غي دي موباسان - رسالة من مجنون.. ت: محمد آيت ميهوب

عزيزي الدكتور، إنّني أضع نفسي بين يديك فافعل بي ما يحلو لك.
سأفصح لك صراحة عن عقليّتي الغريبة ولك أن تقدّر إن لم يكن من الأفضل أن أعالج لمدّة ما في أحد المستشفيات، بدل أن أترك فريسة للهلوسات والأوجاع التي تضايقني.
إليك حكاية العلّة الفريدة التي أصابت روحي، حكايتها الطويلة والصحيحة.
كنت أعيش كسائر الخلق أراقب الحياة بعيني الإنسان المفتوحتين والعمياوين دون أن يثير استغرابي مثير، ودون أن أفهم ممّا أري شيئا. كنت أحيا كما تحيا البهائم، كما نحيا كلّنا، قائما بوظائف الحياة جميعها، مدقّقا النظر معتقدا أنّني أري، معتقدا أنّني أعلم، ومعتقدا أنّني أعرف ما يحيط بي، وإذا بي أدرك يوما ما أنّ كلّ شيء باطل.
إنّ جملة من جمل مونتسكيو هي التي أضاءت السبيل بغتة أمام تفكيري. ها هي ذي تلك الجملة: »لو أنّ عضوا زاد أو نقص في جسدنا لصنع لنا عقلا آخر.(…) في نهاية المطاف إنّ كلّ القوانين التي نهضت علي ما هو عليه جسدنا، ستكون مختلفة بشكل ما لو أنّ جسدنا لم يكن علي الشكل الذي هو عليه»‬.
لقد فكّرت في هذا الكلام مدّة أشهر وأشهر وأشهر، وشيئا فشيئا حلّ فيّ وضوح غريب، وذلك الوضوح هو الذي ألقي العتمة فيّ.
ففي الواقع إنّ أعضاءنا هي الوسائط الوحيدة بيننا وبين العالم الخارجيّ. وذلك يعني أنّ الكيان الداخليّ الذي يؤلّف الأنا، يجد نفسه في تماسّ عن طريق بعض الأسلاك العصبيّة، مع الكيان الخارجي الذي يؤلّف العالم.
بيد أنّه إضافة إلي أنّ هذا الكيان الخارجيّ ينفلت منّا بأبعاده وديمومته وخصائصه التي لا تحصي ولا سبيل إلي النفاذ إليها، وببداياته وبمستقبله أو نهاياته، وبأشكاله القصيّة وتمظهراته اللامحدودة، فإنّ أعضاءنا لا تزوّدنا إلي الآن عن القطعة الصغيرة التي يمكننا أن نعرفها منه إلاّ بإفادات هي غير محقَّقة بقدر ما هي زهيدة عددا.
إنّها إفادات غير محقّقة، لأنّ خصائص أعضائنا هي وحدها التي تعيّن لنا الخصائص الظاهرة للمادّة.
وهي إفادات زهيدة عددا، لأنّ حواسّنا لا تتجاوز الخمس، لذلك فإنّ حقل استقصاءاتها وطبيعة كشوفاتها محدودان جدّا.
أوضّح الأمر. إنّ العين تحدّد لنا الأحجام والأشكال والألوان، وهي تخدعنا في شأن هذه النقاط الثلاث.
فهي لا تستطيع أن ترينا إلاّ الأشياء والكائنات ذات الحجم المتوسّط تناسبا مع قامة الإنسان، وذلك هو ما جرّنا إلي إلصاق عبارة »‬كبير» بعدد من الأشياء، وعبارة »‬صغير» بعدد آخر من الأشياء، لا لشيء إلاّ لأنّ ضعف العين لا يسمح لها أن تعرف ما هو بالغ الشساعة أو بالغ الدقّة بالنسبة إليها. ومن ثَمّ ينشأ أنّ العين تكاد لا تعرف ولا تري شيئا تقريبا، وأنّ الكون بأكمله تقريبا يظلّ محجوبا عنها، وكذلك تظلّ خفيّة عنها النجمة التي تسكن الفضاء والدويبة المجهريّة التي تسكن قطرة الماء.
وهَبْ فرضا أنّ للعين قدرة تفوق قدرتها الطبيعيّة مائة مليون مرّة، وأنّها تلمح في الهواء الذي نتنفّسه جميع عناصر الكائنات اللاّمرئيّة، وسكّان الكواكب المجاورة أيضا، فستظلّ ثمّة أعداد لا نهاية لها من أجناس حيوانيّة أكثر ضآلة، وستظلّ قائمةً عوالمُ كثيرةٌ شديدةُ التنائي إلي الحدّ الذي لا تصيب منها العين ملمحا.
إنّ كلّ الأفكار التي نحملها عن الحجم هي أفكار خاطئة إذن ما دام لا يوجد حدّ ممكن للكبر، ولا حدّ ممكن للصغر.
وإنّ تقديرنا للأبعاد والأشكال لا قيمة مطلقة له، بناء علي أن لا تحديد لذلك التقدير إلاّ قوّة عضو مّا من أعضائنا، والمقارنة التي نقيمها دائما بيننا وبين الأشياء.
أضف إلي ذلك أنّ العين هي عاجزة أيضا عن إبصار الشفيف. فكأس لا تشوبها شائبة توقع العين في الخطأ، فتخلط بينها وبين الهواء الذي لا تراه هو الآخر.
ولنمرّ إلي اللون.
فما من وجود للّون إلاّ لأنّ عيننا مشكَّلة علي نحو يجعلها تنقل إلي الدماغ نقلا يتّخذ شكل لون، مختلفَ الهيئات التي تمتصّها الأجسام وتفكّكها تبعا لتركيبها الكيميائيّ وللأشعّة الضوئيّة التي تسقط عليها.
وإنّ نسب هذا الامتصاص وذاك التفكيك هي التي تؤلّف الفويرقات.
فهذا العضو إذن هو الذي يفرض علي العقل طريقته في النظر، أو قل علي نحو أفضل طريقته الاعتباطيّة في إدراك الأبعاد وتقدير الصلات بين الضوء والمادّة.
ولنفحص أمر السمع.
إنّ الأمر مع الأذن أدهي وأمرّ ممّا هو مع العين، إذ نحن هُزَأَةُ هذا العضو النزويّ ونحن مخدوعوه.
فكلّ جسدين يصطدم أحدهما بالآخر يحدثان اهتزازا هوائيّا. وبفعل هذه الحركة، تقشعرّ داخل أذننا جلدة مّا صغيرة تحوّل فورا ما لم يكن في الحقيقة سوي تموّج، إلي صوت.
إنّ الطبيعة خرساء. ولكنّ طبلة الأذن تملك خاصيّة إعجازيّة تنقل لنا بمقتضاها في شكل أحاسيس، وأحاسيس مختلفة تبعا لعدد التموّجات، كلَّ الارتعاشات التي تهزّ تموّجات الفضاء اللاّمرئيّة.
هذه الاستحالة التي ينجزها العصب السمعي داخل المجري القصير من الأذن إلي الدماغ، قد سمحت لنا بأن نخلق فنّا غريبا هو الموسيقي، أكثر الفنون شعريّة وأبلغها دقّة، ذلك الفنّ المبهم كالحلم والصحيح كعلم الجبر.
وما عسانا نقول عن الذوق والشمّ ؟ أفترانا كنّا سنعرف العطور ونوعيّة الأغذية لولا خصائصُ أنفنا وحنكنا العجيبةُ؟
رغم ذلك فبإمكان البشريّة أن توجد دون الأذن، ودون الذوق، ودون الشمّ، أي دون أيّ فكرة عن الصوت والطعم والرائحة.
فلو كان لنا إذن أعضاء أقلّ ممّا هي لدينا، لكنّا نجهل أشياء رائعة وفريدة، ولكن لو كان لنا من الأعضاء أكثر ممّا هو لدينا، لكنّا اكتشفنا حولنا ما لا حدّ له من أشياء أخري لم تكن تخطر علي بالنا قطّ لنقص الوسائل التي تخوّل لنا إدراكها.
بناء علي ذلك فنحن نخطئ إذ نحكم علي المعروف، وإنّ المجهول الذي لم يسبر له غور ليحاصرنا من كلّ جانب.
كلّ شيء هو إذن غير محقَّق، وقابلٌ لأن يقدّر علي وجوه مختلفة من التقدير.
كلّ شيء خاطئ، كلّ شيء ممكن، كلّ شيء مريب.
فلنضع هذه الحقيقة مستفيدين من المثل القديم الذي يقول : »‬كلّ ما هو حقيقة من ناحية جبال البيرينيّ هو خطأ في ما بعدها».
ولنقل : كلّ ما هو حقيقة في عضونا، هو خطأ قريبا منه.

إنّ جمع اثنين مع اثنين ما عاد يساوي أربعة خارج بيئتنا.
إنّ حقيقة مّا فوق الأرض هي خطأ بعيدا عنها، ومن ثَمّ استخلصتُ أنّ الأسرار التي نواجهها كالكهرباء والتنويم المغناطيسي وتناقل الخواطر والإيحاء التنويميّ، وكلّ الظواهر المغناطيسيّة، لم تظلّ خافية عنّا إلاّ لأنّ الطبيعة لم تزوّدنا بالعضو، أو بالأعضاء الضروريّة لفهم تلك الظواهر.
بعد أن اقتنعت بأنّ كلّ ما تكشفه لي الحواسّ ليس له من وجود إلاّ بالنسبة إليّ وفق الطريقة التي أدركه بها وأنّه قد يكون مختلفا أشدّ الاختلاف بالنسبة إلي كائن آخر له تنظيم عضويّ يختلف عمّا لديّ، وبعد أن استخلصت أنّ إنسانيّة أخري لو جبلت جبلّة مختلفة عن جبلّتنا لكان لها عن العالم وعن الحياة وعن كلّ شيء أفكار معارضة مطلقا لأفكارنا، لأنّ التوافق في المعتقدات لا ينشأ إلاّ عن التماثل بين الأعضاء البشريّة، والتباين في الآراء لا يتأتّي إلاّ من الاختلافات الطفيفة في اشتغال شبكاتنا العصبيّة، بعد كلّ ذلك بذلت مجهودا فكريّا يفوق قدرة البشر لأتصوّر المستغلق الذي يحيط بي.
فهل تراني غدوت مجنونا ؟
قلت في نفسي : »‬ إنّني مطوّق بأشياء مجهولة». ووضعت نفسي موضع الإنسان الذي لا يملك أذنين وتذهب به الظنون إلي وجود الصوت كما تذهب بنا نحن إلي وجود أسرار كثيرة خفيّة، الإنسان الذي تحقّق من وجود ظواهر سمعيّة لا يستطيع أن يحدّد طبيعتها ولا مصدرها. فتملّكني خوف من كلّ شيء، كلّ شيء حولي، خوف من الهواء، خوف من الليل. فما الذي يتبقّي عندما لا نستطيع معرفة أيّ شيء تقريبا، وعندما يكون كلّ شيء بلا حدود ؟
أليس هو الفراغ ؟ وما عساه يوجد داخل الفراغ الظاهر ؟
وهذا الرعب المبهم ممّا يفوق الطبيعة، ذلك الرعب الذي يلاحق الإنسان منذ ولادة العالم، هو أمر مشروع بما أنّ ما يفوق الطبيعة ليس شيئا آخر غير ما يظلّ محجوبا عنّا !
حينها فهمت الذعر. فقد بدا لي أنّني كنت أقترب دون انقطاع من اكتشاف أحد أسرار الكون.
لقد سعيت إلي شحذ أعضائي وإثارتها، وجعلها تدرك أحيانا اللاّمرئيّ.
قلت في نفسي : »‬إن كلّ شيء هو كائن. والصرخة التي تعبر الهواء هي كائن شبيه بالحيوان، إذ إنّها تولَد وتنشئ حركة، ثم تتحوّل لتموت. والحالة هذه، فإنّ العقل الهلع الذي يعتقد في وجود كائنات لا تشكّل ماديّا لها، هو علي صواب إذن. فما هي تلك الكائنات ؟»
ما أكثر الناس الذين يستشعرون وجود هذه الكائنات، ويرتعشون عندما تقترب منهم، ويرتجفون عندما يتماسّون معها تماسّا لا يمكن تقديره. فالمرء يشعر بقرب هذه الكائنات منه وبأنّها حوله، ولكن لا سبيل إلي تبيّنها، لأنّنا لا نملك العين التي تراها، أو بعبارة أصحّ العضو المجهول الذي بإمكانه أن يزيل عنها النقاب.
وهكذا إذن كنت أشعر بها أكثر من أيّ كان، تلك العابرة الفوق طبيعيّة. هل هي كائنات أم أسرار خافية ؟ من أدراني ؟ ليس بمستطاعي أن أقول ما هي، ولكن يمكنني دائما أن أشير إلي حضورها. وقد رأيت رأيت كائنا لا منظورا- بمقدار ما يمكن أن نري به تلك الكائنات.
وقد ظللت ليالي بأكملها جامدا، جالسا إلي منضدتي، رأسي بين يديّ وأنا أفكّر في هذا، فيها. وكثيرا ما كان يتبادر إليّ أنّ يدا لا يمكن مسّها، أو بالأحري أنّ جسدا لا يمكن القبض عليه يلامس شعري ملامسة خفيفة. وما كان يلمسني، فلم تكن له ماهيّة جسديّة، بل إنّ ماهيّته ممّا لا يقدّر ولا يعرف.
بيد أنّي سمعت ذات مساء صوت طقطقة من ورائي فوق الأرضيّة الخشبيّة. لقد طقطقت بطريقة غريبة. ارتجفت. التفتّ. لم أر شيئا. ولم أعد إلي التفكير في الأمر.
لكن في الغد حدث الصوت نفسه في الساعة نفسها. فتملّكني خوف شديد إلي درجة أنّني نهضت واقفا وأنا متأكّد، متأكّد من أنّني لست وحدي في حجرتي، ومع ذلك لم أبصر شيئا. وكان الهواء نقيّا صافيا في كلّ الأرجاء. وكان مصباحاي يضيئان كلّ الزوايا.
لم يصدر الصوت مجدّدا، فأخذت أستعيد هدوئي شيئا فشيئا، إلاّ أنّني ظللت قلقا مع ذلك وكنت ألتفت علي الدوام.
في اليوم الموالي قفلت عليّ مبكّرا ساعيا إلي البحث عن السبيل التي قد تمكّنني من الوصول إلي رؤية اللاّمرئي الذي كان يزورني.
ورأيته. وكدت أموت رعبا.
كنت قد أشعلت جميع ما في مدفأتي ونجفتي من شموع. فكانت الغرفة مضاءة وكأنّنا نستعدّ لحفلة. وكان مصباحاي يتوهّجان نورا فوق منضدتي.
قبالتي يقع سريري، وهو سرير عتيق ذو أعمدة، مصنوع من خشب السنديان. علي يميني مدفأتي. وعلي يساري بابي الذي كنت قد أغلقته بالمزلاج. وخلفي توجد خزانة كبيرة جدّا ذات مرآة. فنظرت إلي وجهي يتراءي فيها. فألفيت لي عينين غريبتين، وبؤبؤين شديدي الاتساع.
ثمّ جلست كشأني كلّ يوم.
كان الصوت قد صدر البارحة وقبل البارحة علي الساعة التاسعة واثنتين وعشرين دقيقة. فانتظرت. وعندما حانت اللحظة المحدّدة، اعتراني إحساس لا قبل لي بوصفه فكأنّما تيّار، تيّار لا يقهر قد تغلغل فيّ عبر كلّ جزيء صغير في جسدي مغرقا روحي في ذعر فظيع شديد. وانطلقت الطقطقة قريبا جدّا منّي.
انتصبت واقفا وأنا ملتفت بسرعة كبيرة جدّا إلي درجة أنّني كدت أسقط. كان يمكن للمرء أن يري ما في الغرفة وكأنّه في واضحة النهار، لكنّني لم أتراء في مرآة الخزانة ! كانت المرآة خالية، صافية، تتوهّج ضياء. لم أكن أتراءي فيها رغم أنّني كنت أقف قبالتها. ظللت أبحلق فيها بعينين مذعورتين. ولم أكن لأجرؤ علي التقدّم نحوها شاعرا بيقين أنّه يقف بيننا هو اللاّمرئيّ، وأنّه يحجبني عن المرآة.
آه ! ما أشدّ ما أصابني من خوف ! ثم ها إنّني قد أخذت أري صورتي وسط ضبابة في غور المرآة، وسط ضبابة تسبح في ما وراء الماء، وكان يبدو لي أنّ الماء ينساب في أناة من الشمال إلي اليمين، فكنت بذلك أزداد تجلّيا من ثانية إلي ثانية. كان الأمر وكأنّه نهاية كسوف. لم تكن لما كان يسترني تقاطيع، بل كان له ضرب من الشفافيّة الكثيفة التي تأخذ في الانجلاء شيئا فشيئا.
وأخيرا استطعت أن أتبيّنّني بوضوح، علي النحو الذي كنت أقوم به كلّ يوم حين أتطلّع إلي وجهي في المرآة.
لقد رأيته إذن !
ولم أره ثانية من بعد.
بيد أنّني أنتظره دون فتور، وإنّي لأشعر أنّ عقلي قد فقد صوابه في ظلّ هذا الانتظار.
فأنا أواظب طيلة ساعات، وليال، وأيّام، وأسابيع علي القبوع أمام مرآتي منتظرا إياه ! لكنّه لم يأت ثانية.
لقد فهم أنّني رأيته. أمّا أنا فأشعر أنّني سأنتظره علي الدوام حتّي يدركني الموت، وأنّني سأنتظره بلا كلال أمام هذه المرآة وكأنّني صيّاد يتربّص بفريسته.
ولم ألبث أن أخذت أري علي المرآة صورا مخبولة وممسوخين وجثثا بشعة، وكلّ ضرب من ضروب الدواب المروّعة، وكائنات شنيعة، وكلّ الرؤي البعيدة عن المعقول تلك التي تلاحق أذهان المجانين.
هذا هو اعترافي عزيزي الدكتور. فقل لي ما الذي يتوجّب عليّ فعله ؟



غي دو موباسان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى