صابر رشدى - مخدرات الطفولة.. قصة قصيرة

مبكرا، بدأ التعلق بالحشيش كمادة سحرية، وخيارغيرأخلاقي، لا يتم الإفصاح عنه بسهولة، رغم احتلاله مركزا متقدما على قوائم اهتماماتنا؛ كان مخدراعالي الجودة، متوافرا بكثرة. نذهب إلى أولئك الذين يوردونه للمناطق المحيطة بنا، دقائق قليلة تقذف بنا هناك، الأشقياء المستأجرون، يتناثرون في المكان، غرباء، مجلوبين من السجون، نافذي الصبر وعلى درجة شديدة من الغليان، مسلحين في الخفاء. فهنا ميدان حرب، يستوجب الحيطة والحذر: لاتمش بصحبة فتاة جميلة، أوتحدق كثيرا في الوجوه بنظرات تحد، مدعيا القوة، كن عاديا، يوتوبي الرؤية، متوحدا مع اللحظة في ثبات، متسلحا باللامبالاة، حتى تنصرف بسلام . كنت أجمع النقود من الأصدقاء، ثم أمضي بها وحيدا للشراء، تاركا الجميع ورائي، متجها صوب المرأة الجالسة فوق الرصيف قدام باب منزلها، إنها إبنة شقيق التاجرالكبير، أنثى عفية، سمينة وبيضاء، في العقد الثالث تقريبا،أنموذجا إرشاديا مكتملا لنساء الأحياء الشعبية فائقات الجمال، تطوق ذراعيها أساورذهبية كثيرة، وتستريح فوق صدرها الناهض قلادة كبرى ثقيلة الوزن .

اقترب منها

- قرش حشيش .

عندك حفل ؟

ترد ساخرة . كن إلى الصمت، مفضلا النظر إلى مصاغها، لكنها تفاجئني .

- العيال الواقفون هناك ...جاءوا معك ؟ لا أعرف كيف لمحتهم على هذا النحو من السرعة.

- نعم .

أناولها النقود، وأنتظر نشوانا خروج الحشيش من بين نهديها، فقد كنت أخاطربنفسي، مضحيا من أجل هذه اللحظة، كانت القطعة تخرج دافئة من مكمنها، وأنا أطيل النظر دون ثرثرات متكلفة، يحملني خيالي إلى ماوراء العالم رفقتها.

- لماذا تحدق هكذا ؟

أحسد الحشيش !

تمد يدها بقطعة ملفوفة بالسوليفان .

- خذ ياهائج. واخفض صوتك حتى تعود إلى أمك حيا تقض بأسنانها قطعة أخرى تكفي لحشو سيجارتين .

- هذه لك وحدك. أنت ولد جرئ .

ثم تضيف بنبرة جادة . ال في أى وقت. لاتهتم بالنقود. كانت تعرف أننا طلبة مدارس نقوم بتجميع هذه الجنيهات القليلة بصعوبة. في هذه الأيام الخالية من الضجر، والمشحونة بتصورات خيالية عن المستقبل، لم نكن نكتفي بتجار الجوار، كانت تـأخذنا الحماسة والميل إلى المخاطرة للذهاب إلى "الباطنية"، معقل هذه التجارة المحرمة وفردوس المدمنين. نمضي إلى هناك في عمق الليل، تحت ضغوط وإلحاحات محمود حنفي الذي يدخن بشراهة غريبة منافسا للكبار في أفراح المنطقة. للباطنية رنين أخاذ، يثير الرهبة والفضول، تنهض معه مجموعة من الأسماء الشهيرة، والحكايات المنسوجة حولها، بصعوبة كنت أحاول الربط بين الحقيقة وبين الواقع الخرافي المصاغ ببراعة فيما يشاع هنا، فثمة أساطيرتتداول عن هذا العالم الغامض، تجمع بينها حبكات مشتركة. السير الذاتية لهؤلاء التجار تتجاوز حدود القاهرة وتجلجل في كل مكان، كنا نسمع عن البيع في عز النهار، عن جبل الدراسة الذي يمثل حائط صد طبيعي من جهة الشرق، عن الحواري، والأزقة الضيقة، التي يصعب دخول السيارات إليها، نذهب إلى هناك لرؤية الرجال، الذين لا يخرجون إلى العالم إلا بعد منتصف الليل، نعرفهم بأسمائهم، بملامحهم الخاصة التي ينفردون بها عن بقية البشر، اللون الأسمر الخفيف المضروب بحمرة داكنة. وثبات نفسي ملحوظ، مجردين من المشاعر في مكان صالح للمفاجآت ومفتوح دائما على كل الإحتمالات. على المداخل المؤدية إلى هذه المتاهة الصغيرة، يقف شبان أنيقون، بسراويل جينز ومعاطف جلدية فاخرة، تحت أباطهم سيوف صغيرة لامعة. أحدهم يحمل كرة أفيون، يقوم بمطها، ثم تكويرها مرة أخرى. شاب أخر، يحمل فردة حشيش وابتسامة خفيفة تظلل وجهه. إنهم أبناء كبار التجار، وأصهارهم، يبدأون الحراسة من نقاط متقدمة .

يقومون بتوقيفنا .

- إلى أين ياشباب .

- نتسوق . نجيبهم . - لا تطيلوا المكوث بالداخل حتى لايقوم أحدهم بمضايقتكم .

نبدأ في التجوال، الدروب الشهيرة، المقاهي المنزوية. سادة الحي، الذين يتكئون إلى آرائك عربية الطراز، والأراجيل مرصوصة بين أياديهم، يسحبون الدخان باسترخاء تام، كأنهم في الطريق إلى نوع من الإكتمال الخالص. نظرات الناضورجية تتابعنا، يداهمنا االخوف أحيانا، لكن أعمارنا الصغيرة، ومظهرنا كطلبة مدارس ذي حضور سوريالي يوفر لنا بعض الأمان . كان تفقد المكان والتجول عبر مجاهله أكثر أهمية من الشراء، إنها معاينة حصرية، قرينة الفضول، والدخول المبكر إلى عوالم الخطر، يخايلنا الزهو أحيانا، ونحن نتجول داخل هذا المعقل. نهاية الجولة، نستريح قليلا في أحد المقاهي الصغيرة، منشغلين بتأمل المكان . يبادرنا النادل.

من اين ياشباب ؟

نجيبه عن إسم منطقتنا .

يواصل. -

ومالذي جاء بكم إلى هنا؟

- نريد حشيش!

تأخذه الدهشة، فالرجل في حقيقة الأمربائع صغير.



ديكم الحاج "......." والمعلم " ........" والمعلمة " ........" كلهم تجاركبار وأصدقائنا .

- الحشيش هنا له طعم مختلف.

أبادره بحماس، مفتعلا الذكاء والأريحية، قبل أن نأخذ حصتنا الصغيرة ونحن مفعمين بالسعادة ونشوة المغامرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى