عبدالرزاق دحنون - بنطال ماركس

يخطُر في بالي في ضجَّة ليل يُرخي سدوله في فضاء معمل صناعة الجنز في مدينة أزمير على شاطئ بحر إيجة و الذي صار أليفاً بعماله ومديري أقسامه وعاملاته الظريفات المُدخنات التعبات اللابسات الجنز, صديقي كارل ماركس, و كتابه “رأس المال” أتذكر هذا الفيلسوف الذي أطلق هذه الحركة المشاعية التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات, وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض, وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه المشهور.

1

كارل ماركس و صديقه فريدريك أنجلز من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار, فقد تكامل مشروعهم المشاعي فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويحضرني هنا قول أحد العاملين المخضرمين في أحد أضخم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية:

"كلَّما طال بقائي في “وول ستريت” ازدادت قناعتي أن آراء ماركس الاقتصادية كانت على صواب. وجائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيجمع الماركسية كلَّها في نموذج متماسك. أنا مُقتنع بالكامل أن طرح ماركس هو أفضل طريقة لرؤية الرأسمالية. ألم يؤمنا يقيناً أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع على تنظيم الإنتاج تصوغ في النهاية مواقف الناس ومعتقداتهم؟"

2

أين أنت يا ماركس الآن؟ هل كان بنطال الجنز سيُرضيك لو عشت في أيامنا العجاف هذه؟ وهل كنتَ سترتديه مقطاً ممزقاً مزقاً؟ لقد صار بنطال الجنز أحد أشهر ألبسة الطبقة العاملة التي سعيت لتحريرها من رتق عبودية رأس المال. و ها نحن: شيخموس, جنكيز, ميخائيل, خورشيد, سُليمان, سُلطانة, آدم, يوسف, موسى, عيسى, أحمد, عبدالرزاق, وعشرات الأسماء السورية الأخرى التي تعمل في أحد أضخم معامل الجنز في بلاد الأناضول, نلبس الجنز, ونعمل في صناعته, وننظر في صدور بعضنا بعضاً, فنجد صورتك مطبوعة في قمصاننا بعد مئتين سنة من ميلادك.

3

في النهار ندور مع آلات كحت الجنز الدائرة, يحتاج الجنز إلى مكحتة-وحياتنا تحتاج إلى مكحتة هي الأخرى- والمكحتة لمن لا يعرف هي التي تُعطي لباس الجنز هذه الملمس الطَّري وهذا اللون الفريد الذي لا يظهر بدون الكحت. غسالات عملاقة يتسع حوضها “ستانلس ستيل” لأكثر من مئة بنطال ومئتين وخمسين كيلو من البحص الصناعي, البحصة الواحدة بحجم بحص جبلة بيتون صب الأسطح. هذا البحص مع الماء والمساحيق يعمل على تلطيف خشونة قماش الجنز وقسوته. وهناك أقسام أخرى يمر بها الجنز, البخ, الغسيل, السنفرة, الفرز, التجفيف, التنعيم, الكوي, وأشياء أخرى, حتى يستوى قطعة لباس معتبرة تسرّ الناظرين. ومن ثمَّ يمشي في الشارع, يحدث هذا كلَّ ثانية في شوارع مدن العالم، فتيات وفتيان بالجنز. جنز بأشكال وألوان متنوعة فيها القصير والطويل، الضيق والواسع، المقطّع والمرقوع، الرثُّ والخَلق. ما هذا الجنز الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس؟ ويبقى الجنز أحد أكثر الملابس شعبية وأكثرها إثارة للاهتمام على مر الزمن. إذ يخلق هذا النوع من الملابس ارتباطاً عاطفياً مع مرتديه. نعم، فما إن تبدأ في ارتدائه حتى يظهر أثره في شخصيتك, هذا ما يقوله صُنَّاع الجنز لترويج بضاعتهم.

4

نحن عمال الجنز من شمال بلاد الشام, حيث كل شيء مرتفع, الروابي, والنهود, والجباه, على حد تعبير الشاعر السوري صديقي “صقر عليشي” في واحدة من أجمل قصائده في ديوان “قصائد مشرفة على السهل” . تتأمل وجوهنا, فتجد في عيوننا حزناً لا يكفي قرناً من البكاء لمحو آثاره, هذا الحزن يظهر جلياً في نظرات عيوننا التائهة الكليلة من تعب أيام العمل الطويلة في هذا المدى المفتوح على شبابيك الوطن البعيد, وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي جيفارا: “كنتُ أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً, لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه, ونتكلم لغته, ونحمل جنسيته” تحول حزننا إلى هوية. فجاء شاعر كوردستان “شيركو بيكه سه” ليقيس أحزاننا فقال: جاء التاريخ وقاس قامته بقامة أحزانكم, كانت أحزانكم أطول. أما من علاج لهذا الأسى الإنساني المقيم يا كارل ماركس؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى