أحمد فرج - ثورة الكتابة في مجموعة ( صنائع من نوبة عُراق العجب ) للمهدي نقوس

عندما تسلمت مؤلف أخي و زميلي في الدراسة، أول عمل إبداعي نشر له سنة 2014، عزمت على قراءته كما كنت اقرأ له سابقا في بعض الجرائد الوطنية و المجلات العربية ، و بالفعل قرأته و أعدت! قراءته، لكنني اقر في البداية بالصعوبة التي اصطدمت بها.. كيف ادخل دروب هذا العمل الرائع؟
و كيف أتسلل إلى دهاليزه الوعرة، لأنه من الصعب ولوج عالم المهدي نقوس بسهولة، وسبر أغوار شخوصه، نظرا لما تتسم به طريقته في الكتابة التي تقوم على لغة حلزونية متشابكة التعبير.. تستعصي على إعطائك للوهلة الأولى ما ترومه من دلالات فكرية.. تسعفك في تركيب تصور حول هذا العمل ، الذي يمكن تصنيفه في خانة الرواية / الملحمة ، و السيرة الذاتية على الرغم من أن صاحبه يعتبره متوالية قصصية ... و لكنه فعلا تراجيديا في زمن الحزن، تتكون من سلسلة من النصوص السبعة ، تتوزع على خمسة و تسعين صفحة من القطع المتوسط كأنها رحلات سندبادية تضرب في البر والبحر، كما هو الشأن لحكايات ( ألف ليلة و ليلة ) . إلا أن هذه النصوص تحكي عن (عباس) و من خلفه المهدي نقوس في قالب سردي يقوم على حدث لغوي تنصهر فيه مجموعة من المعايير النصية التي تشكل الركيزة الأساس في تقنيات الكتابة ، بكل تلويناتها ، مناسبة بعفوية و تلقائية جياشة دون تكلف في التعبير عن مشاعرها الصادقة مهما كلفها ذلك من اصطدام مع التابوهات. فلا عجب إذا جاءت لغته متسمة بالعنف اللفظي الرمزي لتكشف عن المحظور والممنوع الكلام عنه.. متجاوزة المألوف و المعهود سواء في طريقة تناول القضايا أو في طريقة التعبير.. و فضح المستور و المحجوب وما ظل مسكوتا عنه في بعض الكتابات ، منذ سنوات الجمر و الرصاص الى زمننا هذا .
لاشك أن هذا هو السياق لتراجيديا ( عباس) الذي يبدأ بجيل ( عباس) و ما قبله إبان الاستعمار و ما بعده من حالة الاستثناء بالمغرب ، و اغتيال ( الشهيد بن بركة و فرحاة حشاد) و أحداث 1965 و 1967 و مرحلة الجمر و الرصاص و المحاكمات و الانقلابات ، و ما تعرض له النقابيون و بعض زعماء الأحزاب و الحركات الطلابية وما تعرض له رجال ونساء التعليم من قمع وسجن.. و الحرب الباردة بين الشرق و الغرب، و انهيار جدار برلين، و هيمنة القطب الوحيد.. و ظهور النظام العالمي الجديد في إطار العولمة ... في هذا المناخ المحلي و الإقليمي و الدولي.. و لد ( عباس) الذي راح يضرب في البر و البحر.. الشيء الذي ضخ دما جديدا ، و كشف عن جمالية القبح في تلك العملية التي حملت شعار تصحيح المسار و التغيير الذي يؤسس لثقافة الانتفاض على كل أشكال الفساد التي تتسم بها ملامح و سمات واقع المجتمع العربي ، الذي كانت تتنازعه مجموعة من النزعات التحررية التقدمية ، فلا غرو إذا واكب الإبداع هذه الواقعية ، و الثورة على كل الأساليب والممارسات اللامسؤولة، ليمتطي موجة الحداثة و تجريب آليات واقعية مجهرية ... تسلك توجها مخالف ليتكلم بصوت عال. و هذا ما جعلنا ننظر إلى الأستاذ المهدي نقوس باعتباره مناضلا في مجالات حقوقية مختلفة من خلال حضوره المتواصل والفعال.. وباعتباره مثقفا وأديبا من خلال ثورته على لغته وطريقته في الكتابة التي تلجأ إلى لغة العنف اللفظي وكسر كل التابوهات والدخول في تجارب إبداعية تعكس بحق ثورته في الكتابة.
وقبل الخوض في تفكيك بنية هذه النصوص لابد من قراءة عنوان هذا العمل، لأن لكل منتوج عنوانا، و العنوان عتبة نصية من عتبات النص.
أو بالأحرى من ابرز العتبات النصية التي تسمح بولوج النص للتماهي فيه لاختزاله في عبارة أو جملة اسمية أو فعلية أو علامة تستشرف الحقل الدلالي وما يدخره من مخزون وافر من التأويلات، ومن حمولة دلالية للنص و جماليته .فهو بنية دلالية كبرى ومصيدة للقارئ للوقوع في فضاء النص.
لكن بالنسبة لعنوان هذه الرواية ( صنائع من نوبة عُراق العجب) لا تجدله فصلا، أو قصة لها علاقة به.إلا انه على الرغم من ذلك فهو يدفعنا إلى تساؤل مشروع عن علاقته بالنصوص التي تشكل هذا العمل الإبداعي لماذا هذا العنوان؟
ولهذا يبقى هذا العنوان رأس هذا العمل، يخفي في طياته علاقة من الصعب رصدها، بحيث يجعل من هذه المتواليات القصصية صنعة ، أو ماية من الضائع التي يرويها الرواة في بعض الحلقات، أو كما كان يفعل الشعراء (التروبادوريون) في اسبانيا الذين كانوا يتجولون و يروون بعض الحكايات أو ما يعرف عندهم ) أو الشعر الوجداني الرقيق (.Les chansons courtoises)
من خلال هذا التأويل ، نستطيع رصد هذه العلاقة بين هذا العنوان و بين نصوص الرواية. وبذلك يزول الغموض واللبس. وهكذا تصبح حكايات (عباس) وسيرته ( صنائع من نوبة عُراق العجب). ومن هذه العتبة يمكن اقتحام عالم ( عباس) ومحيطه، وعالمه المليء بالأحداث والحكايات العجائبية وباقي المتغيرات التي يحفر مجرى الوقائع ، فعندما يظهر السبب يزول العجب، ومن ثم فعنوان الرواية قد يبدو غريبا مستفزا للقارئ و ربما هذا مكر أو خدعة فنية..
لاشك أن من يعرف المهدي نقوس عن كثب، يدرك مدى أهمية و قيمة الكتاب في حياته منذ نعومة أظافره ، بحيث تشكل المطالعة كل شيء.. فهو قارئ متمرس و عاشق للأدب. نهل من التراث العربي قديمه و حديثه شعره و نثره فلا عجب إذا تعاطى الكتابة في وقت مبكر.. ولم يدخر جهدا في اقتناء أمهات الكتب و عيون المقالات و احدث الدراسات. كان يقرا الكتاب أو الرواية فيعيد قراءتها ليسبر أغوارها، ويستنزف عمقها. هذا بالإضافة إلى اطلاعه على الأدب والفكر الغربي في أصوله، أو من خلال ترجماته.. فلا غرو إذا جاءت نصوصه تزخر بهذا الزخم المعرفي من الأفكار والخواطر والمواقف والأحاسيس المنسابة في صور بلاغية جمالية حمالة لمجموعة من الرموز و الدلالات في خطاب روائي يعكس مدى التلازم الجمالي والفكري، في صيغ متماسكة وغنية بالانزياحات والتشابيه المصيبة التي ترسم أجمل الصور في وصفه للمشاهد الخارجية و البطانة الوجدانية والنفسية لشخوصه. و هو خطاب يرتكز أساسا على عدة فنية وعبارات مسبوكة ومسكوكة في قالب عربي فصيح يمتح من مخزون فكري محلي وكوني يتقاطع فيه ويتشابك ما هو شعري ونثري يحمل نكهة فلسفية ممزوجة بالحكمة و الثقافة الشعبية و الأقوال المأثورة. وهذا ليس بغريب على من خرج من ( معطف گوگول) الذي شق مجرى الرواية الغريبة.. وبعدها الرواية العربية.. فقد قرأ (لتولستوي ) و ( دستويفسكي) و ( غوركي) و ( ارنست همنجواي) و المسرح العالمي وأعمال لكتاب من أمريكا اللاتينية و الروائيين العرب من العنترية و سيف ذي يزن إلى هيكل في ( زينب) إلى العقاد و طه حسين و المنفلوطي و جبران و يحيى حقي و سهيل إدريس و نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا و عبد الله ونوس و يوسف القعيد و معين بسيسو و أمل دنقل .... و القائمة طويلة.
فالمهدي نقوس كاتب و مبدع لقب بشيخ القصة القصيرة. وهو احد أبناء مدينة التراب الذي ظل يعيش في الظل لأنه إنسان خجول بطبعه على الرغم من حضوره في الساحة الثقافية بكتاباته النثرية والشعرية التي ظهرت منذ فترة في بعض الصحف الوطنية و المجلات العربية . ويعد من ابرز مكونات المشهد الثقافي باليوسفية.
برز من خلال إشرافه على ركن مختارات في منتدى مطر.. هذا المنتدى الذي اعترف بالجميل معتبرا إياه من أنشط أعضائه، مما جعله يكرمه من خلال تقديمه و نشره لهذا العمل الإبداعي.. الذي صنفه صاحبه بأنه متواليات قصصية. و قد تم طبعه في مطبعة ( أنفو برانت) بفاس عن منشورات ( منتدى مطر) ، كما تم توضيب صورة غلافه من طرف ( جبران الشداني). وهي التفاتة تقدير لهذا المبدع الذي لم تلهه مهنة التمريض عن مواكبة مسيرته الإبداعية.. بل زادته هذه التجربة غنى في قاموسه الأدبي...
عندما تنتهي من قراءة أي عمل إبداعي.. كيفما كان نوعه.. لاشك انك تتساءل كذات قارئة، عما اذا ترك فيك هذا المقروء.. كموضوع للقراءة . أثرا مهما كان تأثيره، فتدخل في مساءلته عبر أسئلة النص كعيار للحكم عليه أوله. أو بالأحرى تسجل مجموعة من الملاحظات ، كقراءة تحليلية نقدية ، على أن النص حدث لغوي تنصهر فيه مجموعة من المعايير النصية التي تشكل الركيزة الأساس له في تحديد نصيته للكلام الذي تتوافر له هذه المقاييس ، بحيث إذا تخلف احدهما فلا يعد نصا ، حتى و إن تحققت له سلامة التركيب النحوي مثل السبك أو الترابط النحوي و التلاحم الدلالي. بل لابد أن يكون محبوكا، وله هدف مقبول من لدن المتلقي الذي يتلقى رسالته النصية مهما كانت طبيعتها محترما في ذلك ضرورة مقتضى الحال أو المقامية موظفا ما اختمرت في ذاكرته من تراكمات قرائية تتجلى فيما يعرف بالتناص ، لأن كل نص أدبي هو بالضرورة متناص . أي أساس كل نص هو دائما نص أخر، يتلازم فيه البلاغي و الإيديولوجي، لأنه لا توجد معرفة بريئة، ضمن تلك العلاقة المكتسبة بين الخطاب البلاغي و الخطاب الثقافي.
- فكيف يحدث هذا التلازم بين الخطاب الفني و الخطاب الثقافي؟
- وكيف يتم البناء الفني في هذه المتواليات القصصية للأستاذ المهدي نقوس التي سماها (صنائع من نوبة عُراق العجب)؟
- وكيف يكون هذا الخطاب الروائي في خدمة رؤية الكاتب إلى عالمه.. و ما يرومه من أبعاد مختلفة يرغب في إيصالها إلى المتلقي في إطار ثورة الكتابة من اجل خلخلة مجموعة من البنى إن على مستوى الشكل أو المضمون بغية تصحيح المسار و التغيير؟
تعتبر متوااية ( صنائع من نوبة عُراق العجب) أول عمل إبداعي يرى النور لسنة 2014 و قد أثار اهتمام النقاد و القراء الذين كانوا يتابعون نشاطه عبر الصحافة المكتوبة والالكترونية.. فهذا العمل هو مجموعة من النصوص أو متواليات قصصية تشتمل على حكايات و أقاصيص تتناول عدة قضايا.. ولدت من رحم المعاناة في زمن المد القومي و الاشتراكي أمام تزايد التوسع البورجوازي الرأسمالي الامبريالي بما يحمله من بسط نفوذه على الأمم و الشعوب المقهورة، و ابتزاز خيراتها ، و الاستحواذ على مقدارتها الطبيعية وثرواتها التي توجد تحت الأرض و فوقها. في ظل هذا الصراع حدثت مجموعة من التحولات فجاءت معها النكبات و النكسات و الحروب.. ولدت نوعا من الشرخ و التصدع في بنيات المجتمع العربي.. مما تمخض عنه نوع من الإحباط و الهزائم و الحرمان و التهميش نتيجة الفوارق الاقتصادية ، و التفاوت الاجتماعي الذي ترتب عنه السخط و الكبت السياسي.. وعدم الاستقرار سواء في ظل الاستعمار أو في فترات ما بعده.
سخط ضد النظام الكولونيالي، وسخط ضد من ورثوا عنه السلطة والحكم في غياب مجموعة من الشروط الذاتية و الموضوعية . مما أدى إلى المزيد من تفريخ التناقضات: الغني الفاحش والفقر المدقع بالإضافة إلى تفاقم الجهل والأمية والأمراض النفسية والاجتماعية، والتهافت على المناصب و المصالح و الامتيازات مما أدى إلى ظهور الوصولية و الانتهازية و الزبونية خاصة و أن المخزن احكم قبضته على الوضع فزاد القمع و تراجعت حقوق الإنسان أو بالأحرى ضاعت. الشيء الذي حتم المزيد من النضال و تأسيس ثقافة مضادة لهذا الوضع المأزوم بالنسبة للفرد أو الجماعة.. بل بدأت تروج ثقافة تحمل نواة فكر يساري ثوري تقدمي جماهيري تمتج من الفكر الماركسي اللينيني الماوي الذي يدخل في صراع مع كل فكر استغلالي كمبرادوري يساهم في تعطيل مسيرة التاريخ مما يقتضي الثورة على كل أساليبه واختياراته وتوجهاته كرموز لكل أشكال الفساد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي..
تبدأ هذه المتواليات القصصية، بقصة (البحث عن عباس) والبحث لا يكون إلا عن مجهول، أو متغيب أو ضائع أو مفقود.. قد يأتي ولا يأتي.. لكن من يكون عباس حتى يبدأ البحث عنه لاكتشاف هويته و طبيعته وعالمه؟ لفظه الوطن والمدينة. مبحوث عنه ليحكي لنا ما الذي أدى به إلى هجرته.
ولا شك أن كلمة ( عباس) اسم علم ، والعلم معرفة، قد تصبح المعرفة نكرة في عرف النحاة، كما يمكن تحويل النكرة إلى معرفة بتعريفها و تخصيصها..
فعباس بالنسبة للكاتب ليس نكرة.. لكن لماذا هذا الاسم بهذه الصيغة التي حولت الاسم إلى صفة أو بالأحرى إلى صيغة مبالغة على وزن ( فعال) التي يراد بها أن عباس الشخص يتصف بالعبوس اتصافا شديدا، من جراء ما يحمله من هموم تثقل كاهله، ونتيجة ظروفه التي جعلت من بطانته الوجدانية وحالته النفسية معطوبة و متدهورة، فلا عجب إذا اختار له هذا الاسم الذي طابقه مطابقة المبتدأ والخبر.. وقد يصبح هذا الاسم كشخصية ( سيزيف ) الذي يحمل صخرته التي هي همومه وحكمه الذي حكم به عليه من طرف الآلهة.. و كلنا ذلك الرجل / ( عباس) سمه ( عباس بن فرناس) أو المهدي نقوس أو أنا أو أنت أو نحن.. ذلك هو النموذج الذي اختاره الكاتب للإنسان العربي من الماء إلى الماء..
على الرغم من تفاوت بعض الخصوصيات و الأسماء و الصفات.. هذا الإنسان الذي يحمل إرثا ثقيلا منذ أن اغتصبوا طفولته.. و حرموه من شبابه.. لتكبر معه الطفولة بوعي شقي تجاه واقعه الذي يفرخ بالتناقضات فجعل منه كائنا متمزقا متحسرا بسوء حظه المتعثر الذي جعله يولد في زمن القحط و الجدب والجفاف.. ويعيش في ظل علاقات اجتماعية تتسم بالفوارق و التفاوت كباقي أبناء جيله الذي أتخمته الاحباطات والهزائم.. فادى ثمن كل المؤامرات.. وعاش كل هموم الدنيا في ظل الحروب والتخلف بكل تمظهراته و تجلياته.. جيل يحمل في أعماقه ملامح بطولية، كرفض الذل والهوان والغدر و الخيانة، و المتاجرة بالقيم وبالوطن.. جيل تربى في جو تمزق وجدانه الديني و السياسي في المجتمع بين مظاهر الثراء الفاحش عند طبقة، والبؤس الفظيع عند طبقات أخرى ، بين الجبروت السياسي المطلق من جهة ، و السحق الشعبي من جهة أخرى، فكانت تظهر بين الحين والحين، مظاهر التمرد و الاحتجاج..
اجل انه جيل تربى في ظل الاستبداد والقهر والإقصاء و التهميش، والزنازن في زمن الجمر والرصاص.. ولهذا كان يردد (وحدها الحرية هي التي تسمن و تغني عن كل جوع)، وقد زاد قناعته بالكرامة و الحرية إدمانه على القراءة... التي لم يدخر ثمن الكتب و المجلات و الجرائد التي كانت تهرب كما تهرب المخدرات و الأسلحة... تعلم (عباس) كأبناء جيله القناعة، و الحكمة التي تحرس الحياة من أفكار الحمقى و المجانين كأمثال (عباس) لكنه تعلم أيضا أن الجهل هو الذي يصنع القناعة و القانعين ، في حين تعلم بالمقابل أن الفن ينبغي أن يصنع المتمردين و لهذا يبعث برسالة إلى كل إنسان مناديا أهل العالم بان بلداتنا تنهب، و متاعنا يحرق، و أرواحنا تزهق ، و أن كهنة هذا العالم المتحضر يمتصون دماءنا، باسم الدين والسياسة، وأن هؤلاء لا يؤمنون إلا بالبترودولار، يشهدون به، ويؤلهونه. و هذا نوع من الصنمية الجديدة ، ليكشف عن حيرته التي ترجع إلى تقليص هامش الحرية في بلاد حقوق الإنسان مما أدى إلى تشرد الأطفال ، و المتاجرة بهم ، و طرح قضية النساء اللواتي يطالبن بحقوقهن، و يرين الحرية في تغيير ملابسهن دون أفكارهن.
و هكذا تفرغ المؤتمرات العربية من مضمونها، وجامعتهم لا قيمة و لا دور لها إلا تكريس ما تمليه بعض الدول البترولية التي تدفع أكثر ، و بذلك لم يعد في هذا العالم إلا منظمات عالمية مفبركة، و مصانع (الكلاشينكوف) توزع الموت و الصبر المعلب.. مشيرا إلى محطات تاريخية على المستوى الوطني و الدولي مثل 1912 تاريخ توقيع الحماية و فقدان المغرب لسيادته، سنة 1917 تاريخ اندلاع الثورة البولشيفية و انتشار الوعي الاشتراكي وظهور حركات التحرير ومطالبة الدول المستعمرة باستقلالها .وسنة 1936 و 1948 سنوات تؤرخ للانتداب البريطاني و نكبة فلسطين و سنة 1956 العدوان الثلاثي على مصر و نكسة حزيران 1967 و ما تلاها من الأحداث و الاتفاقيات مثل ( كامب دايفد و الأرض مقابل السلام و اتفاقية اوسلو....)
بهذا الوعي يخترق عباس الزمن الماضي ... و يعاني من شراسة الحاضر و سلطانه الذي لم تلجمه عن تأسيس وجوده بشرط الحرية، على الرغم من جحيم الحياة التي تحاول بعض المؤسسات تعتيمه حماية لمصالحها...
من هنا تغدو هذه القصة بامتدادها لتخرق مخترقه لكل أجناس الإبداع بانزياخاتها في مجاهيل الحداثة ، بوعي مشتعل بالحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان مؤثثة فضاءاتنا الثقافية بعطاءات إبداعية فكرية و سردية ونقدية مجددة الدم في شرايين الحياة الثقافية مستعيدة النبض للواقع الأدبي والحقوقي عافيته وعنفوانه ضاربة بشعريتها عمق الرهافة والألم و المعاناة ، فتفيض أعماق السارد بكل ألوان البلاغة.. التي تتناسخ منها الذكريات و الرسائل و الأشخاص و الأمكنة الحميمية و غيرها لتشكل الضوء من المعاناة و ينطلق الحكي بتموجاته. بالإضافة إلى عنصر السخرية في النص التي ليست مجرد استهزاء أو انتفاص من المرفوض، بقدر ما هي بديل أخلاقي يرفض الرديء من الفكر الفج، و بذلك تضحى هذه السخرية قمة الوعي عند عباس الانتقادي الذي يعري الواقع، و يكشف عن خطاب مضاد مهدما منظومة من القيم التي تكرس الفساد و الظلم ، و تسلب الإنسان انسايته و كرامته في هذا المجتمع الذي يصبح سجنا كبيرا يتجلى فيه صراع الذاكرة مع النسيان . و بذلك يؤرخ النص للحظة التاريخية و السوسيو ثقافية التي خرج من رحمها.. سواء المؤلف كمفرد بصيغة الجمع أو كجمع بصيغة المفرد أو من التيمات التي تطرحها الرواية:
رفضها ما هو سائد من إيديولوجيا، و النضال من اجل تصحيح المسار من خلفية الطموح إلى التغيير الجذري لذلك الوضع الإيديولوجي إلى درجة التحالف مع كل الأفكار التقدمية التي تساهم في هدم المنظومة الرجعية التي تعمل على تكريس التخلف، و الانتفاض على التابوهات، ورفض الحجر و الوصاية التاريخية و الاستحواذ على مختلف السلط الدينية و السياسية و الاقتصادية ... كل ذلك من خلال معانقة الكاتب للنزعات التحريرية الرامية إلى تحدير الإنسان من عقليات سادت خلال قرون.
من هذه التيمة تتناسل مجموعة من الإشكاليات كالفقر الذي جعل من الفقراء كائنات خانعة قانعة سلبية في مواقفها بسبب إقصائها و تهميشها بحكم السياسات التي ساهمت في صنع هذا النوع من البشر الذي تم تنويمه و قولبة سلوكه لقبول ما هو سائد . و بذلك يربط النص بواقعه ليجد فيه كل منا ذاته وصورته. كما لامس النص ظاهرة الهجرة من القرية إلى المدينة أو خارجهما في رحلة مأساة لا يعرف (عباس) معارج هذا العالم الذي قدف به فيه ليبقى فارس البؤساء الذين عافهم الصبر في زمن الإقصاء والتهميش وما يترتب عنه من انحراف و تعاطي المخدرات و الدعارة الجنسية و السياسية والأمراض وضجيج المدينة وغلاء الأسعار ليعيش ( عباس) في ظلم الوحدة و ظلم الاحتقار وظلمة الجهل مما جعله يحن إلى عالم الحيوان و صداقة الكلاب و القطط التي رافقها و تقاسم معها الخبز والملح في عالم انعدم فيه الوفاء و الرحمة و الأمن.. نظرا لافتراس الأغنياء للمستضعفين وامتصاص دمائهم..
ومن اجل إيصال هذه الرؤيا وهذه الفلسفة تخترق هذه المتوالية القصصية كأجناس الإبداع من حكاية تخرج من رحمها حكايات أو قصة مؤجلة أو قصة داخل قصة.. مما يغني الخطاب السردي الذي يستعمل الانزياح بكثرة لخلق نوع من الثوثر لدى المتلقي لإعمال تفكيره أثناء القراءة، و محاولة إيجاد التأويل لهذا النوع من المحسنات الجمالية بدءا بعنوان الرواية.. التي ولدت في زمن الحزن والمعاناة والتي يشع منها الماضي.. و تتناسخ فيه الذكريات و الرسائل بشعرية ضاربة في العمق لينطلق زمن الحكي بكل تموجاته.. في سخرية انتقادية بعيدا عن الاستهزاء و الانتقاص المجاني من ذلك الواقع المرفوض.. لتشكل بديلا أخلاقيا يرفض كل أشكال الفساد التي تعكس بحق ذلك الفكر الفج.. لتضحى هذه السخرية قمة الوعي الذي يكشف عن المستور ويعري المحجوب للتحريض على الثورة ضد هذا الواقع المتردي.. الذي يبرز فيه (عباس) باناه الفردي بصيغة الجمع أو كجمع بصيغة المفرد مستعملا لغة تمت خلخلتها قبل خلخلة بنية الواقع وتلك لعمري ثورة في طريقة الكتابة من خلال رفض تلك الكلمات العجوزة المنحطة في ذاكرة النسيان لان كل مصطلح لا يحرض ولا يثور يعتبر عاقا في دنيا الكلمات..
و بذلك فالبناء الفني لهذه المتواليات القصصية، يخضع بشكل عفوي و تلقائي إلى قوانين تبنينه، مما جعل هندسته تستجيب لغاية سامية من خلال العبارة الرشيقة الأنيقة... تجعل من تلك الملفوظات بنية حجاجية تدافع ببراعة لتحقيق مقصدية المتكلم في النص الخبير من أين تؤكل الكتف و بالتالي فهذا هذا الجانب الفني بكل صوره المتعددة ليس بذخا جماليا أو حيلة ترفيهية أو ثراء فكريا و حسب، بقدر ما هو فن للإقناع و الإمتاع ... يفرض سلطته الخفية المدعومة بحمولة معرفية على المتلقي، من خلال سلطة الكلمات التي تتسم بسحر البيان و سلطانه.. الذي تتغير فيه و تتنوع الأساليب و تحدث توترا لدى المتلقي الذي بات يجري هو الأخر وراء (عباس) الذي خرج من منطقة الرحامنة ... و بالضبط من قرية مجهولة لم تحظ بوجودها في المخططات و لا الخرائط... ليقدف به إلى المدينة ... بحثا عن المجهول في أحضان (عفريت بالنهار و غول بالليل .. مدينة تتعايش فيها المتناقضات ) في مدينة بلا قلب ، للبحث عن عمل تحت شمس حزيران الذي يذكره بنكسة 1967 ...حاملا معه كذات عارفة واعية كل طموحاته و أحلامه .. تاركا خلفه كل تلك العقليات المتخلفة. لكن سرعان ما يصطدم بواقع المدينة التي يقاس فيها كل شيء بالمال.. وكل شيء فيها يباع ويشترى حتى البول والبراز. فأين هو هناك أكثر سخاء من الطبيعة وفضائها الشاسع وبدون مقابل.. فراح يستحضر تلك القيم النبيلة التي بارت في المدينة.. وكيف بأمثاله ينال حظوة و احتراما في بعض المكاتب التي تعطلت فيها لغة الكلام وجعلت ( عباس) يتمزق حسرة ولوعة على عالم موبوء فيزداد عبوسا من فرط فقره وحرمانه في ظل الدعارة السياسية.. أمام ازدياد حاجة الإنسان في هذا العالم إلى الحرية والمساواة والكرامة والثقة في بلاده.
هذه الأشياء التي لا مساومة فيها.. مما دفعه إلى صب جام غضبه على أولئك الذين يعيشون في بحبوحة من العيش و الثراء الفاحش ليموت هو و أمثاله في الفقر المدفع..
من هذه الرؤية الفكرية جاءت لغة هذه الرواية عنيفة جريئة تهدم المألوف.. وتتطاول على المقدس.. وتكشف عن المدنس الذي تكاد تشم منه رائحة العفونة.. ونرى فيه صفرة المرض.. لغة تستعمل العنف اللفظي والرمزي لتضفي على الكتابة نكهة متميزة، وذلك في إطار إستراتيجية هندسية وفنية تعكس مدى امتلاك المؤلف ناصية اللغة التي تسعفه في تفجير ذلك المخزون اللغوي والإرث الأدبي الذي يمتزج فيه التراث العربي و الإنساني.. لتصبح الكتابة صيغة عالمية تستثمر الثقافة الشعبية، و تترجمها إلى الفصيح.. وتتمثل الشعر و القرآن و تقتبس أجمل الأوصاف والصور.. وتعانق الوصف و السرد.. فتنساب الحكايات و السيرة الذاتية و الخواطر الحمقاء والرسائل في إطار التغذية الراجعة و تثوير التراث الذي ينبثق من فروج اللغة القديمة في قوالب و صور وأساليب جديدة وغريبة تستبد بأفئدة القراء ... و يمكننا في هذا الصدد أن نستعير تعبير المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري ( من التراث إلى الثورة ) بالإضافة إلى استحضار التاريخ تاريخ المقاومة في الجنوب و الأطلس و الريف كمعركة لهري و معركة أنوال... و تخليد بعض المدن و الأمكنة في أوصاف جميلة تجعلها متميزة عن باقي الأمكنة في مختلف الأزمنة: ( كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس... والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش... ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية.. وبين المد و الجزر أعطى عطره لمراكش كما أعطت اسمها للوطن...)
و يقول في مكان أخر وظف فيه الاقتباس (خفضت له جناح الذل من المسكنة و البهدلة ) و هو على صيغة الآية الكريمة ( و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة....) الآية و مثل هذا فعله الشاعر العربي الكميت في تعاطفه مع الشيعة:
[خفضت لهم مني جناحي مودة = إلى كنف عطفاه أهل ومرحب ].
ومن صفات الذات الإلهية ، اقتبس هذه الصيغة و كتب على منوالها صفات الذات الإنسانية و لكنها كلها سخرية و دم و قبح للنيل من شخص الإنسان لجلد الذات البريئة التي وقفت في المكاتب ( لكن أحدا لم يفطن لوجودي و لم تتحرك المخلوقات لأنها كانت غارقة في خدمة هذا الوطن السعيد ) فهي تقنية تعكس الواقع بشكل مختلف تماما مستنفدا الكلمة إلى أقصى حدودها و ما تحتوي عليه من اشتقاقات ليولد منها ما تحتوي عليه من دلالات فيلجأ إلى اللعب على الحروف و الجرس الموسيقي و الطباق الذي يعكس بنية ضدية ثنائية زيادة على آلية الحوار و أسلوب الاستفهام الذي يخرج عن مقصوده ليفيد الإنكار و التقدير و التشويق.. كما يوظف تقنية فنية تعتمد على ترك البياض للقارئ ليتمم الجمل بما يلائمها لإشراك القارئ.. هكذا تأتي هذه النصوص محشوة بحشوة فكرية فلسفية في قوالب فنية تحقق الإقناع و الإمتاع و اللذة الجمالية لدى المتلقي من هذه الرواية التي رحل فيها القارئ مع المهدي نقوس للبحث عن (عباس) الذي هو صورة كل واحد منا .


* ذ. أحمد فرج/ اليوسفية - المغرب



الصتائع.jpg










]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى