سعيد فرحاوي - المهدي نقوس في قصة " تغريبة الفتى عباس الثاني".. حكاية التحول من المكان الرحيم الى المكان العدواني

قصة بطلها المكان العدواني بامتياز . قصة ( تغريبة الفتي عباس الثاني)، هي ثاني قصة من مجموعته التي اختار لها عنوانا مثيرا، سنحدد دلالته بعد انتهائنا من دراسة قصص مجموعته ككل، لان اسم المجموعة ليس موضوعا بشكل اعتباطي انما له دلالة خاصة، ارتأينا تعطيل الكلام فيه ونتركه الى الخلاصة الناتجة بعد انتهائنا من العمل ككل، قلت القصة المذكورة هي ثاتي عمل له في مجموعته التي اختار لها عنوان (صنائع من نوبة عراق العجب)،بعد تاملي في هذا النص القصصي، و حسب القصاص، سبق ان نشر في جريدة العلم، لاحظت ان تيمة المكان تشكل القيمة المهيمنة و المحورية، بل الاكثر من ذالك قد اذهب الى جعل المكان هو الفكرة اامحورية والشخصية الاساسية، من منظور ان القصاص حدد كل اعتبارات موضوعه في هذا المحور على ان التحول من مكان الى اخر ،يشكل اساس كل شيء. قلت المكان، وانا اعني المكان المعادي والمكان المرافق او المصاحب او المكان الحميمي، ذالك هو ما سنحاول توضيحه وتفكيكه في هذه المقاربة.
ابتدأ القصة باسطر شعرية لمحمد الخمار الكنوني يقول فيها:

( ما بالهم حين مررت
كشروا عن انيابهم
ثم مضوا لا يرجعون
مابالهم
لم يبق منهم في المدى
سوى صدى نباح)

مايهمني هنا هو المرور الذي يعني الانتقال من مكان الى اخر، مرور رافقه صدى نباح ،وتكشير الانياب، صاحبنا هو الاخر في مروره، تحول من المكان الاول/ القرية، حددها بمواصفات كثيرة، قال فيها وعنها، انها قرية الاحلام والكرم ، كل شيء فيها يصاحبه الكرم الذي لامثيل له، الاكل الذي يناسب عشر رجال قد يمتد ليصل قدره اطعام عشرون فردا، حتى الكلاب والقطط والحيوان يتميزون بطيبوبة وكرم خاص ، وحسن معاشرته، القرية حيث الاهل والاحباب ، حبث الطيبوبة والمحبة الصادقة، قرية فيها الاب يوصي ابنه الذي قرر الذهاب الى المدينة بان لايقع ضحية النصب واللصوص وتكالب مكان ليس فيه ما يرحم، وام دموعها دعاء وغضب نتيجة فراقها ابنها واخوة يحسبون لذهابه الكثير، بمعنى مكان طبيعي فيه من الرحمة ما يؤهل الشخصية ان تعيش في امان، في مقابل ذالك مكان اخر عدواني، لاامان فيه و لا رحمة، كل من يعيش فيها من سكان لارحمة في قلوبهم ولاامان ، مكان قال عنه السارد:

( عالم غريب مسكون بالهشاشة والارتجال والضحيج والترقب، والمارة متأبطين شرورهم ... يغدون السير، لايكلون من المشي والنميمة والفضول ... لايلتفتون، لايتوقفون ، لايبالون ... يلتقون ويتصادمون ...يراوغون اوهامهم)، ص 26


مدينة بمكر مبالغ فيه ، كل شيء فيها مزيف، وصاحبنا يصطدم بمكان ذهب اليه مكرها،كما قال في الصفحة 25

( لم اكن ارغب بزيارتها ، لكني اتيتها مكرها)

هي مكان عدواني بالدرجة الاولى، لكنها مع ذلك تشكل مكان الحلم المفتقد، (تسوقني قطعان احلاني الندية)،
بذلك تظهر طبيعة الاحلام والرغبات والبحث عن المصير في اماكن تعادينا بامتياز، كل من فيها يحتقروننا، عكس البلدة ، التي تمثل ارض الله الطيبة، لكنها ضائعة ومنسية ومهملة، والنتيجة ضياع ساكنتها والبحث بعيدا عن قطعة خبز مليئة بالسم ( وصلت الى وسط مدينة.. لم يكن لها قلب)، في مقابل ذلك السكان هنا يحتقرون كل وافد جديد طالبا قطعة خبز ليستمر في الحياة(رددت على الحاجب رغبتي ..

( حدجني باحتقار..)، ص 30، زاد من تاكيد كلامه هو استحضار كلاما لمحمود درويش الذي قال: ( فمن لا دار له لاقبر له)
هكذا راى السارد تواجده في مكان يرفضه بكل شرلرة، رفض جاء بعدة صيغ على راسها قمة الاحتقار والاهانة، وجد نفسه في مكان يرفضه بكل الصيغ والدلالات ؛ اصبح يرى نفسه بان من لا مكان له لاقبر له ايضا حتى في مماته. كل ذالك ولد قلقا وجوديا عميقا عبر عنه بعدة مصطلحات ، جاءت تعبيرا عن قمة الجرح واللالم، منها

( درت حول المكاتب دورة ، وحول نفسي دورة كاملة، اخدني دوار وغثيان، ..... ولم تفطن لوجودي .... انا الابله، الاجوف، الاحمق، الاخرق، الاهوج، الاهبل، الاناني، الانتهازي،الأمي، ......،)

اتى ب107 صفة رديئة يسب ويلعن بها نفسه، وهي تعبير ساخط ورافض لواقع المذلة والعار الذي تسبب له بها هذا المكان الشرير والمريض.
قصة ( تغريبة الفتى عباس الثاني تمثل قمة السخرية والرفض واللعنة العدوانية لمكان ملعون وخاطئ، او ان شئنا القول هي قصة المكان بامتياز بشقيه ، المكان الرحيم/ القرية، والمكان الجحيم /المدينة،
بتحول المكان تتحول الرؤيا وتتحول الحياة، ليصبح الانتقال هو مسعى لتحقيق الحلم فيتحول هذا المرور ليسقط السارد في المكان/ الحياة الجحيم.




نقوس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى