علي السعيدي - عباس.. قصة قصيرة

التّاسعة مساءً… أمر غريب ! لم يعتد العودة في مثل هذا الوقت المبكّر أو قبله، ما أصابه؟ أتراه لا يملك ثمن زجاجة الخمر أم أنّ في رأسه فكرة ما تستدعي الوقت والتركيز؟.
بحذر تقدّم على أطراف اصابعه نحو قنديل الإنارة وأناره بهدوء وصمت، للمرّة الأولى يبدو هادئا هكذا ، للمرّة الأولى يحسب حسابا لأهل البيت النائمين، كيف نسمّي عبارته الّتي يردّدها كلّ ليلة حين يعود؟ كفى أيها البهائم. لقد اعتادت شقيقاته أن يصحين على هذا الصّوت المدوّي الّذي تكاد تهتز له أركان البيت الخشبيّ، فيسارعن لتلبية حاجاته، واحدة تحضر ملابسه وهي على أيّة حال ليست أفضل حالا ممّا يرتدي وأخرى تصبّ له الماء، وأخرى تهيّئ له طعام العشاء أو شيئا من ذلك.
أمّا امّه المسكينة فبرغم حاجتها الماسّة للنوم، إلاّ أنّها تقصي معه سحابة الليل تهدّئ من ثورته الّتي لا تعرف لها سببا، ولا تملك أن تسأله تفسيرا. تمدّد على سريره الصندوق الخشبي فهو لا ينام على الأرض كأمّه وشقيقاته ومن حقّه الاستئثار بهذه “المنزلة الرّفيعة” أوليس هو ربّ العائلة الّذي يكدّ ويكدح طول النّهار ليوفّر لها ضرورات الحياة؟
– ما ذاك الّذي سمعت يا عبّاس؟
– بعض العمّال يتهامسون بأنّك في الأيّام الأخيرة تباشر عملك فاقدا لوعيك.
– ولكنّها همسات كيف تسنّى لك تمييزها؟
– عفوك سيّدي ولكنّي أؤدّي عملي بشكل صحيح وذلك يكفي.
– لا يمكن لسكران أن يؤدي عملا بشكل صحيح.
– أتظنّ أنّ صوت الحديد والنّار يبقيني فاقدا الوعي أكثر من ثلاث دقائق؟
– لا وقت للمناقشة إنّني أحذّرك من تكرار هذا العمل الفظيع ليرحم الله أباك، فقد كان رجلا مستقيما.
“الكريه، كيف يحدّثني بهذه الطريقة؟ يعتقد أنّه يملكني، هل يظنّ أنّي سأقبّل يده وجها وقفا لأنّه يدفع لي بعض الدّنانير القذرة فأنا حدّاد ماهر وأبواب العمل مفتوحة أمامي إن شئت”.
نهض حاملا قنديل الإنارة، وضعه قريبا من وجه أمّه وقد بدت كأنّها لم تنم منذ فترة طويلة ” وجهك شاحب وتنفّسك بطيء ونومك عميق .. يخيّل لي أنّي لم أرك منذ سنوات ، سامحيني يا أمّي فقد كنت اهرب منك طوال تلك السنوات. أعلم أنّك حين تجدينني قريبا منك ستعرضين عليّ علاّتك لن أقوى على سماع شكواك في وقت لا أملك فيه ما يدفع عنك عناءك”.
تجاوزها إلى شقيقاته، تأمّل في وجوههنّ بدهشة “أنتنّ تكبرن بسرعة ، لقد أصبحتنّ فتيات ناضجات كيف لم ألاحظ ذلك ، كان يجب أن تبقين فتيات صغيرات، فما عادت لي طاقة لمواجهة المزيد من المتاعب”.
أعرف أنّني لا أصلح ابنا ولا أخا، لكن ماذا بوسعي؟ هل انتحر؟ لو كان في ذلك ما يغيّر من الأمر لفعلت.. إلى متى أظلّ هاربا، مطاردا، إنّني أتعذّب، أتعذّب.
تأمّل في جدران الغرفة وقد غطاها بعشرات من الصّور لأبطال عالميين كان قد اقتطعها من صحف ومجلاّت مثيرة يحرص على اقتنائها بانتظام، بعضهم ممن أحرز بطولة العالم في كمال الأجسام ! وبعضهم في المصارعة وآخرون في الملاكمة وبعضهم ممن حطّم الرّقم القياسيّ في القدرة على الضّحك لمدّة ما أو القدرة على الصّمت لعدّة أيّام ، أو القدرة على تناول أكبر كميّة من الحلويّات ! تحسّس ذراعيه .. إنّهما هزيلتان وهشتان ترتجفان ضعفا وإغلالا. لا شكّ أنّ كلّ خليتين من خلاياها فجوة كبيرة كتلك الّتي أحسّها بيني وبين نزلاء هذا البيت”
زفر بعمق وحسرة وفتح المذياع على واحدة من الإذاعات المغتربة، وقد تسرّبت إليها روح الفكاهة، حتّى أنّها تناست أنّها خلقت وراءها في الأرض السّاخنة جرحا عميقا لا يحتمل المداعبة، ونفوسا مضطربة لا وقت لديها لتبادل المفارقات.
“أصدقاءنا في كلّ مكان، لحظات ونقدّم لكم مفاجأة البرنامج لهذا اليوم … إنّه الشّابّ الجريء “طوني” الّذي استطاع بمديته البسيطة أن يهزم عصابة اللصوص الّذين خاولوا سرقة بيته بالأمس ، سيتحدّث لكم “طوني” وسنترجم على الفور” تململت إحداهنّ ، اغلق المذياع حرصا على هذه الفرصة النّادرة للتّأمّل.
حمل قنديله ثانية وضعه قريبا من صورة عفا عليها الزمن، وقد تمزّقت أطرافها سامحك الله ما كان يجب أن ترحل مبكّرا لو أنّك انتظرت حتّى أتمّم دراستي لو أنّك …”
“هيّا أيّها البطل الصّغير، سترافقني إلى العمل… يجب أن تجيد صنعة ما تلجأ إليها وقت الحاجة.
ولكن … ألا أذهب إلى المدرسة؟
أنا لا أطلب منك العمل. فقط الحضور بين فترة وأخرى لمراقبة العمّل وتعلّم المهنة وذلك لن يؤثّر على سير دروسك.
حسنا يا أبي .. ومن سيتولّى تعليمي؟
المعلّم عبد الله، إنّه عام جيّد وحسن الخلق”.
لو أنّك تعلم يا أبي أنني أعمل الآن أجيرا لدى عبد الله بعد أن استحوذ على كلّ شيء، لا توبّخني فقد كنت وقتها صغيرا أتخبط في أمري جاهلا بشؤون الإدارة وعاجزا عن دفع أجور العمّال بانتظام.
ليس المحلّ وحده الّذي فقدته يا أبي، لقد قدت أشياء كثيرة خلال السنوات العشر فقدت نفسي وأمّي وشقيقاتي ومدرستي، وكلّ شيء، كلّ شيء” رفع يديه عن وجهه وقد تلوّثت بمخلفات العمل، انتصب واقفا عيناه تشتعلان غيظا وشررا، يداه ترتعشان، أمواج من الزرقة عبثت بوجهه، حبيبات من العرق باردة تتصبّب على جبينه، سيل من الزّبد يتصبّب من بين شفتيه المكتنزتين، بيد أن فكرة رهيبة داعبت أوتار عقله المثقل انتفض كالمجنون ليوقظ النّيام بحركات هستيريّة لا يعيها نهض الجميع وقوفا والهلع يتنازع نفوسهم.
“اِلزمن الهدوء، لا تبتن شفة، أحضرن ها هنا أربع بطانيات سميكة وبسرعة” لم تقو واحدة منهن على الحركة” ما بكنّ؟ ألم تسمعن ما قلت؟”
أربع بطانيات بالية عند قدميه أربع نساء واجمات بمواجهة عشرات من الهموم تأكل براسه وقنديل مضيء بجانبه.
أطفأ الشمعة وأخذ يصبّ ما في القنديل من نفط على جوانب البيت. لا واحدة تجرؤ على الاستفسار.
“حمدا لله إنّه العود الوحيد في علبة الكبريت. كأنّ الله أراد أن يبقى هذه اللحظة ليؤدّي مهمّته.. سأحرق همومي فقد آن لتلك السنوات أن تنتهي ولسنوات جديدة أن تبدأ”
أشعل عود الثقاب، لم يبق من طاقة للصمت، كسّرن الأوامر.
– ماذا تفعل؟ لا يا عبّاس.. لا تفعل، اين سنأوي؟
– أيتها الغبيات، سأصبح بطلا، ستتحدّث عنّي الصحف والإذاعات، سأحصل على عمل أفضل بأجر أفضل..
أوشك العود أن ينطفئ انتبه إليه رماه على الفور في أرض الحجرة.
برغم اللامبالاة التي اعتادها أبناء الجيران عند سماعهم الصّراخ المنبعث يوميا من هذا البيت، إلا أنهم تجمّعوا فقد كان صراخ هذا اليوم نسويا مصحوبا بالسنة من النيران لا شكّ إذن أنّ أمرا خطيرا قد حدث، خرج إليهم من بين النيران وقد كشف عن راسه وصدره، تلقّفوا المرأة الأولى من بين يديه عاد ليحضر الثانية والثالثة والرّابعة، لم يصبن بشيء فتخطيطه كان محكما وموفقا، لكن ما الأمر؟ أوشكت النار أن تنطفئ ولم تتراءَ له حتى الان عدسة مصور واحدة، تلقفت أذنه عبارة لطفلة صغيرة تخاطب أمّها بين الحشد، أنظري إليه يا أمّي إنّه بطل، سمع أمّها تجيب لهجة قويّة ليس بطلا يا بنيّتي، هذا ما يجب أن يفعله أي رجل مكانه.
في الصّباح توجّه إلى كشك لبيع الّحف وآثار حروق بسيطة توشّم جسده” لاشكّ أنّ ما حدث بالأمس سيتصدر صحف هذا اليوم كما حدث مع “طوني” لابدّ أنهم كتبوا في صدر الصّفحة الأولى بخطّ عريض غامق “الشاب البطل ينقذ عائلته من موت محقق” وربما كتبوا “عباس بطل مغمور” ابتاع عددا من الصحف ألقى بنظرات سريعة على عناوين مواضيعها كانت جميعا متشابهة تبدأ من شيء واحد وتتوزع بين “هجوم صربي على شمال سراييفو ، اسرائيل تهدد بوقف مفاوضات السلام مع فلسطين، أميركا ترفض رفع الحظر على العراق”
أصيب بخيبة أمل عظيمة، طأطأ رأسه توجّه إلى مكان ما غير محل الحدادة، الواحدة بعد منتصف الليل عاد إلى “مكان” بيته، خيمة بسيطة وحاجيات قليلة مما تبرعت بها بيوت الجيران
لا شكّ أن ذلك الفراش المبسوط على الأرض معدّ له.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى