محمد حيدار - الهَجّان وزحاف الشعر.. قصة قصير

[ إليك أنهى قائد الحرس الليلي محصّلة النبض والتخمين في المدينة، ومن أقاصي الثغور وافاك البريد، لم تكن تستوعب ما يُتلى كسابق دأبك، خصيصة التعاطي افتقدتها منذ دعاك الفراش إليه لأول مرة.
نقيب أطبائك لم يصرحك كما توقعت، وكم كنت تحسن فن التوقع، عميد مؤرخيك أغرته سيرتك فبات يمارسها ليلا، عيونك في البلاط أبرقت إليك ببعض ما يدندن به في سمره الانفرادي، فقررت إعدام أوراقه المائة كلما واتتك فترة نقاهة، وزاجرا قلت له:
ـــ أنا لستُ بشاعر لكي يتناطح الرواة بشأن ما خلّفت!
كنت نصف خليفة أو أكثر، إليك أذعنت مياه المشارق وخراج المغارب، وفتاوى الحاضرتين، خصومــــك اتّهموك بأن نبوغك اللغوي لا يحمل بُعدا ثنائيا:
ـــ إنه لم يلْحَن في خطبه قط!
قال كبير شراح متون البادية، لكنك لم تأخذ إشادته كتبجيل صحفي، فأنت تعرف الرجل، لقد حافظ على هوامش رأيه حتى آوان الاستنطاق.
ألى صحيفة " زياد " كنت تديم النظر، ومع المساء أحلتها على مقرئ الديوان ليعيد عليك قراءتها، فهو مجاز في فن تجويد النصوص الأولى.
ـــ و"زياد" قال بثنائية النفس!
غامر مقرئ الديوان بالقول، فهدّأت من روعه بقول أخر:
ـــ أعرف أنه دعا إلى مبدأ الشبهة.
ـــ ووجوب أخذ المقيم بالظاعن في غير المواسم.
أكمل أحد حفظة الصحيفة، وكان مقرئ الديوان لايزال ينتظر إشارة ما بملاحقة الكلام، ولشدة الإغماء الذي ينتابك بين حين وحين، اعتقد أنه تسلم أمرا أميريا بالحديث، ورغم أن كبير مفوضيك كان قد أقره ــ بإشارة من رأسه ــ على الابتداء، ظل يخشى عاقبتي الصمت والكلام معا، منذ صغره ــ منذ أن كنت لاتزال مدرسا مغمورا ــ تلحظ نزعة التحفظ فيه، وما أن هززت رأسك في تعب بالموافقة، حتى اندفع إلى الإدلاء:
ـــ في صحيفته قال بالتخويف مسدا للإطعام،
اذ كلاهما رادع للجوع.
ومعلقا ضحكت في وهن، والجوع اكتشاف لا يضاف إلا للصوصية والمعارضة، ومن ثمة أنكر علم الكلام القول به.

وقبيل تماثلك للشفاء ــ كما ظن عوادك ـــ سقطت ثالثة برقيات المغيب في ظرف وجيز ((رحل خليفة /مرض خليفة/ بُويع خليفة))، والذي يهمك دائما هو البرقية الذيل، كاد يعاودك المغص اللعين، لأن البرقية هذه المرة لا تحمل تذييلا كالذي تسميه ((زحاف الشعر)) وإذن فإقرارك على عملك لما يتم بعد.
وعوض أن يطمئنك إصرار جلاسك على أن الهجان الحامل لزحاف الشعر، ربما جاوز الآن تخــــــوم القريتيـــن قادما، كاد يبكيك تورط الدهماء في أمر تعيينك، هكذا بشكل مكشوف، بل كيف سيتاح لمؤرخــــك تدوينه وقد ولغوا فيه؟ وبإشارة منك أسكت الجميع إلا مقرئ الديوان، الذي استأنف رحلة التخريج كمن يستقرئ نقوش لغة ميتة، وقلت في انزعاج معروف عنك:
ـــ هل هي صحائف "سومر"؟
والواقع أنك قاطعته، ليوقن أن أمر البرقية الذيل هو ما يستأثر ببالك، وصارخا جهرت بقولك:
ـــ من لي بولاية بعمر النسر لبد؟
وأفزعك قول أحد عوادك:
ـــ هو ذا ما ظل يلهج به "زياد " قبلكم يا سيدي.
وصحّحت كلامه بكلام:
ـــ زياد لم يكن واليا ولا خليفة، كان متكلما فحسب.
وفي الوجوه المحدقة بك أمعنت النظر، لتتأكد من أنهم من أصفياء مجلسك دون دخيل، وعندها قلــت:
ـــ الخليفة يعرف أنني لا أحسن أيا من فنون المعارضة،
ففيم المماطلة في تجديد تعييني إذن؟!
وفي دهشة تبادل أصفياؤك نظرات غير قابلة للرصد، فظننت أنهم اتفقوا ضمنا على أن مرضك هو ما أرجأ زحاف الشعر، وأثقل خطو الهجان المحلّف، فصحح مقرئ الديوان:
ـــ يرى أحد حكماء السند يا مولاي، أن فن المعارضة
هو فقط أن يلتزم الخطاب حجم الأحبال الصوتية.
وشككت في نوايا الذي نصحك، فمن ألمّ بقواعد المعارضة، وبسلوكها، لن يكون إلا معارضا في دخيلتــــه، وقلت:
ـــ ائتوني بهذا الحكيم المنظّرالذي يدعي أن.
وزف إليك أحد جلاسك بشرى قائلا:
ـــ لقد سبقك إلى رأسه أخرون يا سيدي
ثم استجمعت قواك لتزجر الذي نصحك بقولك:
ـــ إذن أنت معارض في دخيلتك؟
وبكى المتهم مودعا قبل أن يدعو بإحضار كفنه، الذي اصطحبه منذ سنوات عشر لمثل لحظة غضب كهاته، وسرا عزّاه المحيطون بك في نفسه.
أما أنت فصارحت الذي يليك من قادة الرماح، برغبة أميرية منك في استنفار القوات تحسبا، ومتسائلا همس إليك:
ـــ هل يعتقد سيدي أن بديلا ما؟!
وبعنف قاطعته وقد ثارت ثائرتك، كيف يجرؤ أحد على ذكر البديل بحضرتك؟ وأنت شديد البنيان متماسكا لاتزال، لكن هل أصبح الشارع يلهج بالبديل؟ اخترقك المارة إذن؟ استصغروا سحنتك، جاوز فيضانهم قامتك.
والتاريخ؟!!
هذا المناور؟ هل يتيح لغيرك الجلوس مكانك وأنت سيد السيف والخطابة؟ ثم بعد تلك الغضبة تراجع بك الغليان، تنازل صوتك عن حدته، وأنت تقول وقد هززت رأسك مقرا:
ـــ والسجون؟
فبادر كاتبك بالقول:
ـــ لن تُوزّع البراءة بعد رحيك يا مولاي، اطمئن.
وقال قاضي قضاة الأقاليم معللا:
ـــ لأن براءة المعتقلين تعني إدانتكم يا سيدي.
ومع أن كلمة القاضي أفلحت في افتكاك رضاك، ارتاع مقربوك لخواتم نُذرك، حتى من سبق وأن شكّوا سرا في سلامة قواك العقلية، تراجعوا لأن الشك فيك اتهام لعقول الرعية، ومقياس اتزان العقول يكمن في ثنائها على نبوغك، إذ كيف للنجوم أن تدّخر أنوارها إذا خبا لون الشمس، وليس من بينها من يضخ أنواره ذاتيا؟ بذلك قال شعراؤك، وفطاحل القول من حولك.
هزة نفس تركبك، تدعوك إلى إهمال أي إقرار بالضعف، بالمرض، حتى وموجة من سعال تجتاحك إلى أن كادت تتمزق لها أنفاسك، وخلفك أسر أحد الحراس إلى صاحبه:
ـــ لم يعد لساخن الماء ونقيع الأعشاب أي تأثير يُرتجى!
لكن الدليل على موفور صحتك ـــ عكس ما يقول نقيب أطبائك ـــ لايزال معروفا، بل وماثلا للأعين، إذ مادام في إمكانك أن تأمر بضرب رأس ما، فأنت إذن صحيح معافى، نفسك تواقة إلى إصدار أمر بقتل أحد ما، لتثبت لعوادك، لأصفيائك، لنقيق متسكعي الأنهج خارج قصرك، لمتتبعي نشراتك الطبية من بعيد، انك لاتزال، لا تزال سيد السيف والقلم.
تجلّدك للشامتين يأتي اقتداء برجل محنك، هو معاوية بن أبي سفيان، كان قد سبقك إلى رفض مساومة المرض الذي أرغمه على البقاء ممددا لزمن ما، إلى أن قيل له ذات يوم إن وفدا من كبار المعارضين على الباب، وخلافا لنصائح أطبائه أمر بإجلاسه مُجْهدا في وضع المعتدل، وقد ظن أن زيارة معارضيه جاءت شماتة وليس معاودة، فرفض لقاءهم ممددا بل جالسا، لأن من شيمه مثلك، ألا يستدر عطف معارضيه حتى ولو صدقوا، وقلت كما لو أنك دخلت طور هذيان:
ـــ لتظل قويا، ينبغي لك أن ترفض شفقة الأخرين.
من قال بهذه القاعدة؟ أأنت ؟ أم عنترة العبسي؟ أم نيتشه؟ أم أحد شيوخ الصعاليك؟ أم حكيم هنــدي رفض الموت على وهن؟ لا يهم من القائل، المهم أنها قيلت وصحّت عندك.
حركة عينيك أثقلها تورم ظاهر بجفنيهما، أذهب حدتها، وفصاحتك كخطيب اختلسها التواء، أخذ يشل عضلة لسانك، والمنابرــ كما الاختام السلطانية ــ لامحالة ستبكيك، إذ من سيخلفك عليهما معا؟ من؟ من؟ سألت نفسك في غضب، إلى أن كدت تقفز لولا شدة الوعك، لا أحد يمكنه رتق ما سيخلفك من فراغ، كلهم أشجار لا تحجب الغابة، وأنت، أنت وحدك الغابة.
وعبثا تجرأت على الانفلات من وضع التمدد نحو الجلوس، ثم صحت وقد بقيت معلقا بين بين:
ـــ أنا الغابة أنا الغابة.
نظرات مشحونة بارتياب اتجهت نحوك في إجماع، ثم تبودلت في صمت وعندها، قلت:
ـــ لا تشكّوا في صحة تفكيري، أنا الغابة.
وفي خبث احترافي لا ينطلي عليك، أخذوا يرددون في شبه نبرات إنشاد جماعي صاخب:
ـــ أنت الغابة.
ـــ أنت الغابة.
ـــ أنت الغابة.
وارتجت أصواتهم حتى كادت تزعج سكونك:
ــــ أنت أنت أنت الغابة، الغابة، الغابة، أنت الغابة.
وتنهدت ملتجئا إلى ما يشبه الاغفاءة، ومن سريرك تقدمت قييّمة القصر، مخترقة صف أصفيائك في جسارة معروفة بها، وخلفها تحرك الراوي، ووكيل أعمالك، وقريبا منك أجمعوا على سؤال إلى جهة ما:
ـــ هل مات؟اا
وهز مقرئ الديوان رأسه متسائلا:
ـــ ومن سيُعلن موته نيابة عن نقيب الاطباء المحلف؟
وقال الــــــــــــــــــــــــــــــراوي:
ـــ مجلس الأطباء هو من أعلن الوفاة سرا،
وسرا أنكرها.
وقالت قييمة القصر مصوّبة:
ـــ أنكروها حين أكد قائد الحرس، أن سيدي لايزال يتحرك.
ـــ يتحرك؟؟اا
جماعيا تساءلوا ثم رددوا:
ـــ فليُعدم كل لسان تجرأ على القول بموته.
وجماعيا أنشدوا وقد تبارت قييمة القصر للرقص وسط جمعهم:
ـــ سيدي لا يموت، بل يُميت
لا يموت بل يُميت
لا يموت، لا يموت،
لا يمـــــــــوت.
وحين فتحت قييمة القصر باب غرفته، ودنت من سريره في حذر، عادت صائحة وقد اذهلها المنظر:
ـــ يا قوم، إن الممدّد على السرير ليس بسيدي، إنه، إنه،
(؟؟؟؟؟؟؟؟) وما هو بمريض.
كُتب بمدينة ســعــيــدة (الجزائر) في عام: 2008

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى