أحمد العكيدي - أغنية العيد.. قصة قصيرة

أرخت الشمس أشعتها على الشاطئ، فاجتاحت جسده المتورم موجة من الدفء شعر بها تدغدغ جفنيه فاستفاق على مضض من غيبوبته. تجول ببصره في الأفق لعله يهتدي إلى هوية المكان والزمان، بحث في الأشياء المبعثرة هنا وهناك عن ذاكرته وماضيه، حاضره ومستقبله، فخدلته اللحظة.

بعينين متعبتين رمق، من بعيد، ثوب قميص أحمر يداعبه الريح جيئة وذهابا، تارة يدسه تحت الرمل وتارة أخرى يقذفه في السماء. زحف نحوه كالرضيع، يرسم أثار قدميه ويديه فوق الرمل، التقطه ثم ضمه إلى صدره للحظات واستنشق رائحته بعمق فاشتعلت في دواخله آهات وآهات. تأمله وتفحص طرفه المفقود فتسللت من إحدى عينيه دمعة في سكون واختلطت بحبات الرمل. تأبطه ثم استند إلى قطعة خشب لفضها البحر وبدأ يبحث عن حياة بين الأجساد المنتفخة والمبعثرة كأوراق الخريف حول القارب المحطم.

تَراءى له، من بعيد، جسم صغير خيل له من بؤسه أنه يتحرك، أسرع نحوه ولم تسعفه الخطوات فتعثر وسقط فوق جسد امرأة مغمور وجهها في الرمل. أدار رأسها بحركة سريعة فتطاير الماء من فمها في كل اتجاه. تصلب في مكانه للحظات بدون حراك كتمثال حجري قبل أن يدرك أنها جارته التي قُتل زوجها وجميع أبنائها في قصف جوي، كانت هي الوحيدة التي سلمت منه لتلقى حتفها في هذا المكان بدون هوية ولا عنوان.

استمر في سعيه والأمل لا يفارقه رغم الهموم التي تحرق صدره والآلام التي تدمي قلبه والأحزان التي يضمرها. أخد جسمها الصغير بين ذراعيه المرتجفتين ونظر إلى ثياب العيد التي لم يتسن لها أن تستمتع بها ولو للحظات بعدما تقاطر عليهم الرصاص والقنابل من كل اتجاه فنزحوا مجبرين إلى حيث لا يعلمون، همس لها بكلمات يرددها الآباء على مسامع أطفالهم في كل صباح:

- انهضي يا بنيتي لقد حان وقت المدرسة...

حضنها بحنان ورأفة واستمر يتنقل بين الأجساد المتراكمة في كل مكان، لمح من هناك عباءة تتطاير حول جسد أنثوي يمتزج لونه الداكن بزرقة البحر والسماء، توجه نحوها جسدا بدون روح، جثا على ركبتيه فوق رأسها وتأمل، في ذهول، ثيابها الممزقة على جسدها العاري، تحسس وجهها الممتلئ بندابات وكدمات كادت تخفي ملامحه الشامية وغالب البكاء. تطلع إلى أصابع يدها المشدودة، ثم فتحها بهدوء فارتعشت جوارحه وانهمرت العبرات من مقلتيه وتدحرجت على صدرها فبللته، أخد من بين أناملها قطعة الثوب الأحمر ووضعها على الجزء المفقود من القميص وألبسه لطفلته وغنى لها أغنية العيد وهو يتحسس صوتها فلا يتردد في أدنيه سوى صوت الأمواج وهي ترتطم على الصخور.

استجمع ما تبقى من قواه ووضعها بين أحضان أمها وبدأ يذكرهما، بصوت خفيت، بالخطة التي وضعوها، على عجل، للنزوح من قريتهم في ضواحي مدينة حلب:

- هنيئا لنا لقد تخطينا كل الصعاب.. ها نحن الأن على أرض أروبا حيث لقمة ساخنة تنتظرنا وبيت جميل يأوينا ووطن بديل يحضننا...

حثهما على النهوض فلم يتحركا، هز جسديهما فلم يستجيبا، تلمس وجهيهما بنعومة فانتقلت إلى قلبه برودة قوية فسقط بجانبهما مغشيا عليه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى