أمينة الصنهاجي - عبدالله راجع الرائي وريث بروميثيوس الأسمر

عنما سرق الرائي بروميثيوس قبس النار من جبل الأولمب، كان غرضه إسعاد البشر بتمكينهم من التدفئة. لكن الشاعر البشري، حول النار إلى حريق يأكل داخله رويدا رويدا، فتشتعل اللغة بالمجاز، وتضيء الحقيقة في غلالة من نور ودخان..

هكذا ورث عبدالله راجع ومضة من نفث بروميثيوس، وكان بارعا في تشكيل النار وبثها في لغة تحاكي القديم وتفصل منه الجديد المغاير والمدهش..

عبد الله راجع من طينة أولئك الذين لا يكتفون بوصف المعيش، وقد وصف. ولكن هوشاعر يغمض عينيه ويبدأ في تشكيل ناره على هيئات يراها وحده، يتنبأ من خلالها بالعالم ويعرضه كحقيقة ناصعة الضوء، سرعان ما تتحول لبذرة نصفها ثورة على الواقع ونصفها الآخر وعد جميل بالتغيير.

لذلك عندما يذكر الشاعر راجع، تذكر معه الشهادة، فهوشاهد وشهيد، شاهد على واقع تكرست فيه الرغبة في الانعتاق والحرية، وكانت دماء المناضلين ثمنا يتدفق بلا توقف، وشهيد أحرق دواخله ليرسم بلهيبها لغة كاشفة ترى وتتنبأ..

لم ينعزل عبد الله راجع في كهف الحكمة، ولم يكتب شعره بين جدران مكتبة زاهية، ولم يستق مشاهداته من الصور أوالكتب، بل كان معجونا بيوميات الواقع الرديء، منغمسا في تفاصيله، معتنقا روائحه، يمشي بين الناس الذين يكتب عنهم ويتنفس هواءهم، ويقاسمهم العيش الصعب والأيام التي تتبخر في انتظار الأجرة، والآمال التي تتكسر عند كل محاولة للفرح.

إنه منهم وابنهم وشاهد منهم..

وككل الحالمين بالثورة والتغيير والانعتاق، كان الوطن هوالمبتدأ والغاية، وكان الشعر رسالة بلاغ :

ياوطني فاشهد
ها قد بلغت
من أنباء المشهد
ما قد أبصرتْ

وككل الأنبياء، فالتغيير عند راجع يبدأ وينتهي أيضا بالقلب :

صرختُ من القلبِ: لا

إنها نفثة بروميثيوس، تشكل هذا الداخل الوفي لشعلته المقدسة، فالحب عنده يصرف للجمع وليس للمفرد، ليس انتصارا للنفس، والكتابة شهادة واستشهاد..

حتى الوطن يتسع في قلبه الموجوع ليشمل أطراف الوطن العربي :

أشرقتِ الشّمْسُ على قيسارية فغطَّتْ بيروتْ
وتقاطعت الأرصفة المدهونة بالدم
بالأرصفة المسروجة أطفالا
يقتنصون الحلم بعقارات،
وبوجه اخر للملكوتْ
قلتُ لكم ما لَمْ يخرج من بين الشفتين،
وها قد جاءَتكم بيّنة
تحتاج الى شفة

وقد قال ما لا يخرج من بين الشفتين، قال بينة من الرؤيا التي تمتد إلى يومنا الآن وستستمر لما بعده، مادام الدم مازال يدهن الأرصفة، ومازالت هذه الأرصفة تسرج بالأطفال..على امتداد الجرح العربي الراعف.

لكن ذلك لا يجعل منه خطيبا يصدع بالشعارات ويجلجل بالقصيد الثائر ناسيا ومنفصلا عن بلده وواقعه، فالصدق الذي يتلبس بشعر عبد الله راجع لا يحتمل هذا التعالي ولا يفصل بين الخاص والعام :

يا وطنا يرسمه القهر على
جدران القلب… ها أنذا أترك ظل حبيبي وعيون حبيبي… كي أتبع ظلك… ها
أنذا أتحول فيك حقيبة عشق يا وطني أرسم لك… خارطة فوق الجدران… وأكتب
في منطقة فيها… باللون الأحمر: هذا بيت حبيبي… وحبيبي يجهل عنواني…
يجهل حتى تاريخ العودة… منذ متى كنت التائه وحده؟“.

ومنذ متى كان الشعر غير طريق تيه يرسم الوصول ظلالا من أحرف وصور، يرفده القلب بالمعنى، وتنحث اللغة الملامح، وتكتبه أصابع تحترق..

وهو ذا راجع، كما يتراءى من انعكاس دواخله على القصائد..

ويبقى الانعكاس شرفة تنفتح على عوالم ثرية،عميقة، تفتح آفاقا لا محدودة للقراءة والاستلهام..

وهو هكذا الشعر : رؤية لا تقف عند حدود سماء واحدة


مقتطفات من سيرة عبدالله راجع

ولد في مدينة سلا (المجاورة للرباط – المغرب) وتوفي في الدار البيضاء.
عاش في عدة مدن بالمملكة المغربية.
تلقى تعليمًا نظاميًا في المدراس الابتدائية والثانوية بمدينة سلا، ثم التحق بكلية الآداب بمدينة فاس، وتخرج فيها (1972)، وحصل على دبلوم الدراسات العليا(1984).
عمل معلمًا في التعليم الثانوي بمدينة «الفقيه صالح”، ثم التحق للعمل بالتدريس في كلية الآداب بالدار البيضاء، كما عمل بهيئة التحرير في مجلة «الثقافة الجديدة”، وشارك في إصدار مجلة “رصيف”.
كان عضوًا في اتحاد كتاب المغرب (1976).

* الإنتاج الشعري:
صدر للشاعر الدواوين الآتية:
الهجرة إلى المدن السفلى – دار الكتاب – الدار البيضاء 1976
سلامًا وليشربوا البحار – منشورات الثقافة الجديدة – المحمدية 1982
أياد كانت تسرق القمر – الدار المغربية للنشر – الدار البيضاء 1988
وله قصائد في صحف ومجلات عصره وبخاصة في: الثقافة الجديدة – رصيف – جريدة المحرر، وغيرها.

الأعمال الأخرى:
له دراسة مطبوعة كأطروحة لنيل دبلوم الدراسات العليا – الرباط، بعنوان: القصيدة المغربية المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد – جزآن – منشورات عيون المقالات – الدار البيضاء – (جـ1، 1988 – جـ2، 1989).
شعره تجديدي، يمثل تطورًا في حركة الشعر المغربي في اقترانه بالقصيدة البصرية، ينتمي إلى جيل السبعينيات الذي كان يهتم بالتجريب في بنية القصيدة والتحول من الشكل العمودي إلى الشكل التفعيلي، واعتماد السطر الشعري بديلاً عن البيت ذي الشطرتين،كما ينتمي شعره موضوعيًا إلى كتابة الذات وجعلها منطلقًا لرؤية شعرية تكتشف العالم والموجودات.
ديوانه «سلامًا وليشربوا البحار” مثال للتجريب في القصيدة البصرية، وهو مكتوب برسم أندلسي مغربي. أما ديوانه «الهجرة إلى المدن السفلى” فيتسم بالعمق الفكري والصدق الوجداني والصور الكلية والأبنية المركبة، ويعتمد السرد الشعري والتناص تقنية للكتابة. نصوصه طويلة وإن اعتمدت التقسيمات الفرعية بالأرقام والعناوين الجانبية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى