د. زياد الحكيم - "مأساة أمريكية" : قصة أزمة أخلاقية

تصور رواية (مأساة أمريكية) تصويرا حيا الجانب المظلم من الحلم الأمريكي - وهي قصة ما يمكن أن يحدث عندما تطغى الرغبات المادية على الجانب الأخلاقي، فلا يبقى للاخلاق قيمة، ويصبح مقياس النجاح هو البيت والسيارة والخادمة. وقد اقتبس الروائي ثيودور درايزر في روايته قصة جريمة حقيقية ارتكبها تشستر جيليت، الرجل البسيط ولكن الطموح، عندما أغرق في نيويورك صديقته الحامل عام 1906 للتخلص منها بعد أن تبين iله أنها تقف في طريق تحقيق طموحاته المادية المجنونة.

وتعتبر (مأساة أمريكية) أفضل أعمال درايزر الروائية، وعملا مهما من أعمال المذهب الواقعي الطبيعي الذي أبصر النور في أوربة، ولكنه انتشر وتطور في الولايات المتحدة. ويعتبر أتباع هذا المذهب الأدبي أن مصير الأفراد في المجتمع يتحدد بفعل الوراثة والبيئة الأمر الذي لا يترك مجالا للإرادة الحرة أو للاختيار. بل إن بعض النقاد يعتبرون (مأساة أمريكية) أهم رواية أمريكية في كل الأحقاب وفي كل المذاهب الأدبية.

وتقوم الثقافة الأمريكية على أساس ما يعرف بالحلم الأمريكي الذي يعني أن أمام الأمريكيين جميعا فرصة لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. ويعتقد معظم الأمريكيين أن ظروف الإنسان الاجتماعية والاقتصادية عند الولادة في الولايات المتحدة لا تضع قيودا على حظوظه في الحياة وان بإمكان أي أمريكي أن يصعد السلم حتى يصل إلى أعلى درجة منه مادام راغبا في ذلك.

وإذا كان من الممكن أن نوجز ما يريد درايزر أن يقوله في جملة واحدة فإننا نقول إن الحلم الأمريكي خدعة كبرى. ونقرأ في الرواية عن عالم أمريكي معقد، فيه شخصيات من مختلف الطبقات الاجتماعية. ومصير الإنسان في هذا العالم محدد منذ البداية. وهذا الموقف الفلسفي والأدبي يقوم على أساس نظرية تشارلز داروين وغيره من العلماء الذين قالوا بان الكائن الذي يولد بخصائص معينة - وراثية واجتماعية - هو القادر على مواجهة الحياة وعلى البقاء على قيد الحياة وعلى تحقيق النجاح.

بطل الرواية هو كلايد غريفثس الذي تدفعه فكرة تحقيق الحلم الأمريكي بكل ما يعني ذلك من ثراء مادي ومن استمتاع بالحياة. وبكل ما يعني ذلك من الافتقار إلى قيم أخلاقية رفيعة. وهو لا يجد حرجا في الكذب على الآخرين واللجوء إلى الحيلة والخدعة لتحقيق رغباته وطموحاته. ولا يجد حرجا في التهرب من مسؤولياته ومن المشكلات التي يسببها لنفسه وللآخرين. وهو لا يرى حدا فاصلا من الواقع والخيال. ومن اجل التهرب من واقعه المادي الفقير يغرق نفسه في عالم من أحلام اليقظة التي يرى نفسه فيها صاحب ثروة وجاه. وهو يحقق هذه الطموحات بأعمال جبانة وغير أخلاقية.

روبرتا فتاة فقيرة وخجولة وساذجة تعمل في المصنع الذي يعمل فيه كلايد مشرفا. ومع أنها فتاة جميلة وذكية – بل يصفها درايزر بأنها أجمل وأذكى فتيات المصنع – إلا أن ذلك لا يفتح لها مجالا لتطوير نفسها والانطلاق في الحياة. فالفقر الذي تعيش فيه يشكل حكما قاسيا عليها بان تبقى في مكان متدن على السلم الاجتماعي. وتغدو صديقة لبطل الرواية كلايد الذي يعدها بالزواج فتسلمه نفسها وتحمل منه، بالرغم من أن الحمل خارج نطاق الأسرة في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة كان يعتبر عارا على المرأة، وكانت توصف المرأة الخاطئة بأنها ساقطة ويطاردها التمييز والتحامل مدى الحياة.

سوندرا فينشلي، من ناحية أخرى، شابة جميلة وثرية، وتتحرك في الطبقات الاجتماعية العليا. وهي تمثل كل ما يطمح إليه كلايد في الحياة: الثراء والمتعة. وهو يريد الوصول إلى سوندرا بكل ما يمكنه من وسائل. ويقرر قتل روبرتا عندما تبدي له سوندرا أنها مهتمة به.

ويفر كلايد من موقع الجريمة، ولكن جميع الأدلة تطارده. وتتمكن الشرطة من القبض عليه، ويقدم للمحاكمة. وينفي التهم الموجهة إليه، ويكذب على المحامين بشأن ما كان يعتزم القيام به وما فعله. وبعد محاكمة طويلة يحكم عليه بالموت. ولا تفلح محاولات أمه في تعديل الحكم أو تخفيفه. ويواجه الموت وحيدا.

في العشرينيات من القرن العشرين شهدت الولايات المتحدة نهضة اقتصادية لم تعرفها في السابق. واغتنى كثير من الأمريكيين بطريقة أو بأخرى بسبب انتعاش أسواق المال وارتفاع أسعار الأراضي، وبسبب اختراعات جديدة واستنباط طرق لإنتاج السلع لم تكن تعرف من قبل. فأصيب الأمريكيون بحمى الركض وراء طموحات مادية لا تعرف الحدود، وأصبحت الحياة المادية هي مقياس النجاح والتحقق. وجاءت رواية (مأساة أمريكية) عام 1925 لتؤرخ لمرحلة واجه فيها المجتمع الأمريكي أزمة أخلاقية وإنسانية مستحكمة.


لندن - بريطانيا
[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى