محمد الصالح الغريسي - مكالمة غير مرغوب فيها.. قصّة قصيرة

حين رفّت أجنحة الفجر و اعتراها لهيب الشوق إلى الضياء و بدت في الأفق دوائر الضّوء تزحف بطيئا بطيئا على السهول و الهضاب و الجبال تسحب خيوط الظلام خيطا خيطا فإذا الشمس كحسناء بتول ترفع في وقار جبينها ، من السجود إلى ربّ الوجود.

حينها دغدغت عينيه أشعّة الشّمس الأولى وقد تسرّبت من زجاج النّافذة.. و أخذت سقسقات العصافير توقّع على أذنيه تباشير لحن البداية لنشيد يوم جديد.

كانت موجة من التّفاؤل تغمره، تدحرجه بهدوء، كما يدحرج موج البحر على الشّاطئ الرّمليّ، زجاجة تحمل رسالة عاشق إلى حبيبة مجهولة.

فتح النّافذة .. جعل يتأمّل الأفق الممتدّ أمامه، لم يكن يدري ما تخبّؤه له السّاعات القادمة.

كان يحسّ بنسمات من السّعادة تداعب جبينه.. ترسم في مخيّلته صورا مشرقة، بأزهى الخيالات و الألوان.

هذا الإحساس، هو نفسه ذاك الّذي يراودنه كلّما أدرك الخيوط الأولى من الصّبح و هي تزيح ستار الظلام شيئا فشيئا.

أعدّ قهوة الصّباح.. فتح الرّاديو بصوت خافت على أغنية صباحية لفيروز..

جعل يتأمّل البخار المتصاعد من الفنجان..

كان يتصاعد بخفّة و انسيابيّة

تحرّكه أنفاسه الهادئة الرّتيبة..

و عبير القهوة يتسرّب إلى أنفه معطّرا بأنفاس الصّبح القادمة من النّافذة، يغريه بارتشافها على مهل بين الفينة و الأخرى..

رفّع قليلا في صوت المذياع، ثمّ سرعان ما تراجع ..

تذكّر أنّ أخاه فائز ينام في الغرفة المجاورة، و قد كان أكّد على كلّ من في البيت، أن لا يزعجه أحد أو يوقظه حتّى لو ظلّ نائما إلى وقت متقدّم من النّهار..

حتّى أنّه حين دخل غرفته ، لم يكن عاديّا .. كان متوتّرا بعض الشّيء.

و على غير عادته أغلق على نفسه بالمفتاح .. و ظلّت غرفته مضاءة إلى وقت متأخّر من اللّيل.

في الواقع، مضى عليه أكثر من سنتين و هو في وضع غير مريح.

لقد مضى على تخرّجه من الجامعة ما يزيد عن السّنتين.

اشتغل خلال هذه الفترة بصورة متقطّعة، مارس فيها أعمالا لا علاقة لها بميدان اختصاصه، هندسة الكهرباء.

اتّصل بالعديد من المؤسّسات و شارك في عديد المناظرات لكن دون فائدة.

رفّع في صوت المذياع مرّة أخرى، لكن هذه المرّة ليتمكّن من سماع الخبر العاجل:

" تمكّن خفر السّواحل في السّاعات الأولى من فجر هذا اليوم، من انتشال أكثر خمسين جثّة إثر غرق مركب مطّاطيّ يحمل على متنه ثلاثة و ستّين راكبا، و ما يزال البحث جاريا عن المفقودين."

مرّة أخرى .. خفّض من صوت المذياع، حتّى لا يوقظ أخاه في الغرفة المجاورة، و والدته المريضة في غرفة نومها.

كانت السّاعة تشير إلى السّابعة و عشر دقائق صباحا.

نهض من مكانه ليوقظ والدته المريضة، و يقدّم لها دواء الفترة الصّباحيّة.

ما إن تقدّم بضع خطوات حتّى رنّ هاتفه الجوّال.

لم يتعوّد تلقّي مكالمات في مثل هذا الوقت المبكّر من الصّباح.

تناول الهاتف .. ضغط على زرّ التّلقّي.

- آلو من معي ؟

- هل هذا بيت رؤوف العابد.

- نعم أنا رؤوف العابد من معي ؟

- من يكون فائز العابد بالنسبة إليك؟

- هو أخي .. لم تقل لي من أنت .

- هنا شرطة خفر السّواحل .. آسف أن أخبرك أنّنا انتشلنا جثّة أخيك من بين مجموعة من المتسلّلين خارج الحدود البحريّة، إثر غرق المركب الّذي كان يقلّهم.

- أرجوك كائنا من تكون أن تكفّ عن المزاح الثّقيل في مثل هذا الوقت الباكر من الصّباح.

قطع رؤوف المكالمة، و بدا متضايقا من هذا المخاطب الثّقيل المزعج ..

معقول أن يكون بعض النّاس بمثل هذا الاستخفاف براحة النّاس !

هذه الهواتف أصبحت مصدر إزعاج...

كان مطمئنّا إلى أنّ أخاه نائم في الغرفة المجاورة.. خطر بباله أنّ مخاطبه ربّما كان من معارف أخيه .. من أولئك الّذين لا يعرفون حدودا للمزاح الثّقيل ..

ربّما كانت كذبة أفريل، هذه العادة السّخيفة الّتي تسرّبت إلى مجتمعنا .. و لكن نحن الآن في شهر جوان .. على كلّ ليس هناك من مبرّر لمثل هذا المزاح الثّقيل.

هذا ما دار في ذهنه في ثوان و هو يهمّ بمغادرة غرفته ليعدّ دواء والدته المريضة.

رنّ جرس هاتفه مرّة ثانية و تواصل رنينه..

قرّر هذه المرّة أن يردّ على مخاطبه بلهجة حادّة، و أن يهدّده بإعلام الشّرطة.

- آلووو

- آلو أرجوك لا تقطع المكالمة .. و اسمعني إلى الآخر..

أخوك فائز العابد و رقم جواز سفره كذا و أوصافه كذا و كذا .. و الخبر أكيد .

- أرجوك.. ها أنا سمعتك .. أخي موجود في البيت و هو نائم في غرفته .. إلى هنا ينتهل المزاح.

- أرجوك تأكّد أوّلا إن كان في غرفته، ثمّ قل بعد ذلك ما بدا لك.

في هذه اللّحظة ترك الهاتف مفتوحا و أسرع إلى الغرفة المجاورة. لم يكد يفتح الباب حتّى صعق ..وجد ورقة على سرير أخيه يقول فيها:" لا تقلقوا عليّ .. أنا مسافر إلى أوروبا .. و حين أصل سأطمئنكم ."

تداخلت الأسطر أمام عينيه .. لم يعد يرى شيئا منها.. سقط الهاتف من يده، و وقع مغشيّا عليه.

كان ضابط خفر السّواحل في الطّرف الآخر ينادي:

- آلو .. آلو ..

لكن .. لا أحد يردّ...


06/07/2018

محمد الصالح الغريسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى