وداد سكاكيني - أدب الشام الحديث..

منذ القدم اقتسمت بلاد العرب أدبها الأصيل، فكان لكل قطر شعراؤه وأدباؤه. وكان الشعر في آثار العرب الثقافية أول ما جاد به دهرهم وأطل من آفاقهم، فكان في الجاهلية موزعاً بين قبائل وعشائر لكل منها شاعرها الذي يحمي ذمارها ويروى أخبارها، وكان لنجد شعراؤها كما كان للحجاز أندادهم من أهل الفرائح والبيان. بيد أن الأدب الذي انتهى إلينا منهم والشعر الذي أثر عنهم لم يكن بتلك القسمة في عهود الجاهلية متميزاً بعضه من بعض، إذ كان نسيج القصائد في تلك الفترات متشابهاً، ولم يستطع دراس الأدب من قدامى ومحدثين أن يكتنهوا الفروق بين أولئك الشعراء، فالجزالة والفحولة حتى في شعر النساء كانت شركة بينهم، وسلامة الطبع والجبلة موهبة فيهم، والسذاجة والبعد عن التكلف من سجاياهم، أما الفروق الفنية فقد دبت في الشعر والنثر بعد الإسلام، فكان شعراء أمية السياسية في طبيعة قصائدهم غير شعراء الحجاز الغزل. وقضي الأمر في قسمة الأدب بين البلاد العربية في العصور العباسية. فظهرت الميزات والعلامات بمياسم أكثر انطباعاً وأشد وضوحاً، فإذا للعراق أدب فياض شاعت في مجاليه مطارحة الندامى وأغاني القيان ومجون الشاربين، وإذا للأندلس طائفة من الشعراء انسرح خيالهم، ورق شعورهم، فابتدعوا الموشحات والمقطوعات، وخلعوا على أدب العرب وشاحاً هفهافاً، وفي نسمات الوادي الكبير، أطلقوا في ثناياه أعنة الخيال من روح الأدب الغربي الذي رف عليهم ومن صوب الأسبان أو عبر نحوهم من جبال (البيرنيه).

وكان ثمة شعر مطبوع وأدب بهيج الأوان، نجما في آفاق الشام، وقد نمتهما دارات غسان ودعتهما ضفاف بردى، ورفت بهما أفانين (جلق) بغوطتها الخضراء كيوم العصابة التي درَّ درها ونادمها حسان في الزمان الأول، فقد عرفت الشام بلون من الشعر سماه المعاصرون من عرب ومستشرقين بالطريقة الشامية، وهو ضرب من البيان ظهر في آثار أبى تمام والبحتري وأبى العلاء فيه اللفظ البليغ والصناعات ذوات التحاسين، حتى بات شعر الشام، كعصب اليمن، أفوافه مزركشة ومطارفة منمنمة، فكأنه نمارق على أرض أو ديباجة على جدار وإنني إذ أرسم صورة لأدب الشام، لا أقول بالإقليمية العصبية ولا أغلو في الرأي والتصوير، وإنما أقصد إلى تلك المزايا التي اختص الله بها كل بلد من الأرض، فجعل فيها البيئة ذات خلق وتكوين، تؤثر في سكانها وتطبع المرء بمزاجها، فتجعله حسب أطوارها ومقتضاها

من خطرات هذا الرأي ما صوره الشاعر ألفريد دوموسيه، فان له رواية سماها (الكأس والشفاه) وصف فيها رجلاً من سكان التيرول يقول الشعر ويروي سيرته، فيعرضه الشاعر بمعارض أولئك الأشداء الذين سكنوا في الأرض القاسية، فعلوا قمم الجبال على صهوات خيولهم، ولم تتطامن أخلاقهم كأولئك الذين سهلوا إذ سكنوا في السهول

وما ينكر المنصف أن الأدب كالمخلوق الحي ينمو وينضج وتسري في أعراقه دماء يطلب العارفون فيها الأصالة والنشأة التي تخضع لمنازع ثقافية وأحداث اجتماعية وسياسية

فأدب الشام الحديث هو من هذا القبيل أدب عربي الوجه والروح وقد صقله الفن والتطور وظهرت عليه مغارس الوطن، ولم يولد هذا الأدب ولادة ارتجال، وإنما فتحت الشام العيون بعد الحرب الماضية على حركة فكرية جديدة ويقظة ثقافية منها مثيلاً، وكانت مثل سجين لم يجد أرفه لنفسه وأقرب إلى قلبه من أدب المصريين فتأثرت الشام نهضتهم ومضت على غرارهم في نشأتها الحديثة. وكم راجت فيها سوق الأدب لقصيدة قالها شوقي أو حافظ، ولكتاب ألفه المنفلوطي أو الرافعي، وكان في تلك الآونة نفر من الشاميين متنورين لكل نهضة، بعضهم عرف الغرب وورد النحل على الأزاهير، ثم صدر عنها فعاد إلى الشام ينشئ المجلات وينشر الصحف ويحاضر في المجامع والندوات داعياً إلى نشر الثقافة والأدب. وأسس المجمع العلمي العربي في دمشق على الفصحى وحفاظ أمجادها وذخائرها فجمع بين لغوي مدقق وعالم فيلسوف ومؤرخ محقق وشاعر أديب، ورفدت أعماله مجلة ذاعت في أقطار العرب. وكان من السوريين شعراء قد استيقظوا بعد الحرب الغابرة على صيحات البعث والتحرر والتجديد فأخذوا بشيء من القصيدة كأنه الينبوع يفيض حيناً وينضب حيناً، وفيهم من حذا وجرير والأخطل حتى قلدهما في حلية القريض، ومنهم من أدمن الإلمام بالمتنبي حتى سرى في بيانه روح أبى الطيب وعنجهيته. وكما كان في كل بلد أدب للشيوخ وأدب للشباب فكذلك حدث في أدب الشام، وليس بين الفريقين تنابذ وجفاء، فالشيوخ رسخ مجهودهم في اللغة والعلم والبحث، والكهول والفتيان امتلأت نفوسهم بالأمل والطموح، واكتسبوا بالتحصيل ما بذوا به الأوائل، فقد جمع بعضهم بين الثقافتين العربية والغربية، فانبعثوا وراء المثل العليا يسترشدون بالهداة ويتأثرون أعلام هذه النهضة التي تنوروها من قريب ومن بعيد

وان في أدب الشام الحديث لألواناً وفنوناً، ففي الكتابة والإنشاء فريق لو أتيح لهم دور نشر وطباعة تفي بآثارهم فتذيعها في الناس، أو لو كانت صحفهم تجاوز آفاقهم، لشاع صيتهم، وفي هذا الملأ مواهب فنية في النقد والقصص، لولا إيثار أصحابها لوظائف الدولة لأثر عنهم كل أثر نفيس

إنه لأدب طريف الأوان أصيل السمات، ولكنه ضئيل الجزم، محلى الشيوع والازدهار، والشام سوق لهذا الأدب المصري بأكثر مما هي فيه لأهلها، فلو سئل المثقف أو المتعلم في ديار الشام عن مصر وأدباءها وكتبها وعلمائها، لأجاب بما يعجب وبما يطرب، إذ أن أدب مصر يعيش في تلك الديار منذ ثلاثين عاماً كما يعيش في حمى الأزهر وتحت قبة الجامعة، وفي ندوات الثقافة المصرية، غير أن مصر التي يجمل بها عتاب الحبيب لا تعرف من أدب الشام إلا القليل، وكلتا الشقيقتين على حق فيما ترى بهذا الشأن. ولعلي أتحدث قريباً عن فنون هذا الأدب مزوداً بذكر أعلامه وكاتبيه وأهل القصة والنقد فيه

وداد ساكاكيني

مجلة الرسالة - العدد 607
بتاريخ: 19 - 02 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى