بانياسيس - الرابط العاطفي بالتكنولوجيا

ربما كانت رؤية الأدب متشائمة جدا عقب ظهور الآلة البخارية ، بل أن هذا الظهور هو ما فجر الثورات الفكرية تجاه سيطرة الرأسمالية على وسائل الانتاج.. انتقلت الآلة من بساطتها كالمحراث والمغزل إلى آلات ضخمة ؛ يقف عليها بضعة عمال تم تدريبهم على مهارة تشغيلها ومهارة اصلاحها وصيانتها.
لكن التوقعات بأن الآلة ستدمر سوق العمل خابت بعد أن أدت القوة الصناعية إلى تعزيز الحاجة لعمال ولكن بخبرة أعلى وأكثر تعقيدا. فضلاً عن أن الصناعات الضخمة أبهجت ما حولها ففُتِحت أسواقٌ ثانوية كالمطاعم والنزل الصغيرة والمقاهي والاسكافيين ...الخ. وهكذا دعمت الصناعة زيادة فرص العمل وليس العكس. بل أدت الى زيادة فرص العمل الحر. وبالانتقال الى طور شركات المساهمة أصبح كل شخص قادر على تملك نصيب بشراء سهم أو عدة أسهم بل وتداولها مما أثرى القدرة على تمويل الاستثمار ودعم الاقتصاد القومي وتقليل المخاطر وتوطين سوق المال الأولي والثانوي.
حدثت قفزة السبعينات ودخل العالم الى عصر التكنولوجيا ، فإذا كان هناك عصر الجليد وعصر الحجارة وعصر البرونز وعصر التنوير..الخ فاليوم نحن أمام عصر التكنولوجيا. وهو عصر يلخص كل ملمح الفرد individual profile في قطعة زجاجية بلاستيكية صغيرة ، لتكون هي الرابط الأساسي بينه وبين العالم الخارجي.
هناك داخل تلك القطعة الصغيرة يتمحور نشاط البشرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وروحيا وفلسفيا وآيدولوجيا ، هناك داخلها تتغير أنظمة وحكومات تسقط وتنهض ، تنهار قوى اقتصادية ويرتفع شأو غيرها ، مليارات من النقود تهرع فوق طيفها الإسفيري دون أن نراها أو نلمسها بأيدينا ، علاقات حب وزواج وشجار وعداء وكره ودسائس واحقاد ومؤامرات تحاك من داخل تلك القطعة السحرية ، كان أسطورة البلورة السحرية في أقاصيص السندباد البحري تبهر كل طفل ؛ لكننا اليوم أمام بلورة حقيقية بل وأخطر وأقوى من تلك السندبادية.
إنه هاتفنا المحمول...حاسبنا الصغير المحمول ، تلك القطعة المصنوعة من الألياف الجامدة ، والتي تقبع ساكنة وهادئة داخل جيوبنا كالطفل الوديع البريئ في حين أنها تغلي كالبركان محاصرة الفرد بمهلها الحارق.
هكذا تولدت علاقة عاطفية بيننا وبينها أقوى من علاقتنا بصورتنا التي نلتقطها لأنفسنا. فإذا كانت الصورة لا تعكس سوى بعد واحد لنا فالجوال يكاد يفضح كل حقيقتنا المخبوءة التي نحيطها بالسرية المطلقة.
سقوط أو ضياع جوالك يعني أنك منحت السارق كتاب حياتك بيمينه ، فيستطيع أن يعرفك أكثر مما تعرف أنت نفسك نفسك.
استطاعت شركات تواطأ معها فيسبوك جمع ملايين المعلومات عن الاشخاص وتم الاستفادة منها في صراع انتخابات امريكا الأخيرة بين ترامب وهيلاري كلينتون.
استخدمت التكنولوجيا بقوة من قبل الامبريالية الأمريكية لتقويض أنظمة وبناء الشرق الأوسط الجديد بما يخدم مصالحها. كما استخدمت في الحرب الاقتصادية بين الدول كالصين والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.
أمريكا صنعت لها رموزا عالمية ك زوكربيرج صاحب فيسبوك وبيل غيتس وغيرهم ممن خدموا مصالحها خدمات جليلة للسيطرة على عقول الشعوب الأخرى وتوجهاتهم ، وفوق هذا تحريك أحجار الشطرنج داخل كل دولة بحيث تؤثر على أنظمتها وتخلخل كل الأنظمة المارقة.
لقد انخلق ذلك الرابط العاطفي بين كل شخص وجواله ، بل وداخل جواله بينه وبين تطبيقات معينة بل وداخل التطبيقات أيضا علاقات حميمة جدا بين الفرد والمجموعات التي ينتمي اليها وهي مجموعات لا تبدو أمامه سوى مجرد حروف ضوئية لكنها تتبادل التعبير عن أحاسيسها المختلفة عبر العلامات الرقمية المتعددة التي تمارس عملية استقطاب ونفور واستجابات نفسية وردود أفعال بل وربما اقتراف جرائم جنائية خطيرة جدا.
عندما يضيع هاتفك ستشعر بفقدك لكائن حي ، وستشعر بفراغ قاتل عندما تجد نفسك خاضعا لسطوة بطء الزمن كما كان حالنا قبل عشرين عاما.
إنني -وعلى نحو شخصي- أفضل ألا أتعمق في علاقاتي المباشرة مع البشر بل ولا حتى غير المباشرة ، وكان ذلك يمنحني وقتا واسعا للتفكير أما اليوم فنحن لا نملك زمننا ؛ لأنه يتسرب كل ثانية. لاحظ معي أننا نقضي أغلب اوقاتنا نتلقى أخبار العالم المتسارعة من انقلابات ومجازر وعنف واختراع ادوية جديدة والوصول الى المريخ ...الخ. دماغنا لن يتحمل كل ذلك الضغط لوقت طويل فالمعرفة عبر احتكاك متواصل بها سيخلق تشوهات عميقة داخلنا كانت مختبئة خلف جهلنا العظيم. لقد كتبت قديماً قصة عن راع لا يعرف شيئا في هذا العالم سوى أسماء خرافه ، ولكن حاله تبدل حين اشترى راديو ترانزستور صغير باحثا عن التثقف ، غير أن نتيجة معرفته بالعالم كانت اضطراباته في النوم والكوابيس بحيث بدأت خرافه في الهزال بسبب عدم التزامه بمواعيد العمل. وفي النهاية القى بالمذياع في أعماق النهر متخلصا من ذلك الكابوس المزعج.
لكننا لا نستطيع أن نجاري الراعي آدم في شجاعته لأن حياتنا ارتبطت بتلك القطعة الصغيرة الصماء واحتجزتنا داخلها.
أصبحنا أكثر تعلقا بكل ما بحبيبتنا الصغيرة هذه ؛ السوفت وير والهاردوير ، التطبيقات الاخبارية السياسية والرياضية والثقافية ، التواصل مع العالم (بغرض التسلية او المجاملة أو الوظيفة أو اتجارة..الخ)...
إن فقدان هاتف يعني فقدان هويتك ، فقدان علاقاتك ومصالحك المالية والعلمية والعملية والعاطفية ، يعني أنك تسقط في طرف الوجود مذؤوماً مدحوراً.
لكننا بالفعل يجب أن نتداوى ونتخلص من ذلك الإدمان العاطفي بالتكنولوجيا.
يجب أن نعود الى الطبيعة ولو لفترة وجيزة ، أن نقلل من علاقاتنا بالتكنولوجيا.
صحيح أن هذا يكاد يكون صعبا ولكنه ليس مستحيلا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى