علي السعيدي - ريمة.. قصة قصيرة

كل ذلك الغروب المبقع بالغيوم يبدو إلى حد ما غريبا على شهر مارس كتل من الدخان الأسود وسماء ضجرة مختنقة، ليس معقولا أن يهطل المطر في هذا الربيع المتأخر، لم تكن الساعة جاوزت التاسعة ليلا وأنا مسترخ في فراشي وقد أطفأت مصباح الغرفة ورفعت الستائر، لم يكن ثمة ضوء يخترق الشباك، وكان أمرا صعبا أن أعثر على موقع القمر، لا شيء سوى طبقات تتزاحم من الغيوم. حين أفكر بقدر من الراحة والاسترخاء الحقيقي أدس جسدي داخل الظلمة وكنت أرسل نظري بعيدا لكنني لا أعتقد في هذا الليل المبكر إنني اجتزت أية مسافة وراء النوافذ، تحسست علبة سجائري، أولعت عود ثقاب واستمتعت لحظات بالبصيص الذي ملأ المكان، ان عود الثقاب هذه النار الصغيرة المتواضعة تبدو اقرب إلى شعلة من اللهب ربما كانت الغرفة شديدة الظلمة قلت لنفسي، وبدأت أتابع ضوء الجمرة المنتفخة في نهاية سيجارتي، تلك الخطوط الهلامية المائعة تتموج تتداخل وتندفع إلى أعلى ثم تختفي، إن لدخان السجائر تشكيلات خرافية حالمة ربما كان شغفي بها ناتجا عن ذلك اللون الرمادي الشفاف وكنت مصغيا لجهاز التسجيل.. تلك عادة قديمة، حين استرخي اترك ذلك الصوت البدويّ الناعم المتألف من أنين الناي يملأ مساحات الغرفة وأفكر كيف استقبلت ريمة، هذه المرة ليست حلما أنا أعرف حتى لون عينيها والطريقة الساذجة التي تلون بها أظفارها، لقد أخبرتها ألف مرة أنني أكره المساحيق التي تغطي وجوه النساء، وامتنعت وهي تستغرب من رجل يتدخل في شؤونها وتفاصيل حياتها الخاصة دون أن تعترض على فضوليته الرثة، واستغربت أن تستجيب لطلب رجل لا يملك أي حق مشروع لفرض وصايته، وأفكر من جديد كيف استقبلت ريمة ذلك النبأ المحزن كان بالنسبة لي قاسيا بكثير من الفرح الخفيّ بين شفتيها أن هذه المرأة التي جمعتني بها مصادفة العمل، تصحبني يوميا في الطريق الطويلة إلى أقصى نقطة يجب الافتراق عندها وتنتظرني كل صباح لنقطع المسافة نفسها، ولم تقم أية علاقة حتى مع زميلاتها لتسافر معي وحدي مساءات السبت حين نترك القرية إلى المدينة ،وتبقى لوحدها في بيتها الصغير داخل القرية النائية حين أخبرها بأنني لن أسافر وتتخطى معي أوقات العصر.
إن الشوارع الريفية المغطاة بالحشائش ورائحة التراب والصفوف غير المنتظمة من الشجار والبساتين تبعث حالة من النشوة والتفجر، إنه التفجر الداخلي على وجه التحديد هذه هي العبارة المناسبة، ونلتقي بمصادفة، هكذا نلتذ ونتواصل مع الكذبة الجميلة، في الحقيقة لم نلتق مصادفة لنتخطى نوغل بعيدا داخل البساتين والأشجار والسواقي، نعم فأنا وحدي اكتشفت كيف أضبط الفرح بين شفتيها، هناك من يقفز الانفعال في عينيه أو يطفو على وجهه، ريمة فقط من تنفرد بهذه الخاصية، عندما أنقل إليها خبرا أراقب شفتيها، لقد كانت معلمة معي في المدرسة ذاتها حتى هذه الحقيقة البسيطة كنت أعرفها أنني اكتشفت سر شفتيها، قلت لها بعد شهر واحد من لقائنا، فتولتها الدهشة ثم ضحكت بعمق، عندما تضحك ريمة تدفع كل ما لديها من إمكانية على الضحك مرة واحدة وتنحبس الكلمات في فمها، وتبقى كتل الضحك تندفع بالقوة نفسها حتى ينتابها الإعياء.. ريمة امرأة يرهقها الضحك ولهذا كنت أتحفظ من أية مزحة، الواقع لم أتحفظ من أية مزحة ولكنني كنت أحرص كل الحرص لأجنبها التعرض لمثل تلك النوبات الحادة، فهذه المرأة التي جمعتني بها مصادفة العمل استقبلت نبا زواج ابنة عمي بكثير من الفرح الخفيّ، وكان اشد ما يغضبها وقد تخلت عن تلوين أظافرها وطلاء وجهها بالمساحيق إرضاء لرغباتي الطفولية المضحكة أنا وأنت قالت لي أو قلت لها ضد النساء الملونات وضحكنا طويلا، كنت أهب نفسي حق التدخل والغضب والعقاب في تفاصيل حياتها اليومية دون أن تقابلني ولو مرة واحدة بأي اعتراض، ودون أن ترفض لي ولو مرة واحدة أي طلب هو أن تجدني أحادث امرأة غيرها، أنا أستذكر جيدا كان هذا أشدّ ما يغضبها لقد وهبت نفسها حق مصادرة كل حرياتي دون أن تلمس مني اعتراضا أو رفضا ولو مرة واحدة، ولم يكن حديثي مع أية امرأة في المدرسة يتعدى حدود المدرسة، كانت تجلس في ابعد نقطة أوجد فيها وترمي حنكها داخل كفيها وتنظر إلى أي أحد إلى أي شيء، تتحدث بانفعال لا تستطيع إخفاءه مع الجميع أنا فقط تحجب عنه حديثها وعينيها، وقد اعتدت أن أتلقى هذه الإشارة الغاضبة لأكف بعد اقل من ثانية حتى عن إكمال الفكرة التي في رأسي مع معلمة لا يتعدى الحديث معها حدود المدرسة ، ذلك هو اشد ما يغضبها.
وكان ذلك الغروب المبقع من شهر مارس مشبعا بالريح الباردة والمطر المتقطع وأصوات الناي وأغنيات بدوية حزينة، ما سرّ هذا العشق الغريب بيني وبين الصحراء، ليلتها لم أنم، رغم أن ريمة تلقت النبأ بكثير من الفرح فابنة عمي تنتظرني، كنا ننتظر بعضنا منذ سنوات بعيدة، لقد قلت لها أرجوك تقدير موقفي، فأنا أسافر بعد شهور إلى الخارج لإكمال دراستي العليا ربما أغيب أربع سنوات أو أكثر ومن غير المعقول أن نبقى ننتظر بعضنا، تحدثت طويلا جدا في تلك الكذبة التي اهتديت إليها وكانت ابنة عمي المستغربة بدموع صامتة لقدرتي على هذا التواصل المفضوح في الكذب، غير قادرة على الكلام كانت تتألم فقط لأنني أقاسي كثيرا مما احتمل في تجميل الكذبة، أية مجنونة هذه ابنة عمي لم تتألم لنفسها وأنا أخونها حتى في لغتي بشكل مفضوح كانت توافق أن أتركها ، أن أسبب لها ما شئت من الأذى شرط أن لا أتألم أنا، لا أحبك أنا قالت لي مرة، بل أنظر إليك مثل أله منحني سر الوجود والحياة ولم أنم ليلتها. ابنة عمي إنسانة لا تستحق الأذى أبدا حتى لو اجتمعت كل أفراح العالم بين شفتي ريمة، ولم أجرؤ على الإطلاق كانت الكلمات لا تطاوعني لأقول لها ولو بشكل عابر أن أية امرأة في الشارع أو الحلم لا تستطيع مبادلتي حتى التحية، لأنها تدرك تمام الإدراك أنك تغضبين يا ريمة، وخانتني أيضا الشجاعة لأقول لها إن إلغاء ابنة عمي من حياتي والتي تعتبرني مثل اله منحها سر الوجود والحياة كان إكراما للحظة فرح صغيرة أوفرها لك إنني باختصار لم اقل لها طبعا تأطرت حياتي كلها :لا نساء ولا حب ولا مسرات الكون فأنت وحدك المرأة والحب والمسرة، فأرادت أن تجيبني ولم تطاوعها الكلمات وهذا ما فعلته أنا أيضا وانتهى كل عالمي الذي اخترت وأنا مبتهجة بحرارة فهل لديك موقف آخر، أرجوك صارحني الحقيقة الكبيرة التي لم أقلها، أنني تألمت كثيرا لفقد ابنة عمي لقد ضيعتها وهي لا تستحق الأذى، ومع ذلك فلست نادما على شيء يا ريمة، فأنت كل عالمي الذي اخترت وأنا مبتهج بحرارة.
قلنا الكثير وتحدثنا طويلا ولم تطاوعنا الكلمات، وكنا مثل طفلين صغيرين في المدرسة لوحدنا نلعب الكرة ونرسم ونصحح الكراريس ونضحك ،وكان المطر على غير عادته عنيفا في هذا الربيع المتأخر، وقد قالت لي وصوتها ينحني بالألم سأضطر خلال هذه العطلة للسفر مع أسرتي ليس بإمكاني الرفض وكنت مكتفيا بالإصغاء، إليها وكنت اشعر شيئا ما في داخلي يبكي بعنف وبقيت ثلاثة شهور خلال العطلة لم أغادر القرية مكتفيا كل يوم بالدوران مثل كلب مخنوق بحبل قصير حول بيتها الصغير وبين السواقي والأدغال والطريق الترابية، وقد أخبرني مدير المدرسة في بداية السنة الدراسية الجديدة أن المعلمة ريمة داود قد نقلت إلى مركز المدينة قريبا من أسرتها فصرخت في وجهه رافضا أن يخصني دون الحاضرين بالخبر، ذلك أفضل لها ترتاح من نكد القرية واكتفيت بالصمت وانتظرت أن تأتي، أن تكتب لي، تفعل أي شيء، أردت أن أفهم وكنت مع ذلك مقتنعا دون مخاوف أن ثمة خطأ تتحمل مسؤوليته جهة ما، وزارة التربية أو المدرسة أو أحد الموظفين، ريمة فقط لا علاقة ولا علم لها ومتيقنا كنت أنها ستلغي أمر النقلة، لكنها لم تحضر حتى لتودع أحدا منا. لم يكن ذلك طبعا غير معقول بل كان شيئا لا يسمى، هذا هو ما توصلت إليه بعد تفكير طويل وأنا أراقب الجمرة المنتفخة نهاية سيجارتي، وها هي في اليوم الثالث عشر من مارس على وجه التحديد تمزق حالة صمتي واستغرابي وهي تقتحم المدرسة يسبقها الفرح الخفيّ بين شفتيها، كنت أناقش إحدى المعلمات حول موقع قريتنا على الخارطة صافحتنا جميعا وهي توزع ضحكاتها الصغيرة، كنت أحس الخدر والخوف في كل خلايا جسدي وكنت مأخوذا برهبة خفية، ماذا سنقول لبعضنا، ولم تعلن براءتها من أمر النقل ولم تغلن رغبتها في البقاء معنا، اتعبتني حياة القرية هذا كل ما قلته واسترخت يدها طوبلا بين كفيّ لم تتخل عني، أشعرتني بذلك التميز وحدثتني كثيرا، لي فقط تحدثت بمسرة واضحة عن مدرستها الجديدة ووجودها وسط اسرتها، أتمنى لو تعرف على أبي، إنه رجل فذ وأنا أتعامل معه كصديق لطيف قالت لي ولم تغضب ابدا ولم تضع حنكها بين كفيها وهي ترى المعلمة تستعيد حديثها معي ثانية عن موقع القرية من الخارطة، كانت مأخوذة بالفرح، وكنت طيلة الوقت ابحث جاهدا أن تقول لي شيئا وتخونها الكلمات كانت الكلمات لينة طرية، وكانت كل مفردات اللغة تطاوعها. أنا أعرف حتى التفاصيل الدقيقة لعدد الخطوط وتقاطعاتها فوق كفيها، واعرف أن الكلمات لم تخنها لأول مرة منذ تعرفت عليها، قبل خمسة عشر شهرا، كانت لأصابعها وعينيها وحركة شفتيها وحاجبيها وطريقة وضع رأسها على الطاولة مفردات واضحة، لريمة لغة بسيطة كانت تعرف أنني أعرف ذلك جيدا، وكنا نتحدث طويلا بصمت، نقول كل شيء، نتفق، نفرح، نغضب، نسافر ونولد، واستأذنت بالانصراف والعودة فالوقت متأخر، وأقسمت أنها لن تقطع زياراتنا وقد حاولت اكتشاف الكلمات التي لم تطاوعها قالت لي: وماذا عنك؟ فأجبتها: أنا مثل صخور البحر الكبيرة تنحت فيها المياه والأيام ولكن لا تحركها عن مكانها خطوة، هذا أنا يا ريمة كما كنت لم أتغير، فضحكت وقالت بشيء من الدلال والاستغراب: فعلا أنت كذلك تفكر دائما وتقول أشياء جميلة وحاولت أن تشغرني بكثير من الذكاء أنها لم تفهم حكاية الصخرة والبحر والأيام ثم انهمكت في حديث عابر، الأحاديث الأخيرة للنساء طويلة ومملة دائما، ، انفردت معها، يداي متشابكتان فوق صدري وعيناي مستقرتان فوق وجهها، كنت اراقب تلك الألوان المتكومة عند خدّيها وشفتيها وصبغة الأظافر القرمزية في أطراف أصابعها، وكانت منهمكة في حديث نسوي طويل وأنا أكرر المحاولة مرة أخرى، ابحث عن الأفكار التي تريد قولها فلا تطاوعها الكلمات، كانت كل الكلمات لديها وأنا أبحث عن لفظة خرساء واحدة، عن لغة بلا حروف، اين الصمت المتفجر الكلمات عند اصابعها وعينيها وحركة رأسها، نعم يا ريمة صدقيني أنا اشبه بصخور البحر الثابنة رغم قوة الموج والريح، حدثتها كثيرا عن هذه الفكرة وأكدت لها أن الفراغ الذي خلفته في رحيلها المفاجئ لن تعوضه كل نساء العالم، ليس إلى هذا الحدّ أجابتني ضاحكة وهي تتأملني بعمق، سألتني بشكل مباغت: يبدو أنك منسجم مع تلك المعلمة التي كنت تناقش معها موضوع القرية، الواقع لم تسألني فأجبتها: لا أعتقد، الواقع لم أجبها، تلك هي المرة الوحيدة التي أحسست فيها ريمة كما عرفتها، ثم نسيت نفسها، أنا بالذات لا أميل إلى هذا التفسير رغم افتراضي له، كان عليها لو كانت هذه المرأة الملونة التي تقف أمامي هي ريمة أن تغضب وتضع حنكها بين يديها، ولكنها المرأة التي سافرت ونقلت وانقطعت حتى عن مراسلتي، بدت لي إنسانة غريبة ونحن نلتقي بعد كل هذا الغياب، لماذا لم أتصرف بكرامتي طيلة ثمانية أشهر من الغياب وأتصل بها، ركب العناد رأسي، لم يكن هذا هو السبب بالتأكيد، ان القضية تكمن باختصار في الكلمة المناسبة التي يمكن قولها: أنا أحبك مثلا؟ نحن لم نقل هذه الكلمة لبعضنا في يوم من الأيام، كانت خلايا جسدنا تتحدث بلغة عذبة حالمة مسحورة، تقول كلمات وجملا لم أسمع مثلها، أشياء لا يمكن استحضارها أو وصفها أبدا، ان ذلك النبض المتوقد، الضحكات الصغيرة التي اشعر بها أكاد أتلمس مواضعها تتراقص مثل الأطفال في مكان من جسمي، ربما في كل مكان كما تقول ريمة، لن تقدر على استيعابها الجمل الفخمة المنتقاة من كل كتب العالم،ماذا كان بامكاني القول، لا..لا.. كل هذا غير صحيح أيضا، فالذي بيننا هو..، وتساءلت على ضوء الجمرة المنتفخة في نهاية سيجارتي، أغلقت النوافذ وأسدلت الستائر فأنا كما كانت تراني تلك اللحظة زميل لها في المدرسة لا يختلف عن الآخرين، تحترمه وتقدره وتتحدث إليه بمحبة مثل كل الآخرين، في ذلك النهار من مارس شعرت أنني بلا هوية ولا طعم، واستغربت لوجهها المبالغ في ألوانه ويداي متشابكتان فوق صدري لم أشارك أحدا في الحديث وأفكر بالحزن الذي أورثته قلب ابنة عمي، كم كنت قاسيا معها، وبتلك الحلقة الضيقة التي طوقت نفسي بها، الواقع هي التي طوقتني بها فامتنعت حتى عن رد التحية لامرأة تصادفني في الحلم أو الشارع، وكان الحبل الذي يخنق رقبتي مثل كلب يدور ويدور حول بيتها والقمر الذي بحثت عنه طويلا وسط كتلة الغيوم والمطر الذي اسمع هطوله عنيفا، وأنا أمد بصري وأستعين بعود الثقاب ويتواصل الصوت البدوي مع أنين الناي وأدس جسدي في الظلام/ كان كل شيء أنني لا أدري على وجه التحديد ماذا كان كل شيء في تلك الليلة، ويداي متشابكتان وحديثهم يستمر، انهم يتحدثون لم يطلب أحد منهم أبدا، أي واحد منهم أبدا مني المشاركة، لم يلتفتوا، لم ينتبهوا، لم يشعروا بالزمن الثقيل وأنا أحمل يدي المتشابكتين فوق صدري واقفا كرجل شرطة بلا تعب أراقب ضحكاتهم المتدافعة، أحاديثهم، مزاحهم، ان رجل الشرطة وحده من يراقب، الآخرون يجهلون كل شيء عنه حين تسللت بصمت، نحو غرفتي الطينية القديمة واقفلت الباب كأن أحدا يلاحقني وشعرت برغبة أعوام من القهر إلى البكاء، الواقع لم يتملكني الشعور على وجه الدقة، فقد بكيت دون أن أعرف نوع مشاعري بكيت مثل الأطفال، وأحسست بنقاوة صادقة، كنت أختزن دموعا لا تنضب، أختزن سنوات العمر كله، كنت أبكي عمري..
*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى