أبو القاسم قور - رواية حاملات القرابين.. مقاربة ال(هناك) وال(هنا) - دراسة نقديه

السؤال الاساس لهذه المقاربة هو كيف فكرت الكاتبة زينب بليل فى هذه الرواية ؟ بالطبع هذا سؤالٌ مختلفٌ عن السؤال التقليدى كيف كتبتها ؟ دون شك انه سؤال بالغ الصعوبة وشائك ، ومتداخل ، للاجابة عليه يحتاج القاريئ معرفة الخلفيات الفكرية والتاريخية والادبية للكاتبة . بين الفكر والفعل تتمدد وتولد المعرفة والتى بدورها تتحول لوعى . فالمعرفة هى منتوج جدل الذات و والموضوع كما تزعم نظرية المعرفة الغربيةThe dichotomy of Subject and object . أو بلغة أخرى بين الابستمولوجى والانطلوجى . رحلة العبور من ال(هناك) ابستمولوجى الىال (هنا) انطلوجى ، هى رحلة تخيل الذات أو تسريد الذات . رحلة البحث بين الغيب والواقع . تبحث رواية حاملات القرابين عن حل لازمة وجودية وتعمل جاهدة لردم الهوة بين المعرفى والوجودى... لذلك تعتمد القراءة على كشف تسريد الذات و فك شفرات تجسير الابستيمى / المعرفى / الذاتى الى الوجودى / الانطلوجى كاشفاً حجب العبور من هناك ( ابستمولوجى ) الى هنا (انطلوجى ) . فالرواية اثر ابداعى تبحث فيه الكاتبة عن مؤخاة بين عالم ما قبل الحياة الدنيا ثم عالم الحياة ثم العودة الى ماقبل الحياة . هذه هى الدائرة المأزومة التى صادمتها الكاتبة قى تمرد فانتازى ساحر ... لم تبحث هذا الأمر غيبياً كما هو فى الاديان التوحيدية أو الابراهيمية التى التى تؤمن بعالم آخر بعد الموت يثاب فيه المؤمنون بالجنان ، وانهار من عسل ولبن وخمر حلال وحور عين امثال اللؤلؤ المكنون ولم تلجأ الى الفلسفات المثالية التى فرقت بين الواقع والمثل الافلاطونى ، وكذلك لم تختار بعداً ثالثاً منكراً للغيب ، فى مادية تاريخية . لكنها و بضربة لازب اخترعت عالمها الخرافى من جن وسحر وفانتازيا ؟ هذه كاتبة تصنع اساطيرها مؤسسة لكوزمولوجى الرواية ..لتجسيد واقعية الغيب والحياة بعد الموت دون أدنى تردد ، فرواية حاملات القرابين فى قولها الخاتم هى اجتراح ابداعى لتفسير هذه الدائرة قبل الحياة (هناك) العبور الى الحياة (هنا) ثم بالعكس .. بالطبع هناك عدة تساؤلات هل قرأت الكاتبة هيدجر ؟ فى سؤاله عن الروح ؟ أو جاك دريدا ؟ ام انها تتحرك فى مساحة من العدم الوجودى ؟ أم انها حالة من المقامات الصوفية؟ فالسؤال الاساس للفلسفة هو كيف جئنا الى هنا ، ومن خلقنا ، وهل الحياة سرمدية ابدية أم محدثة ؟
وانا افك شفرات هذه الرواية أجد نفسى كمَن دخل كهفاً بلا دليل ، وبلا نور ، يتلمس باطرافه الاشياء بحذر ويرى تحت العتمة خطوطاً ، ورسومات قديمه لعالم طقسى ، واصداء لازمنة بعيدة وأساطير سحيقة ، وشياطين وسحرة وجنة ونار وصا فرات تعلن عن نهاية حياة شخص ما ليصعد الى السماء بعد أن يتحول تماماً .هذا كهف مرعب انه كهف زينب بليل ...كهف زينب بليل الذى ظلت تختبئ بداخله وتخفيه مثل غرفة مصطفى سعيد .. ..فالرواية التى لم تلتزم أى خط غير نموذج تسريد الذات وأشبه بتعويذه ضد الموت والجبروت ، أشبه باعلان أنثى تمردت على كل النواميس والاديان والفلسفات المفسرة للعالم الآخر فما كان منها الا وقامت بصناعة اساطيرهاالمحتشدة بالسحر والطقوس ...لقد تمردت هكذا ( بلغنا مبلغ النساء فاجأتنا الدورة الشهرية مثل كل البنات ومزقنا الرايات التى يعلقها زوار الضريح قرابين لتقضى حوائجهم واستعملناها) . لكن بين الخطوط ، وتحت السطور نكتشف احتشاد الكاتبة بتاريخها الاكاديمى . عنوان الرواية ( حاملات القرابين ) له بعده التاريخى الغائر فى التراجيديا الأغريقية للشاعر اسخيلوس فى القرن الخامس قبل الميلاد . كتب اسخيلوس ثلاثية الاورستيا والتى تشمل ثلاث مسرحيات ( أجاممنون وحاملات القرابين والصافحات) . وحاملات القرابين باللاتينية Choiphoroiتدور حول مأساة أوريست ولقائه بشقيقته الكترا على ضريح قبر ابيهما أجاممنون وهو يقطع خصلة من شعره قرباناً . عودة اوريست الذى شهد والدته الملكة كلتمنسترا تخون مليكها اجاممنون ابان غيابه فى حملة ايخييل لاعادة هيلين ...كلتمنسترا تخون الملك مع شخص آخر فى ذات القصر الفخيم، وتعد له النمارق والبساط الاحمر وما ان يدخل مخدعه حتى تقضى عليه تماما . فهل يا ترى عودة شخصية ( نبراس ) فى رواية حاملات القرابين لزينب بليل تشبه عودة أوريست فى حاملات القرابين لا سخيلوس ، وهل ابعاد (هزبر ) فى حاملات القرابين من قصر الملك تاج الاصفياء بعد أن علم الملك خيانة الملكة له مع وزيره ثم المواجه بين هزبر ووالدته الملكة أشبه بتلك المواجهة بين هاملت وأمه التى خانت الملك مع أخيه ، أم هى ملمح آخر من ملامح الملك اديب وامه جوكاستا Father killer mother husband ؟ لا توجد اجابة على الاطلاق لكل ذلك ساعود الى المصفوفات النقدية الكلاسيكسة التى تبدأ بملخص الرواية :
تقع رواية حاملات القرابين أو رحلة العبور من هناك الى هنا وبالعكس فى عشرين ومئتين صفحة من الحجم المتوسط ، بكتابة محتشدة ، وبنط صغير ، ولكأن الناشر يدخل جملاً فى سم الخياط ، وهو أمر سيئ يدل على بؤس النشر وثقافته فى السودان .تم التقسيم السردى للرواية غير المتسلسل الى ستة وعشرين جزء ، كل هذه الاجزاء غير متساوية فى عدد الصفحات . وليس لهذا التقسيم أى معنى فهو فقط خدعة وتكنيك ابتكرته الكاتبة لتبرر انتقالتها التى تحررت فيها من انواع تطور الحدث واختلاف المكان ، أو الزمان أو حتى بناء الشخصيات ، فهناك أمكنة تتكون ثم تختفى ، تبدأ الأمكنة فى الارض ثم تنتهى فى الغيب داخل رحم امرأة ما ، وهناك شخصيات بعضها جنيات ، وبعضها انصاف جنيات كأنهم أنصاف آلهة أو بشر ملوك وووزراء وحشم وملكات واميرات وخدم ، وصقور جارحات ومعجزات وخوارق ، كلها تبدأ وتنتهى ثم تتحور وتبدأ من جديد ، هذه رواية أشبه بالحلم المرعب تارة ، وتارة أخرى اشبه بالسرنمة الجميلة والخيال الدافق يبحث عن عالم جميل ، وعدالة ، وحب ، ومناصرة المرأة ، والثورة ضد السلطان الجائر وخطاب الكراهية.....تحتشد الرواية بصور اللجنس الجميل والجنس القبيح ، ما بين الحب والوله والاغتصابات والممارثات المثلية ، والعجز الجنسى تُسقط الكاتبة اقنعة مجتمع مملكتها اللخرافية الزائفة وتُخرج لسانها وكأن تقول (ها قد قلت كل شيئ) طظظظ


ال (هناك) السردى:
يتمثل ال(هناك) ويتشكل فى المرحلة الاولى فى مكان ما فى الغيب أظنه فى رحم الام (..أعجبنا المشهد وتمنينا أن نكون فى ذاك المكان لكن بيتنا الدائر فى الفضاء لم يتوقف ...سارع بالمرور ..ثانياً ممرنا على نفس المكان . لم يلفت انتباهنا مهرجان فتمعنا فى الاشياء ..الخ ) ص 9 ( ..لقد مللنا الفرجة من على البعد ومللنا السكون داخل تلك البيضة اللؤلؤية التى من خلال جدارها الشفيف نرى عوالم أخرى تثير دهشتنا وفضولنا .رفضت مطلبنا خوفا علينا فى اعتقادها لا أمان فى غير بيتنا ..خارج أسواره الم وشقاء ..ننظر لبعضنا فى شك هى لا تريدنا ان نذهب خارج الحدود ربما لا نرجع ونعيش بلا رفقة ) ص 9 هذا الاحساس بغربتنا فى الحياة ، ما هذه الحياة التى نأتى اليها من هناك... ، حياة نبحث فيها عن وظيفةFunction لوجودنا ..نحن كائنات اجتماعية عندما نحس بلا جدوانا functionless قد ننتحر ، غربة الانسان فى هذا الوجود سؤال كونى وفلسفى عميق ..لكن حتماً سينتفى دورنا (هنا) وسنعود الى هناك ، رحلة عبور قاسية وتقول الام ذلك المكان الميتافيزيقى ( ستسمعن صفارة ..تعنى بداية الرحلة ...سيتغير حالكن ، ثم ستسمعن صفارة أخرى وانتن فى ذاك المكان ، وقد قضيتن أجلاً واكتسبتن خبرة ، تلك نهاية الرحلة ، سترجعن بمجرد سماعها .طوعاً او كرهاً سترجعن .كلٌ ستسمع صفارتها منفردة ، لن تسمعها اثنتان معاً ابدأً ) ص 10 .. يمتد عمر الانسان بين صفارتين الاول هناك والثانية هنا ، الاولى لبداية الرحلة من عالم غيبى والثانية نهاية الرحلة هنا حيث الوجود . استطاعت الكاتبة تشييد بناء اسطورى لعالم ال(هناك) ، بعيداً عن ميتافيزيقا الدين ودوغماء الفلسفة ، هذا التفسير الاسطورى لما قبل الحياة الدنيا يجعلنا أقرب الى فكر الكاتبة المرعب ...فكرة مرعبة ان يظل الانسان حبيس سؤال كيف يكون الموت ؟ وهى تبحث عن تفسير للحياة ...هذه الحياة جديرة بالشك ، نأتى اليها من حيث لا ندرى ثم نرحل عنها متى ما لا نعرف



ال (هنا) السردى:
نعنى بالهنا عالم الوجود والمفردات الكونيية فى نص حاملات القرابين ، وهو دون شك عالم خيالى فى وقعيته ، فالحيلة التى عمدت اليها الكاتبة هى بناء وتشييد مملكة كاملة فقط بمكيدة التحول (قالت فريدة بعد ان عبرت الى هناك ، لجمعهن المنصت فى اهتمام سألنى كيف صرت حاملاً وهو لم يقربنى قط |!أخبرته بأن الطعاميات أعطيننى بخوراً كون جنيناً فى رحمى . ذهب هائجاً للطعاميات ، لم يجد القارب ، كما علمت منه ربط قربانه فوق رأسه وقطع الشلال السريع سابحاً . وصل مرتجفاً من الغضب ليستجوبهن ويفسرن له كيف يضع البخور جنيناً فى الرحم ! امرنه بالصمت ولم يقبلن قرابينه ) ص 69
وتواصل قائله " رجع زوجى وخاطبنى فى غضب بارد ستلقين جزاء خيانتك وعدم حفظك لفراشى وقدسية الزواج ..أغلق الحجرة فى دم بارد وكمم فمى ، أوثق يدى ..اوثق ارجلى بحبل على طرف السرير . ثم مزق ثيابى وتركنى عارية تماماً مسطحة على ظهرى فوق الارض .اتى بخنجر شق بطنى انتزع الجنين . قطع رأسه ووضعه على صدرى ..خرج ,اغلق الباب وراءه ..دوت صفارة الانذار تعلننى بنهاية الرحلة وتأمرنى بالعودة من كوة فى النافذة تسلل شعاع من القمر...حملت طفلى وامتطيت الشعاع) ص 69 هكذا تحولت فريدة لتعود الى العالم الاخرالمتمثل فى الام ، لكنها لم تكتف بتجربة حياتية واحدة ها هي تعود مرة اخرى من هناك . ( نزلت فريده فى قصر منيف فى رحم وصيفة الملكة ، أكملت الزمن المقرر لها ان تكمله لتكون مهيأة للعيش فى ذاك المكان . سمعت الصفارة تؤذن ببداية الرحلة فخرجت لعالم مختلف تماماً .لم تتذكر شيئأ من رحلتها السابقة اعطوها اسم جلنار ) ص 70
وجلنار هذه هى والدة هزبر ابن الوزير سفاحاً ، وللكاتبة زينب لغة عاصفة فى الجنس " رأت جلنار وزير الملك رجل كما تحلم به بنات التسع عشرة فارع كنخلة ...قوى كجريدها يفوح منه عطر كأنه حبوب اللقاح عيناه ياقوت اسود وابيضهما حليب يروى جميع نساء الارض ، هامت به حباً . تراه فيختل توازنها وتدور الاورض ولا تتوقف ) ص 70وفى قصة الهنا والواقع تصبح جلنار زوجة الملك تاج الاصفياء لكنها تخونه مع وزيره مثلما هو التراجيديات الاغريقية وتحمل منه ابنا يطلق عليه اسم هزبر لكن الوزير يعترف للملك فيتم ابعاد المولود هزبر الى مملكلة اخرى بغرض طلب العلم تماما مثلما تم ابعاد هاملت الابن فى مسرحية هاملت لشكسبير. وتنتهى المملكة بمواجهة بيين هزبر الملك السفاح المثلى الكاره للانسانية وبين فريدة التى تقود معارضة شرسة وتدخل معه فى حرب بمساعدة الصقور ، ونبراس الذى جاء الى الكون نتيجة علاقة بين راشد حلاب اللبن واحدى الطاعمات الساحرات ذات العيون الضاحكة
تحليل الرواية :
يعتبر الاثر الفنى من رواية وشعر وقصة قصيرة الخ مشروع كامل يعبر باسلوب محدد عن حال أو مآل ذو ابعاد سيسيولوجية ، فلسفية فنية الخ . ويعتبر التخيل الذاتى أحد الاساليب والابتكارات ضاربة بجذرها فى العمل الابداعى . ورواية حاملات القرابين جاءت فى اسلوب التخيل الذاتى مفارقة لكل للواقع اليومى . فالرواية التى أعلنت عن عالم كائنات متحولة حتى الصفحة السادسة والعشرين لم تهبط الى الواقع بتجاوز الا ان بعد ان أسقطت الاقنعة المتمثلة فى الاتى :
قهرالنساء
من عادات ضارة ( قالت امى وهى تحضننى بعينيها وتبتسم (( نوار ، ستصيرين مثل كل البنات
قلت : الست مثل البنات أنا
اجابتنى جادة : لا بعد الختان ستتطهرين وتكونين جميلة وجاهزة لرجل يحبك
زواج القاصرات ، والعنف الجسدى ( قالت أمى : أيوه كده البنت لازم يشكموها من هى بصلة قبل ما تبقى اصلة .عشان ما تجيب ليك فضيحة وتكسر ضهرك .وريها العين الحمراء عشان تخاف.
تستمر الراوية فى تسريد الذات : وخفت ولململت كل اشيائى : ضحكى وحلمى وكبريائى وتميزى .لملمتها كلها وابتلعتها )ص 51 .
هذه القسوة هى عنصر الانسانية خلف ذات الكاتبة التى رفضت بعنف الاحتماء براوى واحد .كل الشخوص رواة ، يتحول الراوى ويتنقل مرة مهدية ، مرة عواطف مرة النبراس مرة بدور ومرة الطاعمات .
القهر السياسى :
هذه المملكة التى مات ملكها الحليم ، العادل تاج الاصفياء ليخلفه ملك مخنث مثلى ، يكره النساء ، ويكره الناس، استطاع ان يثير خطاب الكراهية من عمليات قتل وحرق واختفاءات قسرية . عمليات التخيل الذاتى تحاصر القاري وهو يكتشف الواقع المؤسطر حينما استعانت المعارضة المسلحة بالصقور فى حربها ضد الملك هزبر الذى استعان بالشيطان الذى وعده بجنود يقاتلون معه يوم ان يحمى الوطيس ، لكن كالعادة الشيطان لا عهد له منذ ان ابى واستكبر وكان من الكافرين . فكيف لهم أن يرثوا الارض والحكم بفعله ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) الاعراف
لا تخلو الرواية من القسوة نموذج مامون صاحب بستان البرتقال الذى تم قطع لسانه ويداه . وحرق ثلاث وعشرين شاب فى مشهد بشع( نزل الرجل فجيئ بالثلاثة والعشرين شاباً مقيدين بسلسلة وايديهم مقيدة للخلف ورؤسهم داخل أكياس حمراء موسى مربوط من وسطه بواحد منهم يجره ..أوقفوهم صفاً بحيث يراهم الجميع .فتم حرقهم فى ميدان عام .لكنهم تحولوا وصعدوا الى هناك .... الكاتبة تذكرنا باعراس الشهداء ، لكنها تنكر ذلك وتستعين بفكرها الطقسى .

انتهى




د. ابوالقاسم قور∙

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى