيرة وسط صمت العتمة وأعماق البحر.
أحسست بقلمي يرتعش في الجيب الأيسر لقميصي، ثلاث رعشات وسكن . لم أأبه لرعشاته، لكنه عاود الارتعاش بعنف أكبر من السابق. قلت "ربما حان وقت الكتابة" . لاح لي موضوعان في أفق البحر الأسود أمامي. الأول حول السعيدية كيف انشقت على نفسها نصفين . النصف الأول بكرنيشه وشوارعه الطويلة العريضة وفيلاته وملاعبه ومخيماته، وبدا لي النصف الثاني ، كقرية " ماكوندو " ، امتد حتى حي طنجة، بطرقه المتربة الغارقة في مستنقعات المياه العادمة الآسنة وسحب البعوض والذباب.
صرفتُ قلمي عن الموضوع الأول إلى الموضوع الثاني : شابة متسولة جالسة على قارعة الطريق بين يديها صبي يئن ويغالب النعاس. ظهرت على وجهه الضامر دمامل لسعات بعوض المدينة الحاقد. بصدره المكشوف عمدا على خرقة، كان يتوسد فخذ أمه، برزت أضلاعه من تحت جلده البرونزي، تعدها ضلعا ضلعا. سمعته يستجدي أمّه مادا يده إلى وجهها قائلا :
- لنذهب !!
وهي تردّ عليه شاردة وقد مزّقها السؤال:
- إلى أين؟
مكانه يا امرأة هناك، في البيت وليس على رصيف تبولت عليه كلاب البيتبول والكوانيش والمارة.
يا لتعاسته !!. وددتُ أن أقف وأقول للمتسوّلة:
"هذا آدمي وليس بضاعة تبيعين وجهه بالتسول"
ستغضب، وسيتحول وجهها الضامر المثير للشفقة إلى قطعة من حديد وسترد:
- هذا ليس من شأنك. ابتعد يا ولد...
سأواصل إمطارها بأسئلتي :
- من يكون أبوه؟ سكي؟ عربيد؟ قاطع طريق؟ أين هو؟ في الحانة؟ في دور القمار؟ في البيت؟ في السجن؟
قطع نهوض الصبي من مكانه حبل أسئلتي. كان يتعثر في النعاس والساعة أعلنت منتصف الليل وبَرُدَ حال الدنيا. تبوّل قرب أمه على الحائط، مسّها رذاذ بوله. كان بُنيا وعطنا. صادف تبوله مرور ثلاثة شبان. قال له أولهم صارخا:
- تبوّل بعيدا !!
قال الثاني لصاحبه :
- اترك عنك الصبي.
قال الثالث : إنه يتبوّل على كل الذين تركوه بلا نوم على الرصيف حتى هذا الوقت.
مدّت الأمّ يدها إلى ثلاثتهم مستجدية. أكرموها بثلاث نظرات. سلقتْ مؤخراتهم الممسوحة بنظرة حاقدة، و قالت بصوت منخفض:
" تفو "
تطلع إليها الصبي وقال :
" تـْفويَيْنْ ".
كانت "تفو" الأولى عليهم والثانية عليها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى