عبدالرحيم التدلاوي - الملمح السيرذاتي في رواية "رعشة" وتقنيات الكتابة.. قراءة في رواية أمجد رشيد مجدوب

رعشة هي الرواية الأولى لأمجد رشيد مجدوب، والفائزة في الملتقى العربي الرابع للرواية، شهر أبريل من سنة 2018. تمتد على مساحة نصية تقارب 109 صفحة، جاءت على شكل فصول أو مشاهد بأرقام تصل إلى 64 رقما.
قامت الرواية عبر بعض صفحاتها بالحديث عن العنوان، وتفصيل الحديث فيه، كما جاء في الصفحات التالية: 18 و19 و59 و72 و73 و97، حديث يبدو لي أن السارد ومن خلفه المؤلف، يبغي تسييجه حتى لا يسقط في قراءات غير بريئة من مثل القراءة التي قدمتها صديقة نسرين حيث قالت: هذه رواية جنسية، لابد أنها كلها مشاهد إباحية، للحصول على تلك الرعشة. ص97. وهذا ما أراد تفاديه، فسارع إلى الحديث المسهب عن العنوان والمسيج له. وتعقيبا على هذه القراءة الجنسية المرفوضة، يقول جمال: ضحكت أيضا.. وغصت هنيهة أتامل ما تفعله العناوين فينا؟
يتخذ العمل من حياة جواد بؤرته السردية، وأسه الحكائي.
وعليه، يمكن لي أن أقول: إن الرواية محكي استرجاعي، يعتمد على استرجاع حياة جواد بعرض تفاصيلها من طفولته إلى لحظة بلوغه سن الخمسين. مرورا بمجموعة من المحطات التي شكلت شخصيته، وكونت ذائقته الأدبية، وأسست لخلفيته المعرفية التي منها يطل على العالم.
والسؤال، هو: هل الرواية ذات بعد سير ذاتي؟
بالنظر إلى مجموعة من المؤشرات، ينهض الجواب حاسما، لا، هي عمل تخييلي، من جملة هذه المؤشرات، التعيين الأجناسي، واختلاف أسماء الأثافي الثلاث للسرد؛ وهي: المؤلف، والسارد، والشخصية المحورية. فالمؤلف اسمه، أمجد، والسارد اسمه جمال، والشخصية المحورية تحمل اسم جواد، وبين أنها مختلفة، كما أن أمجد هو شخصية واقعية من لحم ودم، وخارج نصية، بخلاف الشخصيتين الأخريين، فهما شخصيتان تخييليتان من حبر وورق، وداخل نصية. ومن ثم، فإن النص رواية.

لكن، ينهض سؤال آخر: هل استطاع المبدع المغربي الانفلات من قبضة سيرته الذاتية أثناء كتابة عمله التخييلي.؟
أكيد أن السيرة ظلت حاضرة في النصوص الروائية للمبدعين المغاربة، وبخاصة في نصوصهم الأولى، وإذا أخذنا هذا المعطى بعين الإعبار، وأضفنا إليه العناصر التالية، وهي تقارب الأسماء، خلصنا إلى أن الرواية ذات ملمح سير ذاتي. كيف ذلك؟
لعلنا نلمس حضور حروف اسم المؤلف في اسمي الشخصيتين الأخريين، فالميم والجيم توجدان في اسم جواد، أما حرف الجيم ففي اسم جمال صحبة حرف الميم، مما يوحي بانصهار المؤلف في الشخصيتين معا. ثم إن جمال وجواد يشتركان في حرف الجيم، وفي الصيغة الصرفية، فعلان؛ وهي مؤشرات معتبرة لكنها غير حاسمة.
ولست معنيا بالبحث عن التقاطعات بين المؤلف والشخصية المحورية، فقد نجد تقاطعا واحدا على الأقل. من ذلك الولع بالأدب، والاهتمام به، والنهل من معين أدبي متشابه، وكتب بعينها، فضلا عن ممارسة الكتابة، السرد والشعر وغير ذلك بالنسبة للمؤلف، والشعر بالنسبة للشخصية المحورية، إضافة إلى الدراسة الجامعية، وإن لم يستطع جواد متابعتها حتى الحصول على الدكتوراه، كما هو الشأن بالنسبة للمؤلف.
إجمالا، يمكن القول: إن من يهتم بتجنيس النص قد لا يوصله اهتمامه إلى نتيجة تجعله يبوب نصه المقروء تحت خانة جنس أدبي معين. وإن توهمنا أننا نجدي التفريق بين أجناس أدبية بينها صلة قرابة شديدة. مثل السيرة والرواية أو ما يجمع بينهما. ونقصد_الرواية السيرذاتية، وسيرذاتية الرواية_ فإننا على يقين مخطئون "فمعرفتنا تقريبية جدا. ولسوف نرى ما يعتبره بعض القراء سيرة ذاتية، يمكن بكل يسر أن يعتبره البعض الآخر مذكرات أو رواية. 1
موضوع الرواية:
رواية رعشة تحكي تجربة حياة إنسان بسيط في مدينة عريقة بتاريخها وحضارتها، ومعالمها في فترة تعود إلى السبعينيات من القرن الماضي حين كان الصغار وبطل الرواية واحد منهم يشتغلون في خلال العطل المدرسية بالعمل في أنواع من الحرف، كما يقومون ببيع الحلويات ليساعدوا أسرهم، وأيضا من أجل توفير ما يساعدهم على اقتناء الكتب المدرسية، والترفيه عن النفس بمشاهدة أحد الأفلام الهندية في يوم عطلتهم. 2
تقنية السرد:
تسير الرواية وفق مستويين اثنين، يتداخلان مرة ويفترقان ثانية، المستوى الأول، يرتبط بالحكاية، حكاية جواد بكل ما تختزنه من ثراء وغنى تجربة، وما تحمله في طياتها من آمال وآلام؛ وفي الوقت نفسه، تعبر عن جدلية اللذة والألم؛ قصة حبه، وقصة معاناته مع المرض. أما المستوى الثاني، فيتعلق بمسألة التأمل؛ التأمل في شؤون الحياة وشروط الكتابة؛ ذلك أن الرواية أفردت جزءا مهما من صفحاتها للحديث عن أشجان الكتابة ومعاناتها، والجدوى منها. كانت الرواية تكتب حكايتها وتفكر فيها في آن.
اعتمدت الرواية عملية التقطيع، وتكسير سيرورة الأحداث مما جعل السرد لولبيا يذهب من نقطة ثم يعود إليها بعد الإنتقال إلى ما بعدها أو ما قبلها، في حركة مستمرة تسعى إلى تكسير تتابع الأحداث ،لا جعلها تسير سيرا كرونولوجيا تنطلق من نقطة البداية إلى نقطة النهاية بتدرج لا يحده حد، ولا يكسره حاجز.
يعود بنا السارد أثناء حكي حياة جواد إلى فترة الصبا والشباب مستعملا تقنية الفلاش باك / الاسترجاع – في السرد ليصف لنا حياة البطل بين أزقة فاس القديمة التي تزخر بمعمار من الطراز الفاسي الأندلسي، وكيف كان مسار حياته موجها من البداية ليكون شاعرا.
والجميل أن الرواية تعتمد المجمل والمفصل في سرد أحداثها، فبعد أن فصل الحديث عن طفولة جواد وما تميزت به من أحداث، نجده في الصفحة 19، قد أجملها، حيث يقول: لا شك أن ما حكاه جواد عن جدته الكبرى الخرساء، وعن الكلب المدفون، وعن الرمان الممنوع، وعن السباحة في البركة ودون أن نغفل المركبة المنزلة، عقيق يمكن أن نسلكه في الخيط الأبيض..

تعدد الرواة في الرواية
الرواية تعرف تعدد الرواة، وقد اختار الراوي أن تتعدد الأصوات التي تسرد أحداث الرواية نجد مثلا:
ـ نسرين، وهي من أصدقاء التواصل الاجتماعي.
ـ صاحب الحدس، وهذا كان له دور في توجيه مسار الرواية.
ـ الطيف الأنثوي، الذي خرج عندما كان الراوي يتأمل شكله في المرآة. وهذا بمثابة الرقيب، فهو يعرف ما يخفيه الراوي، تجده يهمس له بين الحين والآخر منبها إياه إن كان قد قال كل شيء…
وقد ترك لهم الكاتب حق اختيار النهاية التي ظلت غير معروفة، حين تركها قابلة لنهايات متعددة قد تتعدد بتعدد القرّاء واختلاف وجهات نظرهم؛ لأنه ارتأى أن يشارك فيها القارئ بدوره لينضاف إلى قائمة الرواة حين يقوم بملء بياضها بما يناسب خياله، مدعيا أن الأمر يتطلب اجتماع الرواة للنظر في الأمر، كما صرح لنا في الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية.
المكان في الرواية:
تعتبر الرواية التي بين أيدينا تأريخا للأماكن بقلم أديب متمكن من أدوات السرد. 2
المكان في الرواية:

الأماكن في الرواية تشكل أعمدة للرواية، وتشد أركانها بدءا بجبل زلاغ، وحي درب سلمى، وسيدي أحمد التيجاني، ومولاي ادريس، وجامع القرويين، ومكتبة البطحاء، والحمام والمسجد.
ولكل مكان ذكرى خاصة، وقد خص الأماكن بالشرح والتفصيل لما يميزها من معمار وكذا الفسيفساء الذي يزينها.
لم يقتصر وصف الأماكن على مدينة فاس؛ بل نجده كلما حل بمدينة خصها بذلك الوصف البديع، كما فعل أثناء زيارته في مرحلة الثانوي للرباط وأسهب في وصف سلا، وصومعة حسان، ونهر أبي رقراق…
الأمكنة في الرواية تستمد سلطتها ورمزيتها من علاقة البطل بها، وكيف كان لكل مكان ذكرى بَصَمَتْ حياته، وكانت بمثابة بناء متين لشخصيته كإنسان وكشاعر مما جعل لها ذلك الدور الفعال في بناء الرواية، وكأنها الحجر الأساس لذلك البناء السردي الذي لن يتسنى له الوقوف من دونها.
إن حديثه عن الأمكنة بهذا الشكل يدل على جذوره المنغرسة في عمق تلك التربة، وإلى حبه القوي لتلك الجذور رغم كونه من طبقة اجتماعية غير ميسورة الحال لكنه يعتبرها من القيم التي لابد أن يناضل من أجلها.
سرده البديع سلط لنا الضوء على جوانب من حياة الناس في تلك الفترة، وكيف كان البيت الكبير الذي يسكنه في حي درب سلمى يضم العديد من الأسر، يوم كان الجميع يساهم بشكل أو بآخر في تربية الأبناء، وبطل الرواية خير أنموذج على ذلك، يصرح لنا أنه تلقى تربية من الجميع، حتى من الجيران، وبقال الشارع…2
الزمن في الرواية.
الزمن ممتد من فترة الصبا في البيت الكبير مع الجدة الخرساء والجد، وزمن الدراسة الذي بدأ مبكرا، وكذا زمن العمل في مختلف الحرف أثناء العطل.
وزمن الثانوي، وعلاقته بالأقران ومشاركته بقراءات شعرية، وتشجيع أستاذة العربية، ونشر بعض أشعاره في الجرائد.
وزمن الدراسة في الجامعة وتلك الأمسيات الشعرية.
وزمن الطلبة الأساتذة أو منزلة بين المنزلتين كما يحلو له أن يسميها
وزمن العمل ( الوظيفة)
وزمن الصراع مع المرض الذي امتد لثماني سنوات
رغم الإحساس العميق بالوجع والألم غير أننا نجد البطل يصر على الحياة، ويقاوم من أجل البقاء باستعمال تلك الجرعات من الدواء التي تلازمه على امتداد اليوم، ورغم إحساسه بالضياع في دروب المرض، وتفكيره في الآتي من الأيام الذي يؤرق وجدانه فيرى شيخوخته وعجزه عن الحركة، ويرى الكرسي المتحرك، ويرى الرعشة التي ستحول حياته إلى جحيم فيكبر خوفه ويجعل إحساس الغربة والوجع في الفترة التي يعيشها تتسع رقعته ومع كل هذه الصور القاتمة يظل الأمل يصاحبه. 2
أهداف الرواية:
من بين أهداف الرواية حفظ الذاكرة المغربية وخاصة في ما يتعلق بالأطعمة والأشربة التي تؤسس للثقافة المغربية وتشكل خاصيتها بامتياز، توثيق يساهم في الحفاظ عليها من الضياع أو التلف، لا سيما وأننا نرى إقبال الناس على الأطعمة المستوردة وسريعة التحضير، والتخلي عن عادات الطبخ المغربي الصحي والسليم. فضلا عن حفظ تلك الحلويات التي ميزت فترة الخمسينيات إلى حدود السبعينيات، واختفت فجأة من الأحياء والدروب. كما أن الراوي عمد إلى وصف بعض الأمكنة الفاسية بشكل مفصل ليظهر بعدها الوظيفي والجمالي في آن..
وحفظ الذاكرة بوصف تلك الأعمة والأشربة يصب في اتجاه تجسيد الروح المغربية وخصوصيتها في الكتابة الروائية، سجل العرب اليوم، ليكون ذلك بمثابة القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها الفن والأدب المغربيان للثقافة العربية والإنسانية.
هدف المقارنة البناءة:
لم يكن الهدف من إدراج الثقافة الصينية وما تتميز به من تنوع وقيم إبراز ثقافة الرجل وأفقه الواسع، ولا التبجح بامتلاكه معرفة شاسعة، بل إن الهدف كان بغاية المقارنة بين حضارتين تمتلكان تقريبا نفس المرجعية القيمية، لكن الصينيين حولوها إلى واقع ملموس، في حين، تم ابتعادنا عن قيمنا الإسلامية السمحة، من هنا، كان دور ذلك الإدراج للفت الانتباه، واستنهاض الهمم، فلدينا، بحسب الرواية، مرجع مهم هو القرآن، لو أخذنا ما به من قيم إنسانية، وعملنا على تحويلها إلى سلوك يومي لكنا في غير الحال الذي نحن فيه.
ما يلفت الانتباه بشأن التأملات في الحياة والكتابة أنها جاءت في قلب النص؛ بمعنى، أنها جاءت في منتصف الرواية، وكأنها هي قلبها وروحها؛ فالكتابة أس الحياة، ومرتكزها الأساس.

هناك هدف آخر ذو أهمية، وهو الحب، فبه تشرق حياتنا، وبه نتجاوز محننا، هو بلسم لجراحاتنا؛ وقد أبدع السارد وجواد في الحديث عنه وعن دوره في حياتنا، إذ يلطفها، ويبعد عنها جفافها بجعلها ربيعا مستمرا.
اللغة في الرواية:
تعددت اللغة في الرواية، أو لأقل: تعددت مستوياتها، بين اللغة الشاعرية ذات الدفق البلاغي، واللغة التقريرية المرتبطة بالتحليل السياسي، واللغة الصوفية الرقراقة والمعبرة عن دواخل الشخصيات، واللغة الخطابية، واللغة التحليلية ذات البعد الفكري، فضلا عن اللغة الفرنسية التي حضرت بشكل محتشم، فقط، كمقتطف استشهادي، يعبر عن أهمية حفظ الذاكرة.
ومن المعروف أن الرواية لطبيعتها المرنة توظف الأجناس الكتابية المختلفة بما فيها الشعر في بناء عالمها. ويأتي استخدامها الشعر كي تكتسب بعض صفات لغته الجمالية، التي هي لغة الذات والعاطفة والوجدان.
مثال ذلك، فضلا عن المقاع الشعرية الموظفة كما ورد في الصفحات التالية: 49 و61 و96 .، ما جاء على لسان جواد لحظة امتلائه بإشراقة الحب، في الصفحة 72: الحب يكتب لله مخطوطا، يطويه تحت أجنحة الحمام المسافر نحو النور، ليكون جواب الله رعشة ياسمينة على زند تغريد...
ملاحظات خاصة:
أجد نفسي مدفوعا إلى بسط ملاحظاتي الشخصية حول العمل، ملاحظات لا أبغي من ورائها تبخيس العمل أوالتنقيص منه، ولا اعتماد النقد الهدام، ولكن أبغي فتح كوة للنقاش المثمر، منها:
ضمور الحوار الخارجي، فحضوره كان ضعيفا لصالح الحوار الداخلي الذي يكشف مكنونات الشخصيات، وما يعتمل بداخلها من مشاعر ونوازع.
حضور الربيع العربي، كان بغاية انفتاح الرواية على ما يجري بالخارج كنوع من الرد المسبق على من يمكن انتقاد الرواية باهتمامها بجواد والاكتفاء بعالمه المغلق؛ وهذا الانفتاح على الربيع العربي، قراءة وتحليلا، إضافة إلى سرد المهرجان الذي أقامه فصيل إسلامي، وكيفية تعامل مشرفه مع شعر جواد، يمكن إزالتهما دون أن يختل معمار الرواية، فسردهما كان فضلة ليس إلا.
**
1_ عزيزة الطائي، الذات في مرآة الكتابة، قراءة في نماذج عمانية معاصرة. كتاب نزوى، يناير 2019.
2 مكررة، آمنة برواضي، قراءة في رواية "رعشة" لأمجد رشيد مجدوب، وقد اعتمدت على مقاطع كاملة من هذه القراءة، تصرفت فيها بعض الأحايين.



رعضة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى