جودت جالي - ممشى الكالبتوس

قالت:

-إشرب أنت الشاي. أنا أكلت من البقلاوة التي أعطتنا إياها إبنتنا بالأمس....

ضحكت وأضافت:

-.... لا أستطيع منع نفسي من الأكلات الحلوة الدهينة.

وضعت قدح الشاي أمامه بينما رفع بصره اليها مبتسما إبتسامة تعرف مغزاها. قالت في سرها وهي تتجنب النظر اليه "سيبدأ هذا الشيخ مجددا"، ومدت يدها اليسرى الى خصلة من شعرها المصبوغ بالكستنائي تدلت على جبينها لتدفعها جانبا بحركة مرتبكة. أرادت سحب يدها اليمنى بسرعة ولكنه أمسك بها، أطبق على الرسغ بالسبابة والإبهام وثبتها على المنضدة وضغط بلطف عليها كاتما إرتجافها في باطن يده التى غطتها تماما.

-لا يستطيع الحلو منع نفسه من أكل الحلو.

- يا حلو يمعود... إتركني لدي غسل صحون..

حركت يدها بتوسل فأفلتها. إنتابها شعور الفتاة المراهقة التي يتبعها فتاها عن قرب ويوشك في أية لحظة أن يحصرها في ركن خال من الناس فتستسلم لقبلاته. نظر هو اليها وهي واقفة عند الحوض، الى جسدها الذي لا يزال محتفظا باستقامته وهي على مشارف الخمسين، الى تقاطيعه الممتلئة بأناقة، رغم ترهل عند الحوض، الى ظهرها الشبيه بظهر تمثال لإمرأة رومانية. هذه المرأة لا زال جمالها يقاوم. لطالما كان محسودا عليها، وكم من مرة سمع في تلك السنين الخوالي من صديق وهما يسيران معا عبارة دهشة وإعجاب:

-أنظر... هذه الفتاة التي يتمنى المرء أن تكون صديقته!

ويلتفت فيراها، ترتدي ثوبا من ثيابها زاهية الألوان المفصلة على جسدها "كالمحبس"، منسابا مع ساقيها الى الكاحلين، وتفلت قصدا عباءتها من يديها لتترك الهواء يفتحها ويرفعها خلفها فلا يعود شيء يخفي بهاءها عن الأعين التي تحف بها على الرصيف بين البيوت وشجيرات الظل، كان يعرف أنها تفعل هذا لأنها لمحته يسير مع صديق فرغبت في إثارته، ويختال الجسد المفتول على الشهوة للحياة وهي تطرق في سيرها وتبتسم إبتسامة ماكرة، ومع أنه يشعر أول مرة بالإنتشاء لما يراه من الذهول على ملامح صديقه وعينيه المحدقتين فإنه سرعان ما تنتابه الغيرة والضيق من نظرته فيقول بسرعة ليدفعه الى إبعاد نظره :

-هي حبيبتي....

ويضيف ليضفي على إعلانه قوة العرف:

-.... وخطيبتي... أهلنا إتفقوا على ذلك.

لم يكن سهلا على أي من أصدقائه أن يصدقه، كانت بنظرهم أجمل من أن تكون لأحد، أجمل من أن يمتلكها هو أو غيره، فيعانقها أو يلمسها حتى، وكان هو فخورا بإعجابهم بجمالها وشكهم بأنها له دون غيره، مسرورا ومستاءا من نظراتهم على حد سواء، ولذلك لم يأل جهدا في حث أهله على جعل الخطوبة رسمية ليستطيع الخروج معها أمام أصدقائه علنا بعد أن كانا يلتقيان حيث يلتقي العشاق بعيدا عن أعين أهل الحي، في متنزه إذا إنزويا فيه لا يعود لسواهما وجود في الكون، وإذا تمشيا في الممرات المشجرة طار به إنتشاء مختلف غير إنتشاء الضم والتقبيل وإطلاق أصابع الوجد الساخنة التواقة للإكتشاف في كائنين متكورين لا يكفان عن النبض والتنهد، إنتشاء لا يخالطه إستياء أو غيرة، بل سرور منبسط مرحب بنظرات الآخرين التي يعدها تهنئة له على حظه الحسن وذوقه في الإختيار، وربما كانت من بعض الشبان تهنئة على مهارة في الإصطياد. هذا كله كان يبهجه، ويجعله يرى نفسه فريدا.

هكذا راح في تأملاته الملتذة، فيما أخذت هي تردد في سرها وهي تقف عند حوض غسل الصحون " لا يستطيع الحلو..."، وقبل أن تكمل تذكرت اللوحة وفكرت أن الوقت قد حان لتخرجها من خزانة ملابسها حيث وضعتها منذ اليوم الذي اشترتها فيه، وليس من وقت أفضل من هذا وهو في مرحه وانبساطه، فلتنبذ ترددها جانبا وتنفذ ما عزمت عليه.

رأت هذه اللوحة معروضة في محل لبيع القرطاسية. كانت موضوعة بين لوحتين أخريين أصغر منها على مسند أمام الواجهة. لوحة أكبر قليلا من دفتر الرسم المدرسي، كأن ما فيها منقول عن الصورة الفوتوغرافية التي كانت عندهما ومزقها (مجيب) في لحظة تميل الى تصورها لحظة ضعف. الفرق الوحيد بين اللوحة والصورة هو أنها ومجيبا غير موجودين في اللوحة. الممشى نفسه بأحجاره الرصاصية وأشجار الكالبتوس متدلية الأغصان من الجانبين والتي تنبئ العشاق بتشابك أغصانها بأن لهم خلفها خلوات ظليلة بعيدا عن أعين الفضوليين، حتى الفرجات ما بين الأغصان تكاد تكون هي نفسها. لولا أنها متأكدة من أن الصورة لم تكن يوما عند أحد من خارج العائلة، ومتأكدة من أنها لم تخرج من بين دفتي الألبوم، لقالت أن رساما وضعها أمامه ونقلها الى خطوط زيتية قوية الألوان دون أن يرسمهما فيها. بدا لها أن الرسام كرر التلوين عدة مرات بحيث كانت تفاصيل الألوان بارزة تغري الناظر بلمسها.

لكن مجيبا لم يمزق الصورة لأنها لم تعد تتلاءم مع الأخلاق السائدة اليوم، لأنها تظهر فيها ترتدي قميصا ضيقا وتنورة تصل الى ما دون الركبتين بقليل مثلا، بل مزقها لسبب آخر، هي تعرفه، ولكنه لم يذكره بل تحجج بحجة أخرى:

- شكلي فيها غير لائق.

نظرت اليه مليا برغم ما إعتراها من إرتباك لتصرفه المفاجئ. كانت قد جلست على الطرف الآخر من الأريكة حين وجدته يتصفح ألبوم الصور وراقبته وهو يضحك لصورة التقطها في العيد الماضي لأطفال شقيقته، ثم وهو يتأمل كثيرا في صورة والدته المتوفاة، ثم رأته يبتسم لصورته مع أحد الأصدقاء في سفرة لصدور ديالى أيام الدراسة الثانوية، وفجأة تعكرت ملامحه.. حولت بصرها عنه الى ألبوم الصور وعرفت سبب هذا التغير المفاجئ. رأت كيف ضاقت حدقتا عينيه كمن يفكر بما يتوجب عليه فعله، وتحركت أصابعه، أمسك الصورة وسحبها من الحافظة الشفافة، أغلق الألبوم بحزم ووضعه على الأريكة بينه وبينها. تصرف كأنها غير موجودة، حتى عندما قال " شكلي فيها غير لائق" قالها كمن يحدث نفسه، وشرع بتمزيقها، أمعن في التمزيق بحيث إستحالت الصورة الى مزق صغيرة. هذه الصورة ضمتها ألبومات مختلفة الأغلفة والموديلات ، مع صور أخرى، خلال ما يقرب من الثلاثين عاما، ومن الصعب تصور لماذا يصبر المرء سنوات طويلة على شيء ينطوي على ذكرى مؤلمة ويحفظه كما يحفظ أي تذكار آخر وفجأة يثور ويعدمه، من الصعب توقع اللحظة التي ينفتح فيها صدع ما طال تحمله وينفلت بعض ما كان محصورا خلفه من ألم مدمر تدميرا بطيئا فيصيب شيئا ما.

ارتجفت شفتاها وهي تنظر بشرود الى اللوحة، عصفت بها ذات المشاعر التي تعصف بها كلما خطرت على بالها أحداث ذلك اليوم والعذابات التي تلتها ثم استدارت بعصبية لتواصل سيرها نحو سوق الخضار، لكن محاولاتها لشغل بالها بشيء آخر غير ما أعادته اللوحة الى ذاكرتها باءت بالفشل. ثقلت خطواتها وهي تسير بين بسطات بائعي الخضار في السوق منخفض السقف حتى توقفت عند أحدهم. رحب بها وامتدح لها الطماطم التي كومها على منضدةٍ فرشت بمشمع مطري وهي لا تنظر اليه بل وقفت جامدة توجه نظرها أمامها كأنها رأت في الممر الذي يروح ويجيء فيه المتسوقون ما جعلها تحجم عن التقدم. سكت البائع بعد محاولتين أو ثلاث للفت إنتباهها وأخذ ينظر اليها نظرة المرتاب.

استدارت وعادت أدراجها خارجة من السوق. لكنها هذه المرة لم تكن نهبا لمشاعر الألم والإحساس بالعار كلما مثلت أمامها ذكرى ذلك اليوم، ذكرى عيني مجيب الطافحتين بالمهانة والمرارة وهو ينظر الى صدرها، الى قميصها الذي نسيت، عندما عادت اليه، أن تعدله وتزرر أعلاه لإرتباكها وذهولها. ولكم رأت منه تلك النظرة فيما بعد، ترتسم أمامها كلما فتحت بعنفٍ بابَ الذكرى جفوةٌ أو كلامٌ عابر ، أو حتى لقطة من فيلم يعرضه التلفزيون، فيسود صمت واجم فيما عيونهما تلتمع بحرج وهما يراقبان رجلا ذا ملامح ملتهبة يمد يديه المرتجفتين شبقا نحو أزرار قميص فتاة مقيدة، ويفتحها زرا زرا، ثم ينزعه الى الخلف بحركة مثيرة. قد يقوم مجيب بإطفاء التلفزيون بسرعة أو يحوله على قناة أخرى وهو يقول متذمرا:

-ما هذه السخافات؟ هل مغزى القصة بحاجة الى هذه اللقطة؟...

وربما يروح يشرح لأفراد العائلة كيف أن القصة واضحة ولم تكن تستوجب هذا المشهد المخل، وإنما يضعها المخرجون في الفيلم لمزيد من الإثارة وجذب الناس... الشباب خصوصا. كان يتكلم بحماس فيما الإبن والبنت يصغيان الى أبيهما وهما يعزوان هبّته المفاجئة وهذا الشرح غير المتوقع في الإخراج السينمائي الى ميل الأب الى الحشمة وتجنيب الأبناء رؤية مشاهد كهذا المشهد . لكنها تعرف السبب.

سارت خارجة من السوق بخطوات ثابتة خفيفة هي غير الخطوات الثقيلة التي دخلته بها. أسرعت الخطى عائدة الى محل القرطاسية وهي تأمل أن تجد اللوحة في مكانها ولم يشترها أحد.

سألت الشاب النحيف المشغول في الداخل بترتيب المعروضات على الرفوف:

-هل رسام هذه اللوحة من منطقتنا؟

خرج من المحل ليرى أية لوحة أعجبتها. نظر الى اللوحة قليلا وأجاب:

-هذه اللوحات كلها إشتريتها من الكرادة في صفقة واحدة.....

ثم أضاف بعد أن لاحظ إهتمامها غير العادي باللوحة عازما على أن لا يفوت فرصة قد لا تتكرر:

- أبيع لك اللوحات الثلاث كلها بالسعر الذي إشتريتها به...

ردت دون أن تحول نظرها عن اللوحة:

-أريد الوسطى فقط.

دفعت له السعر الذي طلبه، وأخذت اللوحة التي وضعها لها في كيس ورقي أسمر، وضعتها لصق جسدها تحت العباءة وتوجهت نحو البيت ناسية ما كانت تريد شراؤه من السوق.

رجعت بذاكرتها الى ذلك اليوم المشؤوم. كانت ضفة النهر غير بعيدة وكانا سيصلان الى خلوتهما لولا أن إعترض طريقهما رجل الأمن. برغم أنها احتاطت للأمر كما أخبرها مجيب فوضعت خاتما من الفضة وفعل هو المثل ولكن هذه الحيلة لم تنطل على الرجل ولم يقبل بادعائهما أنهما مخطوبان. إنضم اليه رجلان آخران ينظران مثله الى الشابين بتطلع متحفز.

-ما جاء بكما الى هنا؟

-نتنزه... هل التنزه ممنوع؟

- ألا تعلمان أن التنزه هنا ممنوع؟

-لا....

-سنأخذكما الى المركز وتبقيان في الحجز الى أن يأتي أحد من عائلتيكما.

-لم نفعل شيئا.

-أخرج هويتك!.. ألست في سن التجنيد؟

-أنا طالب في كلية التربية.

- التربية!.... يعني يعلمونكم التربية؟

وانهالت عليه التعليقات المهينة. طلب منه رجل الأمن دفتر الخدمة العسكرية أو هوية الكلية. كانت هي تمسك بيدها اليمنى زنده الأيسر وتضغط عليه بين الحين والآخر تحثه على الإستجابة للأمر بعد أن رأته ممتنعا، وتصبره خشية أن يرد دفاعا عن كرامته فينهالوا عليه بالضرب ويأخذوهما للتوقيف. إغتنمت فرصة فابتسمت لأكثرهم تشددا إبتسامة متوددة راجية فقال وهو يرد بإبتسامة تشع من عينيه أكثر مما ترتسم على شفتيه:

-لخاطر الشباب الحلوين...

لم يكن المقر أكثر من غرفة خشبية فيها بعض الأثاث المكتبي ويقع بجوار سياج القصر المبني على مرتفع من الأرض مطل على النهر وعلى المتنزه. أدخلها رجل الأمن على المسؤول الذي يرتدي بدلة بيج فاتحة اللون صيفية من قطعتين من نوع السفاري. شاب ناعم الملامح حتى ليبدو بعمر مجيب أو أكبر منه بقليل. عرفت أنه الضابط من مخاطبة الرجل الذي إقتادها اليه بكلمة "سيدي". نظر اليها بإعجاب وبدا عليه أنه لم يتفاجأ كثيرا وأنه قد إعتاد مثل هذه الحالة ثم إلتفت نحو رجل الأمن متسائلا.. أخبره الرجل بأنهم وجدوها مع شاب يتسكعان في المنطقة المحظورة، وأكد بنبرته على عبارة "المنطقة المحظورة" كأنه يوحي للمسؤول بالصيغة التي يتوجب أن تكون عليها المحاسبة كما يفعل عادة المراتب الأقل رتبة والأكثر خبرة مع مسؤوليهم حديثي العهد بالمنصب.

لم تدر كم بقيت في داخل الغرفة الخشبية مع الضابط لوحدهما، كانت شبه دائخة وتجيب على أسئلته عن منطقة سكنها وأهلها وعمل أبيها وأخيها دون تردد ولكن بإرادة مسلوبة، أخيرا سألها:

-قولي الصدق...هل هو خطيبك رسميا؟

خرج الصوت من فمها بالإيجاب محشرجا، باستسلام وذل شعر بهما الضابط، وأدرك أنها لن يكون لها رد فعل رافض، ربما تمنعت قليلا، إذا ما مد يده الى صدرها:

-ليس من الضروري أن ترتدي المخطوبة قميصا ضيقا هكذا....

ولمست أصابعه زر القميص وجذبه بلطف:

-ضيق بحيث لا يمكن تزريره هنا....

وأدخل يده من الفتحة. أحست بالأرض تميد بها ببطء، مرة يمينا ومرة شمالا، وتمالكت نفسها لدقيقة أو نحو ذلك قبل أن تلفظ بصوت واهن من بين أسنانها:

-الله يخليك....

فجأة توقف وأخرج يده. قال متصنعا الأريحية والمرح:

- يبدو أنكما فعلا مخطوبان.

لا تدري لماذا تركها، ربما لم يكن لديه الوقت الكافي ليتمادى، وربما لم يكن المكان مناسبا، ولو فعل ما كانت لتستطيع أن تقاوم أو تصرخ ومجيب في الخارج على مبعدة أمتار. حين خطا خطوة الى الخلف مفسحا المجال لها للخروج لم تستطع رأسا أن تخطو باتجاه الباب الذي ما أن إستطاعت الوصول اليه وفتحته وجدت رجل الأمن الذي جاء بها واقفا خلفه على مسافة تقل عن المتر.

حتى بعد أن إتفقت هي ومجيب ذلك اليوم ضمنا، وهما يعودان بصمت، على نسيان ما جرى، أو تجاهله على الأقل، وأن لا يكون عائقا أمام زواجهما، لطالما رأت تلك النظرة بين الحين والحين، وإن تباعدت الأحيان، خلال السنوات الثلاثين التي مرت عليهما وهما تحت سقف واحد. نظرة تضج بتوسل قاتل: «دخيلكِ... لا تقولي لي أنهم....»، ورأت إنكساره حين لم يلحظ عليها ما يوحي بتكذيب ظنه. لم يسألها بعد ذلك عن تفاصيل ما حدث أبدا، ولم يسألها حتى عن مجرد تكذيبه أو تأكيده بالقول الصريح، لكنه إنطبع الى الأبد في روحيهما إنطباع وسم العبودية، وسعيا طوال حياتهما المشتركة ليس الى إنكاره بل الى مراوغته، وخداع النفس بالتهوين من شأنه، ولم يكن عزوفه، حتى في أرق اللحظات حميمية أو في أشد الحالات خصاما، عن سؤالها عن تلك التفاصيل إلا لكي تبقى التفاصيل في حيز الظن، أقل إيلاما وأقرب للنسيان، بل أقرب لأن يرى في جهله بها ما يجعل الحياة محتملة إذا عز النسيان، ولم يتحدثا عنها صراحة.

غسلت يديها ثم جففتهما بالمنشفة وتوجهت الى خزانة الملابس. أخرجت اللوحة من الكيس وتأملتها قليلا وهي تفكر أحقا أنها إختارت اللحظة المناسبة؟ هي تعرف جيدا أنه لا بد من نهاية ما، ومن الأفضل في هذه الحالة أن تكون النهاية بإرادتها. رأت في هذه الصدفة الغريبة، إشارة ملهمة، كإنما من السماء، حين شاهدت اللوحات في الحي الذي لم تر طوال حياتها لوحات تعرض فيه، فكيف بها إذا كانت إحدى اللوحات نسخة زيتية من خلفية صورة إلتقطها لهما مصور متجول في ذلك العصر الذي تجنبا فيه الأماكن التي يتوقعان أن يصادفا فيها مفرزة شرطة الآداب لكي يصلا بسلام الى المكان المنعزل على شاطئ دجلة دون أن يمزق أفراد المفرزة بنطال مجيب بالمقص ويلطخوا تنورتها وساقيها بالأصباغ، لكنهما وقعا في قبضة رجال الحراسة الأمنية.

قررت أن تشتري اللوحة وتعلقها في البيت، تكون أمام عينيها دائما، قررت أن تنتصر على ضعفها، وتواجه الأمر بشجاعة فتكون هذه اللوحة هي الإعلان المجسم الملموس لهذه المواجهة، لا يمكن أن يأتي اليوم الذي تموت فيه وهي لا تزال تشعر بالعار الذي يجعلها تطرق غير قادرة على النظر في عيني مجيب، أو تبكي حين تتذكر وهي جالسة لوحدها. لا بد لمجيب هو أيضا أن يستعيد السعادة التي كانا يأملان أن يعيشاها ذلك اليوم وصارت الصورة رمزا لفقدانها، قررت أن تكون اللوحة رمزا لإستعادتها، أو على الأقل أن تكون إصرارا على التمسك بالحق في سعادةٍ مصادرة.

بعد أن تزوجت إبنتهما وتزوج إبنهما وإنتقل وزوجته للسكن في بيت صغير غير بعيد، أصبحا وحيدين يعيشان حياة فراغ لم يألفاه، وهذا ما بدأت تخشاه، الفراغ كالأرض غير المزروعة تغزوها النباتات الضارة شيئا فشيئا، الذكريات غير السارة تجد في الفراغ ساحة واسعة تنمو فيها وتكبر يزيدها سطوةً الإستغراقُ فيها فيكون ما يؤلم منها أشد إيلاما وأكثر مدعاة للصراخ بصوت عال. قررت أن لا تدع هذا يحصل. علقت اللوحة ، بمستوى رأسها، على الجدار الذي أمامه مباشرة، بالمسمار الذي تعلق به مفاتيح البيت ، واستدارت لتواجهه. رأت كيف جمدت عيناه وهو ينظر الى اللوحة. لم يقل شيئا، لم يستنكر، ولم ينتفض واقفا ليوبخها وينتزع اللوحة ويضربها بالأرض ويدوس عليها. بدا لها وكأنه حائر متفاجئ لا يدري ما يقول، وخشيت أن يكون رد فعله غير ما تأمل، فألقت بنفسها عند قدميه ووضعت يديها على فخذيه مقربة وجهها من وجهه بحيث تحجب عنه اللوحة ونظرت اليه متضرعة لتقول:

-مجيب... طوال ثلاثين عاما كنت أشعر بك. أشعر بألمك. لكن من منا كان السبب في حدوث شيء إن كان قد حدث فعلا؟

سكتت لحظات لترى إن كانت قد أثرت فيه بعض التأثير بكلماتها هذه، ولكنه بقي متخشب الجسم جامد النظرة كأنه لم يشعر بها تقترب منه وتركع أمامه ولم يسمعها تكلمه بصوت أقرب الى الهمس، صوت وضعت فيه كل ما يمكن أن تضعه المرأة من حب ومن خشية على عالمها الحبيب أن يتقوض. لقد نبذت كل الخيارات والبدائل لعالم قلبها هذا وهي شابة عندما كانت البدائل والخيارات متاحة، وحري بها أن تكون الآن أكثر تمسكا به وقد وصلا الى سن كل منهما بحاجة فيه الى الآخر وعطفه. واصلت وقد تلألأت عيناها بدمع محبوس:

-لم أغب عنكَ سوى دقائق... لم يحدث شيء بيني وبينهم. كل ما في الأمر أنهم أخذوني الى ضابطهم ليتأكد من صدق كلامنا، إستفسار بسيط كما قالوا، لأنهم يرون أنك قد تكذب عليهم بينما أنا فتاة يستطيعون بسهولة معرفة الحقيقة مني، سألني فقط قولي الصدق هل أنت خطيبته حقا فقلت له أجل، وكان لطيفا جدا معي وقال لهم دعوها تذهب. لم يحدث شيء... سمحت له أن يرضي غروره قليلا، ولو لم أفعل ذلك لضربوكَ وأخذونا الى المركز، وكانت ستكون فضيحة يتحدث بها الناس طويلا.

سكتت لتلتقط أنفاسها، وراقبت الوجه، الذي كان منذ لحظة أسمرا محمرا من الإنفعال المكبوت، ترتخي قسماته. نظر اليها عندما قالت " سمحت له أن يرضي غروره قليلا" وحول نظره عنها جانبا دون أن يحرك رأسه، مغمضا عينيه. أدركت أنها تتعب نفسها عبثا فالمشكلة لم تعد هي ما حدث في ذلك اليوم بل في الأثر الذي تركه ما حدث في نفس مجيب والذي صار، بتجنب مواجهته، يزداد وطأة وعمقا بمرور الزمن، وصارت الآلام المكبوتة نسيج هذا الندب، أي مس لها يطلق ألما لا يطاق.

قامت ولبست عباءتها وخطت نحو الباب وهي تقول:

-سأذهب عند إبنتي... سأبات عندها، زوجها اليوم في الخفارة. فكر أنت يا مجيب. خذ راحتك، لديك الليل بطوله لتفكر.

في أوقات الحزن والوحدة يحل الليل سريعا. تجول مجيب في البيت بخطوات أثقلها التفكير، لم يضيء المصابيح مكتفيا بما تلقيه مصابيح الشارع الى داخل البيت الواقع على مفترق شارعين، وتطل عليهما مباشرة نافذتا غرفتيه المظللتان بورق التظليل الشفاف المشجر. في تلك الساعة الأولى من الليل تنشط الحركة في الشارع المفضي في نهايته الى الشارع التجاري حيث تمتد على طوله المولات والصيدليات والمكاتب. أناس يروحون وأناس يجيئون، وأصوات أطفال عابرين. لم يشعر مجيب برغبة في أن يخرج ويروح عن نفسه بمشاهدة الناس، وربما يدخل بينهم ويتوجه الى حيث يتوجهون، يذهب الى مقهى مثلا أو مطعم يحتل حديقة واسعة. لكنه كان حائرا يبحث له عن مكان مناسب، لا يضيق به، في هذا البيت، وأخيرا وجد نفسه من جديد أمام اللوحة، واقفا على مبعدة خطوتين. تفاصيل اللوحة غائمة غير أن الممشى الرصاصي كان واضحا يلمع وسط الخضرة الداكنة. إعتصر الحزن قلبه وود لو تكون هي أمامه الآن ليتحدث اليها أخيرا:

" لم تمنحيني الفرصة لأستجمع قواي، لأكون جريئا وأقول لك... لقد رأيتُ نظرتكِ ساعتها وأنت تسيرين مبتعدة مع أحدهم فيما أمروني أن أبقى حيث أنا ، رأيت نظرتكِ إلي... كنتِ كأنك تقولين لي " هل إرتحت الآن؟ ألم أقل لك دعنا لا نذهب الى المسبح بل الى الزوراء؟" بعد أن غبت عن نظري خلف جدار بناية مفرزة الحراس الأمنيين لم أطق البقاء واقفا أمام الرجلين وهما ينظران إلي أو يتبادلان النظر مبتسمين، تلفت فلم أر أناسا قريبين لأبدأ الكلام بصوت عال وأجعلهم يتجمعون. لم أكن واثقا من أن ما أردت فعله يفيدني في شيء. كنت مستعدا لأن أخاطر. شعرت بالذل ينساب في صدري كسيل بطيء موجع الحرقة ولم يكن بيدي سوى أن أدير ظهري لهما، لم يمنعاني، وتمشيت الى حيث وقع إختيارنا، أنا وأنت، قبل قليل، قبل أن يعترضوا مسراتنا، للجلوس خلف أجمة من الأشجار، وجلست هناك على مسطبة خشبية في مواجهة نهر دجلة، لكني لم أكن أنظر الى نهر دجلة، لم تكن تهمني دجلة ساعتها، ولا ماءها الموار بطينه الحري الذي جئنا نمزج ببرد نسيمه همساتنا وقبلاتنا في تلك الظهيرة. جلست بانتظارك... كل ما في الدنيا كان هو انتظارك، إنتظار أن أسمع خطواتك تقترب قبل أن تعصف بي الظنون وتقتادني الى حيث لا أحب. الآن أنا أدرك أني قد أسأت اليك بقدر ما أساءوا اليك، وإن كانوا هم أو أحدهم قد إعتدى عليك بأي شكل، فإني أمضيت السنوات الثلاثين أغتصبك وأعتدي عليك كل يوم، كل مرة يضمنا فيها السرير، لكم أنا أناني وحقير! أجل طمعت في الإستحواذ على جمالك، في أن أحتفظ به برغم كل شيء، وأتجاهل ما جرى رغم أني أعرف جيدا أني لن أنسى. كانت المروءة تقتضي أن أجد بعد فترة سبيلا للفراق يحفظ كرامتك ويجعلني بنظر نفسي رجلا منصفا، أجل كان يجب أن أعاقب نفسي بفراقك، فلم أكن أستحقك....."

إستدار وتوجه الى خزانة خشبية فتحها وأخرج علبتين بداخلهما زجاجتا عطر، رجالي ونسائي، إشتراهما اليوم وأخفاهما في الخزانة تحت كتب ودفاتر ناويا أن يعطيها الليلة زجاجة العطر الخاصة بها. أخرج الزجاجتين وقلبهما بين يديه. وضع زجاجته على الخزانة وأخذ زجاجتها. جلس على كرسي عند نافذة تطل على الشارع الذي سلكته نحو إبنتها، في العتمة التي يلقيها عليه ورق التظليل، وفتح النافذة قليلا. نظر الى الزجاجة التي أسبغ عليها العطر لونه الذي بلون عصير الليمون، الى المرأة الفارعة تنثر زهورا على جانبها، قربها من أنفه وشمها وهو يتخيل العطر ينفذ اليه عبر زجاجها الذي يبرز صورة المرأة. أبعدها وقبض على الغطاء، فتحه، شم العطر الذي بدأ ينتشر ويلف حواسه بنسيجه الحريري الأثيري اللامرئي. ضغط على البخاخ وترك العطر يندفع نحو صدره ورقبته، أغمض عينيه مستشعرا لذة نفاذة تنبث في نفسه وجسده، ظل هكذا ضاغطا لبرهة على البخاخ ثم توقف تاركا يده تستقر مع الزجاجة في حضنه... آه، هذا القلب لم يعد يحتمل. وضع الزجاجة على حافة النافذة دون أن يفتح عينيه. ستعود.... هو يعلم أنها ستعود. لن تتركه الليلة وحده. ستنظر اليه ضاحكة من فتحة النافذة، تقول له "أنا أراك"، وسيفتح هو عينيه فيراها.... أنظر... هذه الفتاة التي يتمنى المرء أن تكون صديقته! ترتدي ثوبا من ثيابها زاهية الألوان المفصلة على جسدها "كالمحبس"، منسابا مع ساقيها الى الكاحلين، أجمل من أن يمتلكها هو أو غيره، فيعانقها أو يلمسها حتى..... "هي حبيبتي... وخطيبتي"، وتفلت قصدا عباءتها من يديها لتترك الهواء يفتحها ويرفعها خلفها فلا يعود شيء يخفي بهاءها عن الأعين التي تحف بها على الرصيف الضاج بالأنوار بين البيوت وشجيرات الظل، فتضحك هي.... تضحك.

تموز 2017

*القصة التي وصلت الى القائمة القصيرة في مسابقة القاصة سافرة جميل حافظ للقصة القصيرة الدورة الاولى 2017 والتي أقامها اتحاد الأدباء والكتاب في العراق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى