بهاء إيعالي - الجسدُ مدينة لا نعرفها.. شعر

هل ينبغي أن أبحثَ عن وجهكِ الآن؟
أبحث
إيجاد الوجه إيجاد الضوء
فقدان الوجه فقدان الماء
الجدران ترزح تحت نير اللحظات كأنّها تسقط
بيدٍ مبتورةٍ يودّعُ الشهداءُ راياتهم
موت الوجه موت الكون
أي موت؟ لا موت طالما هو في مكانٍ ما
قد يكون هنا، هناك... لا أعلم، المهم أنّه في مكانٍ ما
هذا المكان الذي فيه سنجد الآخرين أيضاً، من وطئت إصبعهم مدينة كنت أخيطها بما تبقّى لديّ من أغصانِ الآجام المحترقة.
للوصول إلى هذه المدينة ينبغي ألا نسير كيسوعٍ فوق الماء
هذه المدينة موجودة في كلّ مكان
نجدها في مسكرات العاطلين عن العمل
في سيارة الموظّف القديمة
في آخر مريولٍ ذهبت به الحسناء إلى المدرسة
لكن ليس في عينيك.
أجلس فوق رصيف الكورنيش الجنوبي الذي جعله الأشقياء مقبرةً لوجهينا
تمرّ سيّارة ببطء يعلو صوت مذياعها:
"يا حبيبي كلّ ما في الصمتِ نادى
يا حبيبي ومضى الموجُ وعادَ
وأنا في موج عينيك شراعٌ يتهادى...."
لحظة
من قال إنّ عينيّ بحر، إن كانتا بحراً فقد غرقت فيهما كلّ الوجوه التي حاولت أن ترفع أشرعتها
لذا لا تدخلي إليهما، بل دعي الموت بينك وبينهما قليلاً
ويكمل المذياع:
"كاد أن يجعلني الليل سوادا"...

*********

يا من تحاولين ألا تكوني سواداً بهذا الليل إنّك ترسليني إلى الجحيم
ليس بأغنيتك التي أرسلتها لي فقط
بل بالسيارات التي تمرّ تباعاً على الكورنيش وتغنيها
كأنّ الأصوات تعلو بهدوءٍ إلى جبل الأقرع
لتعاود السقوط مطراً
تغيب الشمس، فيما وجهكِ يظهر أمامي ممتلئاً بنتوءات الحرب.

********

دورانٌ هائلٌ عن رحلة البحثِ في وجهكِ المغمّس بالشظايا وبقايا الغبار المتصاعدِ من الإسمنت النازل.
الدورانُ - حسبما أعتقد - ليس بحثاً في وجهك، بل ربّما هو - كما أخبرتني عرّافة الكورنيش الجنوبي الرابضة بالقرب من مقهى The View-دعساتٌ ناقصةٌ كثيرةٌ لحرقِ ما أمكنَ من هذا التغميس.
ليسَ صحيحاً ما قيل بأنّي أردتُ أن أدعسَ هذه الدعساتُ منصهراً بك
بل إنّي أخرج جسدي الآخر من جسدي عموديّاً من الرأس حتّى القدمين.

********

الجسدُ يختفي خلفَ قضبانٍ اسمنتيّةٍ صغيرةٍ في مدينةٍ لا يمكنُ للدمِ أن يقفزَ خلفها.
الجسدُ مدينةٌ لا نعرفها - كبيرة.
ما يشغلني فقط خلال هذا الوقت هو كيفية اقناع نفسي أنّ هذه الغيومُ دخانُ سجائر بعض القتلى، هم يدخلونَ إليهِ لا يخرجونه منهم.
أردتُ كثيراً أن أغنّي: أن أنشّزَ بصوتي لئلا يبقى في رأسي هدهداً واحداً من الذين حملوا أصوات تباعدنا عبر 150 ميلاً.
"عند أبواب المدينة ينتهي النسيان
وأنا والليل، أنا والقرصان
والمحبون على أرصفة البحر بحار من سكينة
تركوا الشارع يبكي تركوا الأرض الحزينة
والمصابيح الحزينة
أبحروا صاروا سفينة"
هؤلاء هم المحبون، وأنا قبل 3 سنوات.
أمّا الآن فلست واحداً منهم، لأن الدم كان صوتي
ما خرجَ مني كان قطعاً من اللحمِ الأحمر النيء وقطيعاً من أغاني الموتى، هذا القطيع الممتدّ كمياه عين بسنادا في جسدي.
كنت محضَ عابرٍ تافه
آكلٍ تافه
شاربٍ تافه
مستمعٍ تافه
إلى أن تصلَ الأغنية في مذياع السيارة إلى هذا المقطع:
"أترى نحن الـ هربنا
أم تراها هربت فينا المدينة"
حسناً، سأقول إنّي تذكّرتُ لأوّل مرّةٍ حين ناديتكِ على الهاتف باسمك المحبّب لي "تولا" فأجبتني "ألبا". قلت إنّك تتعمّدين استخدام الألف لتجعليني أرتفع كيلا أُحاصر. ها أنا أقوم بحصارٍ على طريقتي: أُمسكُ بأوّل كلمةٍ قلتها لك وأسحبها إليّ كمن يضبّ حبلاً لأمسك بالأخيرة وألصق البداية والنهاية معاً، هكذا تكتملُ دائرة الحكاية وأنا خارجها، داخلها جسدي الآخر الذي آثر أن يبقى في اللاذقية، داخلها الدمُ الذي قال إنّي لم أمت طيلة هذه الفترة.
لحظة لحظة:
"فتعاااااااااااااااااال
تعااااااااااال
قبل أن ينهزم الليل وتنهار الظلال"
كيف تريدين لهذا الظلّ أن ينهار؟
لم يبقَ لي ولكِ ولأمثالنا من حمقى مكان يمكنهم أن يتركوا فيه تلفوناتهم دون انترنت سواه.
"الكلام هو خيانة المكان"
الكلامُ جسدٌ لآخرنا
لهذا حاولتُ أن أتكلّم فوق طاقتي، لهذا لوحتُ للحجر الأبيض الذي جلستِ عليهِ تنتظرينني، وكأنّي لا ألوّح إلا لك.
أمرّ في بسنادا، الدعتور، قنينص...كلها أماكن قالت لي احدى الصديقات إنّ دخولها كتقطيع لحمِ ثورٍ عجوز/
كنت في الحقيقة أطاردُ وجهكِ لأطرده، يبدو هكذا.
تنتهي الأغنية وتبدأ أخرى، يخرج آخري كليّاً، يغادر أحدهما ويلوّحُ للآخر الباقي في اللاذقية قائلاً له: "دير بالك ع بتول". بينما كانت الأغنية في المذياع تقول:
"مين قلك
تفتح كل شبابيك سوى
ما تعرف أيا هوى تختار
مين قلك
ترمي شراعك لآخر مدى
ما تنطر حدا هالعمر مشوار".

*******

كم ضيقةٌ هذه المدينة على أحلامنا
كم نحن ضيقون
كم ضاق الزمن في لحظة العبور
كم...


بهاء إيعالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى