عبدالرزاق دحنون - أنا لا آكل أحداً

ورد العنوان أعلاه في كتاب الشيوعي الأمريكي جون ريد "عشرة أيام هزت العالم" فقد وصل إلى موسكو قادماً من مدينة بطرسبورغ وكان جائعاً, فبحث عن مكان يأكل فيه, فوجد مطعماً باسم "أنا لا آكل أحداً" يبيع الأكل النباتي عُلقتْ على جدرانه صور ليف تولستوي, و أغلب رواد المطعم من أتباع تولستوي الذي كان نباتياً كأخيه فيلسوف المعرة.

1

واجه فيلسوف المعرة في الأيام الأخيرة من حياته محنة عظيمة تجلّت في تلك الرسائل المتبادلة مع داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي, فقد أراد هذا الأخير محاورة فيلسوف المعرة في معتقده وفلسفته. و ما لفيلسوف المعرة والحوار؟ وأي عزاء له في ذلك؟ لقد فرَّ من الناس وأخلد إلى داره وأفكاره يهجو الحياة ويغازل الموت، ويذمُّ أهل السلطة ويسفّه المجتمع، و يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، لأنه أعفاه من رؤية الثقلاء.

2

فيلسوف المعرة ضعيف عاجز يكره المناظرات والمحاورات ولا يألفهما، مقلٌّ معسر راض بإقلاله وعسره، متواضع ينفر من الشهرة وهي تسعى إليه، ضعيف الإيمان بالبشر وما يفاخرون به من أخلاق و فضائل وشمائل، لأن الحياة العامة في عصره كانت سيئة رديئة من الوجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية والدينية. ولو نظرتَ بعين الباحث في بنية المجتمع الإسلامي في ذلك العصر المضطرب الذي عاش فيه فيلسوف المعرة، لرأيت الدولة العباسية قد انحطّت، ونهض الطامعون من كل جهة يتقاسمون أشلاءها، ويتهارشون على ما تركت من إرث عظيم. في ذلك العصر الموسوم بكثرة القلاقل والفتن لا يجد فيلسوفنا الفاني ابن الأربعة والثمانين عاماً من يحميه، تصله رسالة إلى داره في معرة النعمان من داعي الدعاة الفاطمي يسأل فيها: ما العلة التي استند إليها فيلسوف المعرة في الامتناع عن أكل اللحم واللبن والعسل والبيض وكل ما يصدر إلى الوجود من منافع الحيوان؟ ثم يعلل السائل بأن امتناع فيلسوف المعرة عن أكل الحيوان ليس يخلو القصد فيه من أحد أمرين: إما أن تأخذه رأفة بها فلا يرى تناولها بالمكروه. وما ينبغي أن يكون أرأف بها من الله سبحانه الذي خلقها وهيأها لمصالح البشر. وإما أن يجد سفك دماء الحيوان ونزعها عن أرواحها خارجاً عن أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على الخالق سبحانه الذي هو أعرف بوجوه الحكمة. ويصف صاحب الرسالة هذا السؤال بأنه خفيف يرتقي منه إلى ما هو أصعب وأدق، إن وجد في الإجابة عن السؤال الأول روحاً من نسيم الشفاء.

3

يتساءل المرء: إذا كان هذا السؤال خفيفاً، فكيف تكون الأسئلة التالية؟ ووصفه للسؤال بأنه خفيف تخويف عامد يراد منه التحرش. وهل يصح امتحان أخلاق فيلسوف المعرة؟ فأول ما يظهر من أخلاق فيلسوف المعرة زهده وإعراضه عما في هذه الحياة من اللذات. والزهد حجر الأساس عنده، مع أن الدعوة إلى الزهد في التعاليم الدينية لم تنجح عملياً، إذ لم يلتزم بها رجال الدين، أما عامة الناس فهم زهاد بحكم الواقع لأنهم في العادة فقراء ومحرومون وليس لديهم ما يزهدون فيه. وإنما صار الزهد مسلكاً لصيقاً بالفلاسفة والحكماء، فكان طعامه من عدس الحب منه والمجروش والتين اليابس والطازج في مواسمه, و معرة النعمان مشهورة بأصناف تينها. ولك في سيرته بالمعرة تسعاً وأربعين سنة أصدق دليل على هذا الخلق مع رقة القلب، وشدة الرحمة، وكثرة العطف على الضعيف، وحسبك أنه أمن الحيوان من تعديه على نفسه أو ولده أو ثمراته، فيُحكى أنه مرض فوصفوا له الدجاج، فامتنع، وألحوا عليه حتى أظهر الرضا، فلما قدم إليه لمسه بيده، فجزع، وقال: استضعفوك فوصفوك، هلاّ وصفوا شبل الأسد! ثم أبى أن يأكله، لأنه لا يأكل أحداً.

4

كيف تدرجت الأمور بين صاحب السؤال المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي الداعي الفاطمي وفيلسوف المعرة مع بعد المسافة بينهما، فهذا يسكن معرة النعمان من بلاد الشام وذاك في القاهرة بمصر أيام حكم الدولة الفاطمية ؟ في القصة المعروفة التي يرويها المؤيد في الدين في رسالته الثالثة إلى فيلسوف المعرة: إنه لما ورد بلاد الشام سمع الناس يجمعون على تميّز فيلسوف المعرة في الأدب والفكر ويختلفون في أمر دينه، وحضر مجلساً جليلاً أجري فيه ذكره، فبعضهم زكّاه، وبعضهم قدح فيه، فانبرى المؤيد في الدين للدفاع عنه واستدل بصلابته في الزهد على نفي العيب عنه في المعتقد، وقدّر أن يكون منطوياً على سر لا يفصح به، وحين قرأ مطلع اللزومية المشهورة:

غدوت مريض العقل والدين فالقني

لتعلم أنباء الأمور الصحائح

5

أيقن أن السر هنا كامن حقاً. فهل يعقل أن من كان في فطنة فيلسوف المعرة يقصر كل جهده في هذه الحياة على التميز في اللغة والأدب؟ وما قيمة هذا التميز غداً حين يوارى التراب؟ وغلبت الحيرة على فكر المؤيد في الدين برهة حتى إذا أمعن الفكر في لزومية فيلسوف المعرة انكشفت له الحقيقة، فهذا الشيخ الطاعن في السن ناظر إلى معاده بدقيق النظر، لأنه زهد في الدنيا و تقلل من الطعام واختار الخشن من الثياب. وفي لزومية على الشين أخبرنا أن حذاءه لم يكن من الجلد بل من الخشب:

لولا أبو الضب وأجداده

لم يرتقب كيداً من الحارش

فجعل حذائي خشباً إنني

أريد إبقاء على الدارش

الحارش: الذي يصيد الضب، والدارش: الجلد الأسود. وقوله: أريد إبقاء على الجلد، أي أنه لا يريد ذبح الحيوان ولا تناول شيء من أجزائه. فحين يقول للناس: أنتم مرضى في عقولكم ودينكم ودنياكم، فمعنى ذلك أنه يملك ما يشفي مرضهم.

6

هذا ما يطرحه المؤيد في الدين في رسالته إلى فيلسوف المعرة، ولكن هل الأمر كذلك؟ وقد كان بإمكان المؤيد في الدين أن يمعن في إرباك فيلسوف المعرة بأن يقول له إنك تمنع ذبح الحيوان، وهذا الذبح جزء من أجزاء الشعائر الدينية في موسم الحج، ومن شروط الحج الصحيح الهدي أو القربان. لم يشأ المؤيد في الدين طرح السؤال من هذه الزاوية لأنه ربما منع فيلسوف المعرة من الإجابة وجعله يلوذ بالصمت.

7

كان كل من فيلسوف المعرة والمؤيد في الدين يدرك أن السؤال ليس خفيفاً، لأنه متصل بالمشكلات الآتية اتصالاً وثيقاً: الشريعة رسالة يجيء بها مرسل فكيف نتحقق صدقه؟ إذا كان صادقاً فهل مرسله يجب أن يطاع أو لا يطاع؟ ومن الخروج على طاعته تحريم ما لم يحرمه، كأكل اللحم. ما العلاقة بين الدين والعقل ما داما قد جاءا في البيت مقترنين؟ وهل يعطى العقل الحكم في بعض الأمور دون بعضها الآخر، إذ الخبرة دلت على أن الناس أحد رجلين: رجل طرح العقل ولزم الدين، فلو قيل له إن فيلاً طار أو جملاً باض لصدق ذلك ما دام موصولاً بالدين، وآخر مؤمن بالعقل يقول إنه حجة الله على عباده، ولكنه يستخف بالشرائع دون أن يطرحها، بل يراها نافعة لأنها تقمع الجاهلين وتفيد في إصلاح العامة.

8

بعد هذه الإشارات، كيف كان جواب فيلسوف المعرة؟ لقد استخدم في ردوده لغة هينة لينة لكنها تبطن أكثر مما تصرح ، فيها من الاعتذار الشيء الكثير، وهذا ما أبعدها عن أسلوب الجدل المنطقي. استهل فيلسوف المعرة رده بإيراد قصة إنسانية تحل تقدير الظروف مكان المجادلات الفكرية، فذكر العمى الذي مني به في مطلع العمر، والإقعاد الذي أصابه في آخر العمر، وما قاساه من العدم وإدبار الدنيا عنه، وقد رفسته كالدابة الحرون فقال: وانصرفتُ عنها كما قيل في المثل مكره أخوك لا بطل، فسأل ربه إنعاماً فرزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، وظن اقتناعه بالنبات يثبت له بعض الإثبات، أي لزم الزهد في معاشه و تخلى عن جانب كبير من المباح رجاء أن يكتب له ذلك في حسناته، لكنه لم يحرم شيئاً أحلّه الله بتشريع من عنده. هل كان هذا الجواب كافياً لرجل جدل ومجالس ومحاورات كالمؤيد في الدين؟

9

يجيب الدكتور إحسان عباس في تعليقه على هذه الرسائل بقوله: وشّح فيلسوف المعرة تلك القصة الإنسانية برد مناهض يصور إدراكه العميق لا للسؤال المطروح نفسه وحسب بل للمسائل الكبرى التي يتصل بها السؤال اتصالاً وثيقاً، أي إنه بدلاً من الرد المباشر على مشكلة جزئية حوّل الإجابة إلى لب المشكلة الكبرى التي يحوم حولها المؤيد وهي: مدى قدرة العقل الإنساني على حل ما يعترض الإنسان من قضايا. وخلاصة موقف فيلسوف المعرة أن العقل يعجز عن حل كثير من المشكلات، ولولا ذلك لما تخالف الناس وتحيروا من حولها. أحس المؤيد في الدين بعد أن قرأ الرد بخيبة أمل وسأل في رده: أهذه أنباء الأمور الصحائح التي يهدي بها من استهدى؟ هذا الذي جاء به فيلسوف المعرة يزيد الأعمى عمىّ وتيهاً وضلالاً. والمؤيد في الدين يعني في الحقيقة أن فيلسوف المعرة أوغل في التيه والضلال.

10

جاء الرد الثاني من فيلسوف المعرة أكثر التزاماً بقضية الامتناع عن أكل اللحوم، فعمد إلى شرح أبيات ثلاثة من قصيدته الحائية، فبيّن أن قدرة العقل إنما تقف عند حد أن يدل الناس على عبادة الله وعلى جميع ما ينتفعون به من مأكول ومشروب وملبوس ويدلهم على طلب المعايش والسعة في الأرزاق، وأن هذا المعقول نفسه لا يقبح ترك شيء حتى وإن كان حلالاً، لأن أهل الدين ما يزالون يتخلفون عن كثير من الحلال. فهل من ذنب لامرئ تحرج عن ذبح الحيوان ولم يأكل من اللبن دون أن يزعم أن الذبح محرم أو أن اللبن كذلك، وإنما هو يفعل ذلك تعبداً ورحمة للمذبوح؛ والاجتهاد قد يؤدي إلى أن هذا النحو من التعبد يوافق روح الشريعة فالصيد حلال، ولكن هناك نهي عن صيد الليل وعن الصيد بمكة وعن الصيد في حال الإحرام فلماذا لا يتعبد الإنسان بالتقرب إلى الله فيعد كل صيد في الحل كالصيد في الحرم، دون أن يعتقد بأن الله قد حرمه؛ ولقد جنح الكثير من أهل الدين إلى الزهد مع استطاعتهم الأخذ من الطيبات.

11

علي بن أبي طالب كان يأكل خبز الشعير رغم وفرة ما كان له من غلة، وقدم إليه خبيص فرده وقال: هل تعلمون أن رسول الله أكله؟ وعرج فيلسوف المعرة على حماسة المؤيد في الدين لإدرار رزقه بمكاتبة تاج الأمراء ثمالة بن صالح صاحب حلب، فنفى أن تكون له رغبة في التوسعة بعد أن امتنع عن أكل اللحم تسعاً وأربعين سنة، والشيخ لا يترك أخلاقه وعاداته. لم يأت المؤيد في الدين في رسالته الأخيرة، وهي الثالثة، بشيء جديد سوى تلخيصه لما دار في المحاورات السابقة إلا أنه استأنف القول بأن فيلسوف المعرة قصد بامتناعه عن اللحوم الاجتهاد في الدين، وذكّره بأنه كثيراً ما قال في رسالتيه السابقتين إن لله أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، وقال له: ونحن على ذلك السر ندور. وهو يشير من بعيد إلى قول فيلسوف المعرة في الحائية:

بني زمني هل تعلمون سرائراً

علمت ولكني بها غير بائح

فيسأل: هل يعتقد فيلسوف المعرة أن المريض في دينه وعقله وبدنه هو الذي يأكل اللحوم والألبان فإذا امتنع عن أكلها أصبح معافى؟ وفي ختام رسالته صرح داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي بأن هذه المحاورة مثل حديث الطرشان لأن طرفيها لا يلتقيان، وما دامت كذلك فقد خفف الله عنه أن يتكلف الإجابة، ولم يتكلف إجابة حقاً، إذ كانت المنية قد وافت فيلسوف المعرة قبل وصول الرسالة الأخيرة إلى معرة النعمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى