سعيدة عفيف - على المَرقَص.. قصة قصيرة


سعيدة عفيف.jpeg

يتعالى صوت الموسيقى وينخفض آتيا من الصالة المقابلة للبهو الذي وُضعت بمدخله وبكل عناية أصص من الأزهار مختلفة الألوان والرائحة، مما أكسب الجو أريجا ربيعيا فواحا تضافر ونفحاتِ الموسيقى التي تستحوذ أحيانا على صوت الهمسات المنفلتة من حديث يدور هنا وهناك بين مدعوين، كل ثلة منهم تتخذ لنفسها مجلسا بركن ما بالقاعة الكبيرة.. تلك الهمسات التي تعلو بدورها لتصحب نغمات الموسيقى التي تملأ المكان وتعطيه طابعا سحريا خاصا.
وبالقرب يتداعى الراقصان وينسابان في روعة وعذوبة نادرة.. لا شيء يأخذهما من عالمهما الساحر.. لا ينتبهان لأحد ولا يلتفتان كأن ليس غيرهما بالمكان.. حركاتهما المسترسلة بعفوية لا تترك مجالا للتفكير في أنها قد تكون مصقولة أو مدروسة.
يقترب الراقص أكثر من رفيقته و يهمس مبتسما:
- تَبدين ساحرة كالمعتاد عزيزتي..
تنظر إليه بامتنان وتكتفي بابتسامة خجولة ولا تنبس بشيء. تستمر في الرقص من غير توان أو توقف.. تقترب أحيانا لتبتعد من جديد منطلقة في حركات مستديرة تذهل المشاهد وتأسره.. وقد لا ترِفُّ له عين خشية أن يُفَوِّت عليه شيئا من بهاء اللحظة وخشوعها ورونقها. ثم تتشبث بأطراف أصابعه هذه المرة وتقفز في الفضاء في حركة راقصة فنية توقف الأنفاس من حدة جمالها.
تعود بالقرب منه وتتنفس الصعداء بشكل غير مرئي.. وتضع يدا حول عنقه وأخرى بيده بينما هو يحيط خصرها الناعم المنحوت بيده الأخرى.. فتتوانى حركاتهما شيئا ما وتخف سرعة أنفاسهما ويرقصان في هدوء.
تطرق قليلا ثم ترفع وجهها إليه وتتطلَّع بحيرة في عينيه، وكأنها تبحث عن شيء ما. أحس بها فنظر بدوره إليها ثم بادر بسؤالها وكأنه يريد إخفاء إحساسه وامتصاص ما تشعر به من حيرة:
- أتعلمين سبب استمرارنا في الرقص هكذا؟
فتستفهم قائلة:
- ما السبب يا ترى؟
يجيبها قائلا:
- عشقنا الكبير للرقص، وعملنا الدءوب الشاق للتأليف بين حركاتنا من أجل شحذها والإبداع فيها لَهُوَ أكبر دليل على هذه الاستمرارية.
تحرك رأسها بالإيجاب وهي تفكر بكلامه بينما تقفز أسئلة أخرى إلى شفتيها:
- لكننا لا نرقص دائما!؟ لِمَ نبقى كل تلك الفترة حبيسي ذلك الجمود والانتظار البطيء المميت؟ لِمَ نبقى رهيني رغبة أخرى غيرِ رغبتنا في الرقص؟
أطال النظر إليها ساهما لا يَحِيرُ جوابا، وصار الصمت سيد الموقف فاستأنسا به لبعض الوقت، وذابت كل حيرة وكل استفهام في الرقص المتواصل.. ينظران إلى بعضهما بإيحاء محفز ليستأثر تشكيل الجسد وتمحوره في كل حالاته وتجلياته بكل اهتمامهما.
سابقت رجلاها الريح والأعين هذه المرة واضعة يدا على كتفه تاركة جسدها يهوى برقة فيتلقفه بخفة شديدة الإتقان في خط مستقيم مع سطح المكان الذي يرقصان عليه.. ثم يلف بجسده عدة مرات على نغمات الموسيقى وإيقاعها الذي أخذ شيئا ما في الإسراع، بعد ذلك يأخذها إليه في انسجام ويرجعها ثانية إلى وضعها الأول منتصبة أمامه جِدَّ قريبة من أنفاسه.. تتطلع في وجهه فتستقر عيناها على عينيه من جديد، يحذقان أكثر كأنهما يسبران غورهما الحائر وحيرتهما الغائرة.
يخاطبها بلهجة مشجعة قائلا:
- عزيزتي، اتركي روحك تنطلق وتنساب كجسدك هكذا كي تشعرين بعمق اللحظة و جمالها..
تجيب هي على الفور:
- أشعر بكل ذلك عزيزي، غير أن كل هذه الروعة لا تحول دون التفكير فيما يعتريني من قلق.. ثم تردف قائلة:
- أ تستطيع ألاَّ تفكر بشيء؟
- كيف لا أفكر و همُّنا واحد.. إنما أفضل أن أتفاعل مع ما نحن فيه الآن، عدا ذلك، فالرقص يستوجب منا كل التركيز..
- كلامك منطقي... و بعد لحظة تسترسل:
- أنا أوافقك في كل شيء، فقط، لست أدري كيف يسرقني التفكير..
- ارقصي إذن وتألقي كما تحبين وكما ينبغي، فالشحنة قد تنتهي في أية لحظة..
تتغير ملامحها وتقول في امتعاض:
- أجل.. قد تنتهي في أية لحظة.. قد تنتهي هذه الشحنة اللعينة في أية لحظة، ثم نَعْلَقُ.. ويَعْلَق كل شيء آخر.. في انتظار شحنة جديدة......
تصمت لبرهة ولا تنبس بشيء آخر، لكن سرعان ما يتحول امتعاضها إلى ضحكات مسموعة فتضيف بسخرية:
- .. أو في انتظار الذي لا يأتي.. انتظار العبث وذاك المجهول.. وقد نُركًن على رف من الرفوف إن لم يُستغنَ عن رؤيانا، فنغدو من ضمن المتلاشيات؛ ومن يدري قد نُكْنَس خارجا لتحل محلنا تحفة ذات قيمة كبيرة لا تستحق عناء الشحن.
يرمقها بإعجاب ثم يدفع خصرها برفق مكونا حركة دائرية على المرقص غير تارك يدها، فيتوالى تَمَوُّج حركاتهما في اتساق واضح وجميل؛ ثم يبتسم ابتسامة عريضة وفي قرارة نفسه يرفض الاستسلام للتفكير في مثل هذه النهاية.
ثم لا يلبث أن يقول مبتسما دائما غير آبه بما سيأتي:
- لا تبالي، لنرقص مُمتعين مستمتعين برقصنا.. هكذا.. هكذا.. مبدعا بخفة جسمه وليونته لوحات راقصة أخاذة.
تتأمله بعينيها الباسمتين ثم تباغته بنبرة متفائلة:
- أحب صمودك وأستمدُّ منه قوتي و إصراري أيضا.. وتستمر قائلة:
- الرقص حياه.. والحياة رقص في كل أوجهها، ومتى وحيثما عرفنا كيف نجيد الرقص فثمة جوهر الحياة والمغزى الحقيقي من وجودنا.
يرقبها مستوعبا عباراتها وباهتمام زائد يقول:
- تبهرينني حقا، هكذا أريدك قوية متبصرة.. بقناعتك هذه سوف تسعدين أكثر ولسوف تتعالين عن كل ما يمكنه أن يعكر صفوك.... انظري إلى الوردة، إنها لا تعمر طويلا، لكنها تسُرُّ الناظرين، تذكي أحاسيسهم بكل جميل، وتملأ الكون سعادة ورضى... فالعبرة ليست بكم سنقبع في الزاوية بدون حراك، أو بكم سنبقى من الوقت مستمرَّين في الرقص.. إنما الجدوى تكمن في ما سنفعله بالوقت متى أتيح لنا، وما سنحققه لأنفسنا وللغير، وهذا سر كل عطاء هادف...
تنظر إليه بعمق ثم تغمض عينيها قليلا و تميل برأسها نحو كتفه كأن كل كلمة وكل معنى يعزف بروحها لشطحة تلو أخرى، وكأنها لا تدرك ذلك ولا تنتشي به إلا وهي مغمضة العينين ناظرة إلى أعماقها.. يحدو حدوها في ذلك ويرقصان بهدوء متقاربين للحظات.. يصغيان فيها إلى الموسيقى المنبعثة والمتفجرة من عالمهما الباطني ..
بعد ذلك بقليل، تعلو الموسيقى فيفتحان عينيهما، يهمسان شيئا، ثم تكتفي بأن تبتسم ابتسام المنتصر على الموقف بمكر واطمئنان، وبعينيها وميض سعادة خاطف.
يستمران في رقصهما ويدندنان على غرار النغمات، يمد يده إليها ثم يرفعها عاليا متأملا انحراف جسمها في استدارات رائعة تضفي على الموسيقى وقعا أكثر سحرا وإلهاما من ذي قبل..
يتباعدان ويتدانيان في توافق تام ثم يهمسان لبعضهما بكلام غير مفهوم...
هنا فقط.. يتباطأ إيقاع الموسيقى و ينخفض صوتها تدريجيا إلى أدنى مستوياته، فتثقل حركات الراقصيْن شيئا فشيئا إلى أن يتوقفا تماما عن الرقص.. تنتهي الشحنة ويتعلق ما بقي من كلام هامس.. وتنغلق علبة الرقصْ..



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى