نقوس المهدي - منامات الشيخ ركن الدين الوهراني

الشيخ الوهراني "ذاك المجهول" هكذا يصفه الدكتور عبدالمالك مرتاض .. وهو أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني، الملقب بركن الدين، وقيل: جمال الدين.. أديب مغاربي من مدينة وهران بغرب الجزائر عاش في القرن السادس الهجري (16 م ) ، يكاد ان يكون غير معروف في تواريخ الأدب. ويبقى مجهول الاصل والنسب - لأن معظم الباحثين المعاصرين لا يهتمون إلا بجوانب الجد في الادب القديم، فيما يهملون جوانب الهزل والنكتة والدعابة والسخرية والمزاح - لولا بعض من تناول سيرته من الادباء والمؤرخين، الذين اعترفوا ببراعة كتاباته وخفة دمه وبداعة أسلوبه وتفرده ، وخاصة في المنام الكبير الذي أثنى عليه ابن خلكان ثناء كبيرا. قائلا عنه في كتابه "وفيات الأعيان": "أحد الفضلاء الظرفاء، عدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوة، ولولا طوله لذكرته".

وقال عنه ايضا: " أحد الفضلاء الظرفاء، قدِم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام صلاح الدين ـ رحمه الله تعالى ـ وفنه الذي يمُتُّ به صناعة الإنشاء. فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب ، وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، ولا تنفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد ، وسلك طريق الهزل"
ثم ترجم له الصفدي في كتابه "فوات الوفيات" قائلا: "أحد ظرفاء العالم وأدبائهم. سلك ذاك المنهج الحلو والأنموذج الظريف وعمل المنام المشهور، وعلى الجملة فما كاد يسلم من شر لسانه أحد ممن عاصره، ومن طالع ترسله وقف على العجائب والغرائب".
وقال الدكتور سهيل زكار في تقديمه: "أجاد أخي أبو فراس في عمل كتاب الوهراني المهم تحقيقاً ودراسة، وأخرج، أو لأقل أعاد إخراج الكتاب ضبطاً وشرحاً، ولا شك أنه سيكون لكتاب الوهراني فائدة عظيمة في إخراجه منفرداً مع الدراسة الوافية حول حياته ونشاطاته، ومع الشروح الضرورية للاصطلاحات المتنوعة".
وقال الدكتور منذر الحايك في دراسته: "إن أهمية كتابات الوهراني الحقيقية تنبع من أهمية عصره وما جرى فيه من التحولات السياسية والمذهبية والاجتماعية، وكشفه العديد من الأمراض الاجتماعية: الرشوة واغتصاب المال العام واللواطة والزنا وجلسات المجون التي كان يشارك فيها قضاة وأمراء وتجار، كما أعطانا فكرة عن مشكلات الجواري والغلمان. وهذه كلها أمور كانت شائعة ولكن الأدب الرسمي يسكت عنها. والمدهش في كل ما كتب الوهراني هو جرأته المستغربة في ذلك الزمان، فقد كتب بلهجة من لا يخشى سلطة وزير أو أمير". كما كتب عنه فضل الله العمري في "مسالك الأبصار"، وابن قاضي شهبة في "الأعلام"، والسيوطي في الكتاب المنسوب إليه "الكنز المدفون". أما حديثا فقد كتب عنه محمد كرد علي في المقتبس، وخير الدين الزركلي في الأعلام، وفريد وجدي في "دائرة معارف القرن العشرين"، والدكتور عبد المالك مرتاض في كتابه " فن المقامات في الأدب العربي"، وأبو علي حيدر في مجلة "عيون المقالات" المغربية في عددها السادس والسابع الصادر عام 1987م، وصلاح الدين المنجد في "مجلة المجمع العلمي" في جزئها الأول من المجلد الأربعين، والصادر في يناير عام 1965م، وغنام غنام، وادونيس وغيرهم.

وقد عاش الشيخ ركن الدين الوهراني الذي يحسب على زمرة ظرفاء العرب والمتغابين والمتحامقين مثل اين سودون ( نور الدين أبو الجسن على ابن سودون العلائى البشبغاوى المصرى )، وعبدالله النباحي، وابو العبر الهاشمي ، وابن الجصاص ، وابو العنبس الصيمري، وسعد القرقرة وغيرهم من الذين حاولوا التخفيف من ثقل ما طرقوا من مواضيع بنهج ما نصطلح عليه بـــ " الكتابة المريحة" كما يقول الناقد رشيد الخيون، وملؤوا الدنيا مرحا ودعابة وسخرية وقد عاش حياته مرتحلا محبطا من عصره ساخرا من ناسه وعكس كل ذلك في أدبه فكان من أبرع الأدباء.. و توفي في عام 1575ميلادي.. تاركا نصوصا نثرية في صورة منامات ومقامات ورسائـل وخطـب، حققها إبراهيم شعلان ومحمد نغش تحت عنوان: "منامـات الوهراني ومقاماته ورسائله"، وراجعها الدكتور عبد العزيز الأهواني، وصدرت عن دار الكاتب العربـي فـي القاهرة عام 1968م، يتألف من مائتين وسبع وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط. وصدر في طبعة اخرى عن منشورات الجمل سنة 1998..

( قال الشيخ ركن الدين محمد بن محمد الوهراني ، يصف بغداد المحروسة وسفرته إليها:
لما تعذرت مآربي، واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي علي غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي، ومن أخلاف الأدب رضاعتي، فمامررت بأمير إلا حللت ساحته ، واستمطرت راحته، ولا وزيرا إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سَيبَه، وأفرغت جيبه، فتقلبت بي الأعصار، وتقاذفت بي الأمصار، حتي قربت من العراق، وسئمت من الفراق، فقصدت مدينة السلام، لأقضي حَجَّة الإسلام، فدخلتها بعد مقاساة الضر ، ومكابدة العيش المر، فلما قرَّ بها قراري، وانجلي فيها سِراري، طفتها طواف المفتقد، وتأملتها تأمل المنتقد، فرأيت بحراً لا يعبر زاخره، ولا يبصر آخره، وجنة أبدع جَنَّانُها، وفاز باللذة سكانها، لا يميل عنها المتقون، ولا يرتقي إلي صفتها المرتقون، (كمثل الجنة التي وعد المتقون) فأرحت نفسي من سلوك الغور والفج، وجلست أنتظر أيام الحج، وتاقت نفسي إلي محادثة العقلاء، واشتاقت إلي معاشرة الفضلاء ، فدلني بعض السادة الموالي، إلي دكان الشيخ أبي المعالي فقال:
- هو بستان الأدب ، وديوان العرب، يَرجِع إلي رأي مصيب، ويضرب في كل علم بنصيب، فقصدت قصده ، حتي جلست عنده فحين نظر إليّ، ورأي أثر السفر عليّ، بدأني يالسلام، وبسطني بالكلام . وقال: من أي البلاد خرجت، وعن أيها درجت؟
فقلت:
- من المغرب الأقصي، والأمد الذي لا يحصي، ومن البلد الذي لا تصل اليه الشمس حتي تكل افلاكُها، وتضج أملاكها، ولا القمر حتي يتمزق سَرجِهُ، ويتداعي بُرجه، ولا الرياح حتي يحجم إقدامها، وتحفي أقدامها.
قال:
- كيف معرفتك بدهرك، ومن تركته وراء ظهرك؟
فقلت:
- أما البلاد فقد دُستها وجُستها، وأما الملوك فقد لقيت كبارها، وحفظت أخبارها، وقد كتبت في ذلك مجلداً ، وتركت ذكرهم فيه مخلداً، فأي الدول تجهل؟ وعن أيها تسأل؟.................
ومن ذا الذي يا عزَ لا يتغير،
*تعس الزمان فقد أتي بعجائب،،
*ومحا فنون الفضل والآداب،،
*وأتي بكتاب لو انبسطت يدي،،،
*فيهم لردتهم إلي الكُتاب،،،،،،،
...................
*رعي الله ليلات تقضت بأنسكم،
*قصاراً وحياها الحيا وسقاها،
*فما قلت آه بعدها للسامر ،
*من الناس إلا قال قلبي آها،
..................
*إن جري بيننا وبينك عُتب ،
*أو تناءت منا ومنك الديار،
*فالوداد الذي علمت مقيم،
*والدموع الذي عهدت غِزارُ، )



نقوس المهدي


الشيخ ركن الدين الوهراني.jpg
أعلى