زياد الحكيم – غي دو موباسان

انتهت فترة تلمذة موباسان Guy de Maupassant على يدي الكاتب الشهير غوستاف فلوبير بنشر قصة (كتلة الشحم) التي قال عنها فلوبير انها دليل على دخول استاذ جديد ميدان القصة القصيرة. وكانت وفاة فلوبير في ذلك العام بمثابة حافز قوي لموباسان ان يعمل كل ما في وسعه من اجل ان يكون كاتبا كبيرا تقديرا منه لما تلقاه من استاذه وصديقه من رعاية وتوجيه. فراح يعمل بجد واجتهاد وكأنه يعلم انه كان في سباق مع الزمن وان القدر لم يكن ليمهله اكثر من ثلاثة عشر عاما اخرى. وحقق نجاحا باهرا في اوساط القراء والنقاد على السواء نظرا لدقة ملاحظته. وهذا ما تعلمه من فلوبير الذي اكد ان على الفنان ان يطيل التأمل في موضوعه الى ان يكتشف فيه تلك الخاصية الفريدة التي تميزه عن غيره من الموضوعات المماثلة. وعلى الفنان بعد ذلك ان يصف تلك الخاصية بلغة دقيقة. والحق ان موباسان لم يكن من الموهبة بحيث بجاري استاذه في دقة التعبير، ولكنه كان قادرا على النفاذ الى اعماق موضوعاته بفضل دقة ملاحظته بشكل لا يجاريه فيه الا عدد قليل من الكتاب.

ولد موباسان (1850-1893) في اقليم نورماندي بفرنسا. وكان ابوه رساما، وكانت امه تتمتع بذكاء وارادة قوية. وكانت واخوها صديقين حميمين لغوستاف فلوبير الذي قام بدور مهم في تطور موباسان الادبي والفلسفي في المراحل الاولى.


وادت الخلافات بين الابوين الى انفصالهما عندما كان الصبي في الحادية عشرة من عمره. وتولت الام رعايته ورعاية اخيه. وبعد سنتين من ذلك ارسل موباسان الى مدرسة داخلية في مدينة روين، وهناك امضى ثلاث سنوات. ثم طرد من المدرسة ونقل الى مدرسة حكومية في المدينة نفسها. وهنا التقى احد اصدقاء فلوبير الشاعر لوي بوييه الذي كان لتوجيهاته اثر بالغ في تطور الكاتب.

وهكذا امضى موباسان مرحلة طفولته وشبابه كلها في نورماندي وهو الاقليم الذي غدا فيما بعد البيئة التي تتحرك فيها شخصيات قصصه ورواياته.

وبعد تخرجه في المدرسة التحق بالجيش وقاتل في الحرب الفرنسية البروسية. وكان لهذه الخبرة اثرها العميق في اعماله الادبية فيما بعد. كما كان للاعوام العشرة التي قضاها موظفا حكوميا في باريس عندما تدهورت احوال اسرته المعاشية وتعين عليه ان يكسب قوته بنفسه. وهذه الخبرات الصعبة لم تستطع ان تنال من عزيمته وتصميمه على ان يصبح كاتبا. بل على العكس، كان لهذه الخبرات اثر كبير في تعزيز ارادته في ان يتحرر من اعباء البيروقراطية وان يصبح كاتبا مستقلا. ووافق على ان يتتلمذ على يدي فلوبير بشكل لم يسبق له مثيل في الادب الفرنسي. وذكر عدد من الكتاب الذين كتبوا سيرة موباسان ان كاتبنا كان ابنا غير شرعي لفلوبير، ولكنهم لم يقدموا دليلا مقبولا واحدا على صحة زعمهم. كان من عادة فلوبير ان يدعو موباسان الى شقته في باريس ويعطيه دروسا في الاسلوب والكتابة ويصحح ما كان يكتبه الكاتب الشاب. وقد قدمه لعدد من كبار الكتاب في ذلك العصر ومنهم اميل زولا وايفان تروجينيف وادمون دو غونكور وهنري جيمس. وقال فلوبير مرة: ان موباسان تلميذي وانا احبه كما لو كان ابني. لقد كان فلوبير مثالا ادبيا حرص موباسان على الاقتداء به، وكان ايضا ابا روحيا لموباسان الذي عاش سنوات حياته الاولى في اسرة مفككة. ولذلك كان لوفاة فلوبير اثر الصدمة على موباسان كتلميذ وكابن.

واتلف موباسان كل ما كتبه تقريبا الى ان شعر بانه غدا كاتبا متقنا استخدام ادواته. وفي ابريل 1880، وذلك قبل شهر من وفاة فلوبير، اشترك مع خمسة من الكتاب الاخرين برئاسة اميل زولا في نشر مجموعة قصص قصيرة ساهم كل واحد منهم بقصة. وكان القصة التي ساهم موباسان بها بعنوان (كتلة الشحم). ولم تكن القصة افضل قصة في المجموعة فحسب، ولكنها قد تكون افضل قصة قصيرة ألفها موباسان. ومع ان طريقة العرض والبناء والاسلوب في القصة مستوحاة من فلوبير الا ان موباسان لم يكن مقلدا لاستاذه. صحيح انه تعلم من فلوبير، ولكنه وظف ما تعلمه في الوصول بالقصة القصيرة الى ما يشبه الكمال. ومنذ ذلك الحين صنف موباسان على انه من اتباع المذهب الطبيعي بالرغم من استقلاله.

واعقب ذلك نشاط محموم دام حوالي عشرة اعوام كتب خلالها ثلاثمئة قصة قصيرة وست روايات وعدة مسرحيات وديوانا من العشر وما يقارب ثلاثمئة مقالة في مختلف الصحف والمجلات.

ولم يكن موباسان كاتبا مبدعا حققت له كتبه دخلا ممتاز فحسب، ولكنه كان من كبار رجال الاعمال، ويقدر دخله السنوي بما يعادل مئة الف جنيه استرليني في ايامنا هذه، في حين لم تكن ضريبة الدخل معروفة او مطبقة.

وفي الوقت الذي توالت فيه اعمال موباسان بالصدور وتوالت انتصاراته على الساحة الادبية الفرنسية اخذت صحته بالتدهور تدريجيا. كان موباسان مصرا على عدم الزواج شأن استاذه فلوبير، ولكنه كان مسرفا في علاقاته النسائية، واصيب بمرض الزهري في سن مبكرة. وكان المرض قد استفحل عندما بدأ اسم موباسان يسطع في سماء الادب الفرنسي. وكانت وفاة اخيه في مشفى الامراض العقلية عام 1889 بمثابة التحذير له بان نهايته قد لا تكون بفعل الشيخوخة. وحاول الانتحار مرتين تجنبا للذهاب الى مشفى الامراض العقلية. ولكنه دخل المشفى في يناير 1892 وتوفي هناك بعد ثمانية عشر شهرا.

تمثل القصص القصيرة الثماني التي نشرت في مجموعة موباسان الاولى بعنون (بيت تلييه) الموضوعات التي تناولها الكاتب ووسعها مرة بعد مرة. تبحث قصة "والد سيمون"وقصة "الاسرة" في موضوع نجده يتكرر في قصص كثيرة وهو موضوع اهمال الاب اوضاع اسرته وابنائه. وفي قصة "على الماء" نقرأ وصفا للجوانب الغامضة والخارقة للطبيعة. وتقدم قصة "حفلة الشمبانيا" مثالا للقصص التي تبحث في العادات والاخلاق الاجتماعية والموضوع الرئسي فيها هو الحب. وفي قصة "زوجة بول" نجد مثالا للقصص التي نقرأ فيها عن الانحراف بشكل او بآخر. اما "قصة فتاة ريفية" فهي تمثل قصص الفلاحين في اقليم نورماندي.

واثبت موباسان انه قادر على تأليف الروايات ايضا. كانت روايته الاولى بعنوان (حياة) 1883. وقال عنها تولستوي انها قد تكون افضل رواية فرنسية بعد رواية (البؤساء) لفيكتور هيغو. وهذه الرواية دراسة لتحرر امرأة ساذجة من كل الاوهام. وروايته الثانية بعنوان (بيلامي) 1885، وهي هجوم مرير على قطاعات مختلفة من مجتمع فاسد وخاصة قطاع السياسة وقطاع الصحافة. اما روايته الثالثة فهي بعنوان (بيير وجان) ويعتبرها النقاد افضل ما سجله موباسان من روايات لما فيها من دراسة نفسية متعمقة ولما انجزه موباسان فيها من كمال الشكل الروائي. وهو ما يميز افضل قصصه القصيرة. وتتصدر هذه الرواية مقالة تعتبر وثيقة مهمة عن فن الرواية.

المرأة في قصص موباسان هي التي تأخذ بزمام المبادرة. لقد كان موباسان مقتنعا ان الاخلاق التقليدية قائمة على اضطهاد المرأة وتمجيد الرجل. وهذا هو اساس الصراع الاجتماعي الذي يسفر عن التحدي الشجاع الذي تقوم به المرأة وهو التحدي الذي اراد موباسان ان يصوره في اعماله. ويصور موباسان ظروف المرأة المتزوجة التي اخفقت في زواجها ولم يساعدها زوجها في تحقيق المثل العليا التي طمحت ان تجدها في مؤسسة الزواج. ويصور الزوج بطريقة لا يجد فيها القارىء مجالا للتعاطف معه فالثقة بالزوجة ليست فضيلة اذا كان اساسها غرور الزوج. ومعظم شخصيات موباسان فلاحون نورمانديون، وبيروقراطيون باريسيون، وجنود وبحارة. وهو لا يفضل نهاية بعينها لقصصه. ولكنه يختار النهاية التي يفرضها الواقع المرسوم في القصة. ذلك ان هدفه الاول من كتابة القصة هو تقديم صورة واضحة المعالم لما رآه بعينيه.


[email protected]
لندن - بريطانيا
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى