حسين مروة - " مشروع " حاجب !..

- أتكون حاجبَ دائرة ٍحكومية ؟
فارتعش الفتى أولَ الأمر ، وبردتْ أطرافُه وتدفّق الدم سريعاً إلى عينيْه واختلجَ أنفُه اختلاجةً تعتريه كلما هزّه الغضبُ أو أصابه الألمُ والحنق . ثم سكن الفتى فجأة ، وراح بصرُه يذوبُ ويغوصُ في نفسه هادئاً لا يطرف له جفن ، فكأنّ طمأنينةً فاجأتْه غمرت نواحيه كلَّها ، وطافتْ على جبينه وعلى شفتيْه إشراقة ٌ لطيفة ، ثم رفع رأسه يقول لصاحبه :
- نعم ، أكون حاجباً ، أكون كنّاساً ، أكون كل شيءٍ من هذا القبيل ، فذلك خيرٌ أنْ لا أكونَ شيئاً ... ذلك خيرٌ من أن أكونَ عبدَ الحاجة ، عبدَ التقاليد ، عبدَ "ارستقراطيةٍ" مزعومةٍ موهومة ، عبدَ "نفحةٍ كذّابة" لا تشبِعُني من جوع ، ولا تسترني من عري ٍ" ولا تشفيني من مرض ٍ" ولا تُنقذني من جهل ٍ" ولا تُنزّهُني من مذلّة ٍ وهَوان ..
ونهض الفتى من مكانه، منتصباً كالخطيب تهزُّه حماسةٌ طاغيةٌ جارفة ، ثم انحنى فوق صاحبه يقول ثانيةً وبلهجة ٍ ساخرة ٍ مؤنِّبة :
- نعم ، أكون حاجباً ... وهل ترى في ذلك مفاجأة لي ؟ هل في العمل - أياً كان العمل - ما يُعيبُ فتىً مثْلي ؟ ومن أنا حتى لا أرتضيَ لنفسي عملاً يرتضيه عددٌ كبيرٌ من الناس لأنفسهم ؟ . أيُّ فرقٍ بين هؤلاء الناس وبيني ؟ .
وتطلَّعَ إليه صاحبُه ضاحكاً :
- إذن تكونُ "حاجباً " لمدرسة القرية " ؟ .
- نعم ، وأكون .. أليس ذلك عملاً ؟ .. أليس العملُ بذاته شرَفاً ؟ . . أليس في هذا العمل خدمةً لأبناء بلدتي ؟ ألسْتُ أرفعُ به نيرَ الحاجةِ عن نفسي ، وأحطّم به العبوديّاتِ كلَّها عن ذاتي ، وأضعُ به اسمي في سجلِّ العاملين الطيّبين النافعين ؟ ... هذا وحدُه شيءٌ عظيم ..
***
ولكن الفتى لم يستطع أن يكون " حاجباً " لمدرسة القرية ... ! لأن وصولَه إلى هذا "المنصب" يؤدّي إلى خلَلٍ في " التوازن الطائفي " ... لأن وصولَهُ إلى هذا "المنصب" يحتاجُ - قبل كل شيء – إلى ماء "المعموديّة " : "معموديّة ِ الولاء " ... وهذا لا سبيلَ إليه إلاّ في بيتِ " الزعيم الطائفي" أو في مكتبه ... كان الفتى يريد الخلاصَ من العبوديّات ، فإذا "منصب" الحاجب ، يكلّفه ألفاً جديداً من العبوديات ، فلينصرفْ عنه وليهرقْ - إذن - شبابَه وصحتَه ونورَ عينيه ساهراً لياليه كلها في عمله الجديد ، من أجل خمس عشرة ليرة لبنانية !


- مقالة للشهيد المفكر حسين مروة في جريدة " الحياة " ، زاوية - أدب –
تاريخ 11 حزيران 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى