محمد منير - الحاجة إلى الثقافة

غالبا ما يُنظر إلى الثقافة لدى البعض باعتبارها بذخاً وترفاً مجتمعيا، بل منهم من ينعتها بمضيعة الوقت، متناسين أن الأمم لا تُبنى إلا من خلال ما راكمته من ثقافات وانتاجات ابداعية على كافة المستويات الفنية والحياتية. فالتربية المجتمعية أسها الأساس ثقافي وأعمدتها ثقافية لا يمكنها أن تستقيم إلا من خلال التركيز على الفعل الثقافي ممارسة وسلوكا، انطلاقا من نعومة اظافر المرء. فالطفولة تعتبر الفترة الأهم عمريا للتكوين المعرفي للإنسان، وهي الجسر السليم لاكتمال الذات الواعية المساهمة بقوة في بنية مجتمعية قوية. لذا نرى من الضروري الاهتمام بالطفولة ثقافيا عبر برامج تنشيطية تشمل القراءة والكتاب والإبداع الفني بتنوعه، موسيقى، رسم، مسرح، تعبير جسدي .. إلخ.
إن الحاجة إلى الثقافة كحاجتنا للحياة، فلا استمرار لها إلا من خلال المنتج الثقافي المقدم مجتمعيا والذي يعتبر عبر الصيرورة التاريخية ارثا يورثه الافراد المشكلين للجماعة ثقافيا، الإرث الذي لا يمكن ازالته إلا عبر إزالة المجتمع نفسه. وهنا نرى العلاقة المتداخلة والمتماسكة للإنتاج الثقافي وأهميته في حياة أي مجتمع كيفما كان تشكله أو تقدمه أو امتلاكه العلمي والمعرفي ..فالمجتمع المهتم بثقافته المنتج باستمرار لنبض الحياة ونبض بها ، فالثقافة سلوك معرفي للإنسان لا يمكن حصره في شهادة علمية أو ربطه بالحركية المدنية للمجتمع، إذ ان الثقافة اسمى وارقى من ذلك وأعمق. الثقافة سلوك مجتمعي يتربى عليه الفرد من خلال تشكله داخل الجماعة وكذا عبر تعامل الجماعة نفسها مع جماعات اخرى، ولذا تأتي أهمية قنوات التنشئة التربوية في غرس المعرفة الثقافية .
التنشئة الثقافية
قبل أن نخوض فيما نسميه التنشئة الثقافية وكيفية الاشتغال عليها، لابد لنا من التأكيد ان ثقافة الفرد ما هي إلا امتداد لثقافة اسلافه وأجداده، اذ أنها سفر جيني متسلسل ينتقل من جيل إلى جيل بشكل وراثي، كما أنها قوة معرفية تكتسب بالاختلاط مع الجماعات المحيطة والأفراد خارج الجماعة الأم أو عبرها ، فالثقافة الفردية هي جزء مكون للثقافة الجماعية، الكل يؤثر في ما بينهم. منه اذن تأتي مسألة التنشئة الثقافية التي نطرحها هنا أو ما يمكننا تبسيطه في جملة " التلقين الثقافي " وجعله لبنة أساس من لبنات التنشئة الاجتماعية، فالتنشئة الثقافية لها دور هام في كل القنوات الكبرى للتربية والتنشئة الاجتماعية .
لذا وجب علينا الاهتمام بها داخل الاسرة وفي المدرسة والشارع، عبر اعلامنا وجمعياتنا. ففي الاسرة نرى أن تهتم بالأطفال والتركيز على زرع فيهم بعض أولويات الفعل الثقافي، كالاحترام المتبادل ومحبة العطاء والانزواء الى الجمال والابتكار. ونرى أن أهم وسيلة لذلك هو الفن التشكيلي، اذ أننا نجد أن الطفل ما أن يتحرك إلا ونجده يخط هنا وهناك، وأن الألوان من الأشياء التي تجلبه، وتلبي رغبته البدائية في الكشف والإبداع. فالأسرة نعتبرها المشتل الأهم للتنشئة الثقافية والبوصلة السليمة للخطو المهاراتي للطفل، اذ أن وجود وتداول الكتاب وحضور نقاش اسري حر وجاد يمكن الطفل من امتلاك القدرة على المشاركة بحرية في ابداء أرائه وتصوراته رغم غرابتها في بعض المواقف لكنها صحية ومساهمة في تنميته المعرفية، فمن خلال الجو الثقافي – حتى لو كان ضعيفا – الأسري وعبر اللغة الأم والتي يتفق جل الباحثين أنها الحاضن الاول والضروري لأي اكتساب ثقافي، والأسرة هي معين الأوحد لتمكين افرادها من لغة- الأم - قوية وسليمة، لغة تجعل من الفرد مبدعا على المستوى التواصلي في ما بينه وبين الاخرين ..
ان امتلاك الطفل للغة قوية داخل الأسرة وخطوه الأول في الحياة في جو اسري يحرس على الثقافة والمثقافة، يجعل من المحطات التالية للتنشئة الثقافية محطات يسيرة، يمتلك الفرد لها من المناعة الصلبة ما تحميه من أي تصورات هدامة ولا ترقى الى المتفق الثقافي المجتمعي والاحترام وتقبل الاختلاف مع الآخر.
أولى المحطات التي سيكتشفها الطفل، محطة المدرسة، محطة ستوسع من العلاقات الانسانية له، وتجعله يصطدم سلوكات وتصرفات ثقافية مغايرة لما تشربه داخل اسرته الصغيرة، واكتشافه لأسرة أخرى تبدو له واسعة ومتشعبة. لهذا نرى أن الدور الذي ستلعبه مؤسسة " المدرسة " سيكون له تأثير اعظم على جل التحولات المعرفية والإنسانية للطفل، سلوكا و انتماء داخل الجماعة المنخرط فيها.
فالمدرسة ليست فضاء للتلقين العلمي والأدبي المحصور في تعلم الحساب والعلوم الطبيعية و اللغة فحسب، بل عليه أن يكون فضاء مفتوحا على الابتكار والإبداع عبر الاهتمام بالتنشيط التربوي والثقافي والفني من خلال دفع الطفل للانخراط في الاندية المدرسية، وتشجيعه على تنشيطها بنفسه مع المواكبة من طرف منشطين تكون لهم المهارات الثقافية والفنية والتربوية لذلك، كما على المدرسة أن تكون الخطو الاكبر والمشتل الأوفر لصقل الطفل ثقافيا وفنيا وجعل الابداع والابتكار من أولويات تحصيله المدرسي.
فكلما كانت الأسرة والمدرسة قويتان، مساهمتان بجدية وعلمية في التنشئة الثقافية للطفل، اكتسب هذا الاخير المناعة وقوة صد كل ما يصطدم به من ثقافة سائدة غير جادة والتي لا تنتعش وتتقوى إلا في الشارع والفضاءات المفتوحة بالمدن والقرى.
كما أن المعرفة السليمة التي سيكتسبها الطفل ثقافيا وفنيا وتربويا داخل أسرته وفي المدرسة، ستكون المحرار الذي سيقيس به درجات وجدية أي خطاب مستقبلي، وجعله محصنا من الخطابات الاعلامية المهدمة والمدمرة للشخصية التي سيتلقاها عبر الوسائل الاعلامية المختلفة من تلفزة وصحافة و مواقع الكترونية أومن خلال تجمعات دينية متطرفة أو سياسية.
التنشئة الثقافية خصوصا للطفل نعتبرها المحطة الفاصلة في تشكل هوية المرء، لا على المستوى الذاتي أو الجمعي، وهي المزود الاهم لأغلب السلوكيات الحياتية له من خلال جل ابعادها العاطفية والمعرفية والاجتماعية، فعدم اعطائها كل الاهمية نكون ساهمنا في تشكل مجتمع اعرج غير سليم، مجتمع تحكمه الخرافات والأفكار القاتلة، مجتمع لا يبدع ولا يخلق الجمال.
التنمية الثقافية
ونحن نتكلم على الدور الكبير الذي تلعبه التنشئة الثقافية في المجتمع، فإلى جانبها التربوي فهي عنصر أساس فيما ندعو له حول ضرورة الفعل التنموي الثقافي باعتباره لبنة من لبنات أي تنمية مجتمعية، اقتصادية، سياسية، واجتماعية .
كما أن التنمية الثقافية جزء لا يتجزأ من التنشئة الثقافية كل منهما يصب في الاخر. فالتنمية الثقافية شرط أساسي للتنمية الشاملة، كما طرحه الجابري في مقال معنون بنفس الجملة السابقة اذ يقول : " من هذا المنظور نستطيع أن نقول ، إذن ، إن التنمية الثقافية هي شرط للتنمية الاقتصادية بقدر ما هي مشروطة بها، وبالتالي فلا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية بدون أن تواكبها منذ البداية تنمية ثقافية " (1). كما يمكن القول أن التنشئة الاجتماعية لا تكمن إلا من خلال التنمية الثقافية وجعلها أولية من أولوياتها. فكل اشكال التنمية المجتمعية من الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، لا يمكن ان تفصل عنها أو تلغي وجود الثقافي فيها، اذ لا تنمية شاملة بدون تنمية ثقافية .
الحاجة إلى الثقافة
إن الثقافة هي القلب النابض للمجتمع، وهي المحرك الأساسي لأي تطور، وتحرك عجلة الاقتصاد لا يستقيم بدون تحرك ثقافي. فالوعي الثقافي والحس النقدي المستمد قوته من رؤية ثقافية سليمة، كما ان الفرد لا تعلو قيمته في المجتمع إلا من خلال وعيه وقدرته على الابداع والابتكار والخلق البناء، فالحاجة للثقافة ضرورة حياتية لا محيد عنها من أجل تطور المجتمع، وأن التنمية الثقافية " في نهاية المطاف ، هي العصب الأساسي لعملية التنمية البشرية التي تفترض وتتطلب استثمار العناصر البشرية، وتنمية العلوم والمعارف العملية والنظرية، والقدرات والمهارات التقنية والتطبيقية، وصولا إلى الإبداع في كل مجال من مجالات التنمية الشاملة " (2).
فالحاجة الى الفعل الثقافي وارتباطه بالتنشئة الاجتماعية بكل قنواتها، من اسرة ومدرسة وإعلام وجمعيات، لضرورة كبيرة من أجل تنشئة مجتمعية واعية قوية، مبدعة خلاقة، متمسكة بالقيم الجمالية والأخلاقية المثلى .

هوامش
1) محمد عابد الجابري ، التنمية الثقافية شرط أساسي للتنمية الشاملة – مجلة المجلة
2) محمد أديب السلاوي ، التنمية الثقافية والسياسات الحكومية – هسبريس
  • Like
التفاعلات: علي سيف الرعيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى