أدب السجون محمد المخزنجي - سجن النساء..

كان سجن النساء المكون من طابق أرضى واحد يواجه سجن الرجال ذا الطوابق الخمسة وبينهما مسافة فاصلة تقارب المائة متر. وفى عتمة وسكون الغروب، حيث تكون أبواب الزنزانات والعنابر والبوابات كلها قد أوصدت، يبدأ عبر النوافذ المصفحة بالقضبان عرض حى من غزل المساجين، فتُخرِج واحدة من السجينات يدها من بين مربعات قضبان نافذة زنزانتها منادية: «ياواد ياواد»، ويجاوبها المُنادَى: «ياواد يااللى باحبك»، فتسأله: «شايف إيدى؟». ويرد المحبوب: «أيوه شايفها»، ثم بدوره يُخرج يده من بين تقاطع قضبان زنزانته ويسألها: «شايفة إيدى انتى»، وتجيب: «أيوه شايفاها»، بينما كلاهما لا يرى إلا غبَش نبضة صغيرة فى مربع صغير بين تقاطع قضبان نافذة بعيدة.

وفى هذا الغروب الذى يكون أقسى أوقات السجن قهرا ووحشة، تندفع إحدى المسجونات فى فعل غريب يتقاطع مع تواصل الحبيبين، فتخرج ثديها من بين تقاطع قضبان شباك زنزانتها وتخبِّط عليه وهى تنادى عابثة: «يا واد يااللى مالكش فى الطيب نصيب»، فتجاوبها عشرات الحناجر الذكورية بصيحات صخب ضاحك لمجرد إدراك فعلها لا رؤيته، عندئذ يتسلل شاويش من «حرس الليل» تحت نافذة الثدى الطافر من بين القضبان، ويباغته بضربة من حزامه الميرى السميك العريض الثقيل، تدوِّى صرخة المرأة بصعقة الألم، ويضج فضاء العتمة بين السجنين بشتائم الرجال للعساكر ودعوات النساء عليهم بالأمراض والمصائب، ثم تهدأ الأصوات وتخفت، وترفرف بين السجنين حوارات أسيانه، سرعان ما ينضم إليها الشاويش المذنب مبديا ندمه على غباوة مزحته، لاعنا يده الخرساء وعمى حزامه الميرى، ثم يهبط الليل وتجثم الوحشة.

وفى وحشة ليل من ليالى السجن الثقيلة تلك، صلصلت فى السكون الكابى مفاتيح الشاويش المناوب يفتح بوابة العنبر، وسُمِع صوت حذاء البيادة الثقيل يتجه نحو الزنزانة التى كان يسكنها طالب الطب مع ثلاثة من المُتهمين معه فى قضية 18 و19 يناير. انفتح الباب وأطل الشاويش موجها كلامه لطالب الطب: «هات عدتك وتعالى، فيه بت تعبانة فى عنبر الآداب»!
قفز زملاء زنزانته يجهزونه للخروج وكأنه مبعوث لقارة مسحورة لا يعرف سطوة سحرها مثل الرجال المسجونين، وقد كانوا فى النهاية محض رجال مسجونين.

أخذوا يهندمونه سامحين له بدور استثنائى فى ارتداء «الروب ديشامبر» الذى تركه لهم زميل أُفرِج عنه مبكرا، وكانوا يتبادلون ارتداءه طبقا لجدول يمنحهم أدوارا عادلة فى الشعور بنفحة من حياة البيوت البعيدة. وبكل العطر الذى فى حوزتهم ضمخوه وأخذوا يسوون شعره ويعدِّلون هيئته، واستقروا بعد التجريب على أن وضع جهاز الضغط تحت إبطه الأيسر أكثر وجاهة، أما السماعة فاتفقوا على أن طيها فى جيب الروب الأيمن بحيث يبرز جزؤها المعدنى اللامع سيجعل له سحرا طاغيا على «الحريم»!

أخذوا يوثقونه بالوعد أن يحكى لهم كل شىء عند رجوعه «بتفاصيل التفاصيل»، ثم أطلقوه محتفين بخروجه فى هذه البعثة التاريخية التى لا تُتاح لسجين إلا فى أحلام المساجين والأسرى، الجائعين والعطشى لصورة الأنثى، حيث سيمنحهم عند عودته «تفاصيل تفاصيل» الأصوات والكلمات والحركات والسكنات التى ستغمره فى حضرة النساء، النساء اللائى لا يعرف أحد فى العالم قسوة الحرمان من وجودهن مثل مساجين الرجال، قسوة تجعل من ظهور أى أنثى فى سجن الرجال حدثا كونيا ترتج له قلعة الجدران الحجرية والنوافذ المصفحة وبوابات الفولاذ الموصود. وكان يكفى أن تجىء ممرضة نصف شابة ربع حلوة فى إحدى حملات التبرع بالدم، حتى يصطف كل السجناء فى أطول طابور يمكن أن يستوعبه حوش السجن والدرج الصاعد إلى مبنى «العيادة»، بينما كل سجين فى الطابور مهما كان عمره وكانت صحته يبدو مستعدا للتبرع بنصف دمه لمجرد أن يقترب من طيف أنثى!

وهو يتقدم فى ردهة سجن النساء تحت حراسة سجانتين ضخمتى الجثة، كانت النوافذ الصغيرة المصفحة بالقضبان فوق أبواب الزنزانات تلوح وراءها وجوه السجينات شاحبة قاتمة، ثم انفتح باب عنبر «الآداب» حيث تقيم المريضة التى أحضروه للكشف عليها، فأبصر سبع سجينات تتراوح أعمارهن بين العشرين والثلاثين، لكنه لم ير فيهن هذا التبرج الذى حلم به أصحابه، ولا العُرى الذى يمنح سجينا حفنة من صور الأنوثة السافرة يُغْنى بها خياله وخيال زملائه حتى يخرجوا إلى حياة الحرية فلا يوقنون أنهم أحرار إلا بوجود الأنثى فى الحياة، لا كوجود جنسى حصرا، بل كأطيافٍ رِقاق ترطب جفاف العالم وتُلين قساوته، فالمرأة هى دليل الحرية الأكبر فى حياة الرجال، المرأة الأم، الحبيبة، الزوجة، الأخت، البنت، وكل نساء العالمين. لكنه لم ير نسوة فى تلك الزنزانة، فى ذلك الليل!

لم ير غير عيون تشخص إليه بضراعة لسجينات فى جلاليب دمور خشنة طمست أنوثة أجسادهن، أما المريضة التى استُدعى للكشف عليها بإذن من المأمور بعد تأخر طبيب السجن فى المجىء وصراخ زميلاتها لنجدتها، فلم يكتشف وجودها إلا بعد أن أشارت الأيادى الوجلة باتجاه ظهر الزنزانة فاكتشف كومة القش البشرى التى هرسها الزمان والألم. وعندما ركع بجوارها مرتعشا ارتعاشة طالب طب ألقته يد الأقدار مبكرا فى التجربة، لم ير غير بؤس الجسد الأنثوى المُهان ونزيف حملٍ يتفاقم إجهاضه، فصرخ تائها يستغيث بعربة إسعاف تنقل الغارقة فى دمها إلى المستشفى حتى لا تموت، ثم خرج لا يرى أمامه وحوله غير الليل، بينما كانت هناك رائحة قابضة غريبة ظلت تتبعه حتى بعد خروجه من المكان، بل من السجن كله، ولم يعرف سر هذه الرائحة إلا بعد سنين.

فى مستشفى المعمورة للأمراض النفسية عمل هذا الطبيب فى بداية اختصاصه لعدة أشهر، وكان أكثر ما يؤلمه فى عمله الذى اختاره بشغف هى تلك المناوبات الليلية التى كان يتوجب عليه فيها أن يمر بعنابر «قسم الحريم» قبل انتصاف الليل لضمان الهدوء حتى الصباح. كان ينقبض من بؤس العنابر الطويلة وصفوف الأَسرَّة الحديدية المُسجَّاة عليها جثامين المريضات الموتى الأحياء المنقوعات فى الأدوية المُخمِدة.

أما ذروة انقباضه فكانت بسبب الرائحة التى تعرَّف على مثلها لأول مرة منذ سنوات فى عنبر سجن للنساء بعيد، ولم يعرف كنهها إلا فى هذا المستشفى، فى عمق هذا الليل، وفى وحشة هذه العنابر: رائحة الأنثى فى حضيض الانسحاق!

الأنثى التى هى أطيب فواكه الأرض، ثمرة الحاضر الشهية وحاضنة بذور المستقبل، مدبرة شئون البشرية من الميلاد حتى الممات، الأنثى هذه عندما تنسحق تتحول إلى نقيض فاجع لكل ما تمثله وبأضعاف أضعاف تحولات الرجل تحت شروط مشابهة، تنقلب هِبة نظافة البيوت ونحلة الترتيب ووردة الحنُوِّ إلى خرقة متسخة مهجورة تكسر قلب كل من فى صدره قلب، خرقة ناشفة متغضنة بتأثير دمٍ يابس، وتفوح منها تلك الرائحة التى لا تشبهها فى قبض الصدور رائحة، رائحة قمل الشعر الذى يفتقد العناية ورائحة دم الحيض الذى لا حيلة لسجينة أو مجنونة فى إحكام تدبيره أو مُداراتِه..

رائحة ضياع المرأة من المرأة عندما تُفقَد العقل أو تفتقد الحرية. ومن العجيب أن هذه الرائحة نفسها أو تكاد، هى التى عاودت خنقها لذلك الطبيب وهو يمر فى عنبر المريضات المسنات ذوات الرءوس الحليقة بيضاء الشعر واسعة العيون المحدقة فى التيه، بذلك العنبر النائى بطرف أطراف قسم الحريم العتيق بمستشفى العباسية. وهى الرائحة التى يستطيع تمييزها مهما كانت محاولات سترها بالمطهرات فى غرف ملاجئ النساء العجزة أو بالمُعطِّرات فى دور رعاية المسنات المهجورات من الأقارب.

هذه الرائحة المعتمة هى التى أضاءت لهذا الطبيب يقينا صار من ثوابت رؤيته مع الأيام والسنين: فى مجتمع ذكورى، ما من ابتذال للأنثى إلا ويُسأل عنه الرجال. فما من عطب أنثوى إلَّا وراءه ذكورة معطوبة، حيث الحياة أنثى، ومصر مؤنثة، والأرض كذلك، والمياه والطاقة والثورة. بينما الحُكم مُذكَّر، والأمن مذكر، والتعصب مثلهما، فكلها مفردات ذكورية، ولا يقول رجولية، لأن الرجولة هى التى تصون للأنوثة عِزَّتها. وليس رجلا من ييسر بتعصبه أو نرجسيته أو تراخيه، إعادة مصر إلى السجن والمهانة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى