مجهول - «محاولة عيش» عالم ينبعث من فضاء المدن السفلى، والهامش الاجتماعي..

محمد زفزاف وعالمه الإبداعي:
محمد زفزاف من الكتاب المغاربة الذين اختطوا لأنفسهم طريقة في الكتابة تميزوا بها عن سابقيهم وأضافوا من خلالها إلى مسار الرواية والقصة القصيرة المغربية. يمتاز العالم الإبداعي لمحمد زفزاف بعدد من الخصائص، منها ما فرضته المرحلة التاريخية التي مر بها المغرب بعد الاستقلال. ومنها ما فرضته الظروف الاجتماعية، ودرجة الوعي التي تحققت لدى الكتاب المغاربة بعد عودتهم من مراكز التحصيل العلمي في الشرق العربي كمصر وسوريا، ومراكز الغرب كفرنسا، وانفتاح الجامعة المغربية على أطر تشبعت بثقافة وممارسة مختلفتين.
وافق ظهور محمد زفزاف في الساحة الثقافية المغربية بداية الاستقلال. وتلك فترة فيها الكثير من الحماس الوطني لبناء المغرب الجديد. لكن الحماس الوطني لم يترجم حقيقة على الواقع بل خلق عددا من الأسئلة الجديدة التي لم تكن واردة أيام الفورة الوطنية والدفاع الوطني عن استقلال المغرب وتحريره من المستعمر الفرنسي (الحماية الفرنسية). ومن آثار إخفاق المشروع والأحلام الكبرى ظهر لدى الكتاب المغاربة مل إلى الالتزام الذي ظهرت بوادره في الأدب الفرنسي مع جون بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار. ولم يكن التيار الوجودي يعني فقط التزام الأدب بالواقع المعيش، كما في النظريات الأدبية والفكرية المادية التاريخية. بل كان مشوبا بحالة من القلق والسؤال حول الوجود والحقيقة. وهنا وجد عدد من الكتاب الشباب آنذاك عالما جديدا أوحى إليهم بإبداع جديد، وأتاح لهم فرصة التعبير عن رؤاهم الفكرية والإبداعية الجديدة. ومحمد زفزاف من هذا الجيل الذي التزم بالأدب كحياة وكقلق، كسؤال قلقٍ يبحث عن الحقيقة بين الناس؛ في الشارع، وبينهم وهم يحاولون العيش يصارعون من أجل من أجل الخبز والبقاء على قيد الوجود، بينهم في محنتهم الاجتماعية. ومحمد زفزاف وجيله من الأدباء والكتاب المغاربة، وكذلك العرب، ألزموا أنفسهم حقيقة تعرية الواقع الاجتماعي. والكتابة عن عالم المدن السفلى. أعني عن الناس البسطاء، أوليك الذين شغلهم الهم اليومي عن القضايا الكبرى. شغلهم البحث عن الطعام والمأوى عن قضايا الحياة الكريمة. عالم محمد زفزاف كما يبرز من خلال روايته «محاولة عيش» عالم ينبعث من فضاء المدن السفلى، والهامش الاجتماعي، و«أشخاصه» في الرواية واقعيون. قد لا نقول عنهم «شخصيات» ورقية لكثرة اقترابهم من الواقع، ووجود أمثالهم في الحياة.
2- الأوصاف السالبة: أهم ما يصف العالم الإبداعي محمد زفزاف في رواية "محاولة عيش"، كمدخل لتحليل النص ومكوناته: الأوصاف السالبة التي تؤطر المكان والشخصية الروائية وبالتالي الأفعال. 1.2- المكان: يعتبر المكان عند محمد زفزاف معادلا أدبيا للشخصية الروائية، لأنه حي وفاعل، من خلال مساهمته في تشكيل الفضاء الروائي، ومساهمته في تنامي السرد القصصي. والمكان في الرواية مكون من المكونات الأساس، له جماليته، ووظيفته السردية. لأنه يؤثر في الرؤية إلى العالم الروائي. ولهذا درس السرديون (منظرو السرد) المكان في أبعاده المختلفة: الاجتماعية، والأدبية، والهندسية، والوظيفية. ووجدوا أن المكان يرتبط بشكل وثيق برؤية الكاتب "زاوية ووجهة النظر". لأن الأبعاد الهندسية للمكان تحدد الأدوار والأفعال في القصة (Histoire). أي في تحديد طبيعة المتن القصصي. ومحمد زفزاف يولي المكان أهمية بالغة، سواء أ كان هذا المكان مفتوحا (الشارع، الغابة، شاطئ البحر...) أو كان مغلقا (الغرفة، الحانة، المقهى...). لكن الملفت للاهتمام في رواية "محاولة عيش" الأوصاف التي يسبغها الكاتب على فضاءاته، حتى تصبح أكثر ارتباطا بالغاية في الرواية. أي أكثر ارتباطا بأهداف المتن القصصي. وما دام محمد زفزاف قد اختار الكتابة عن العوالم السفلى للمدن المغربية فإن أحسن ما يمثل ذلك الأماكن المغلقة كالمقاهي والحانات، وأحياء الصفيح (البراكة)، والشوارع في الليل حيث يحتلها السكارى المعربدون واللصوص.
1.1.2- المكان المفتوح:
المكان المفتوح في الرواية لا يقوم بالتركيز على شخصية روائية بعينها بل يحاول الكاتب أن ينظر إلى الشخصية وهي في خضم الحياة، وفي علاقتها بالمحيط وبالناس. أي أن الشخصية الروائية مثل (حميد) في رواية «محاولة عيش» تكون جزءا من كل. ليس كما هو الحال في الأماكن المغلقة حيث يتم التركيز على الشخصية الروائية ومحاصرة أفعالها وسلوكها والنظر إلى خصوصياتها. إن النظر إلى الشخصية الروائية في الأماكن المفتوحة يؤثر على السرد، على الرؤية السردية للعمل الروائي فتصبح رؤية من الخلف، رؤية عامة. لأن السرد يراوح حينها بين نقل المكان وحركته، وبين العودة إلى الشخصية الروائية في نظرة من الخارج (Focalisation externe). حيث يكون تبئير الحكي والوصف خارجيا. والسارد لا يمكنه المشاركة أو التدخل لوصف مشاعر وأفكار وأحاسيس الشخصيات الروائية. لكن يمكنه فقط وصف التعابير الجسدية على الوجه والانفعالات (آثار الانفعال) على الجسد، كالبكاء، والدموع، والارتعاش، واحمرار الوجنتين.... والأماكن المفتوحة في رواية "محاولة عيش" تتمثل في الشارع والميناء والغابة. حيث تمارس الشخصية المحورية (حميد) عملها. لكن كما ذكرنا، يكون التركيز على الشخصية في هذه الأماكن المفتوحة عاما ولا يحدد خصوصيات أو أوصافا مميزة لها. لأن النظرة تكون خارجية. 2.1.2- الأماكن المغلقة: في الأماكن المغلقة مثل الغرفة (غرفة غنو)، البراكة (حي الصفيح) بين الأسرة والبراكة (= كوخ صفيح) الجديدة الخاصة باستقلال حميد بعد الزواج، والحانات والمقاهي، يكون التركيز منصبا على الشخصية الروائية. ويكون تحديد الأوصاف والأفعال بدقة أكثر. (لا فرق بين "التركيز" المصطلح الذي استعملته سيزا قاسم، و"التبئير" المصطلح الذي يستعمله سعيد يقطين، كترجمة للمصطلح الفرنسي: "Focalisation").
وهنا بالذات يمكن الحديث عن تواطؤ بين رؤية الكاتب إلى العالم، وبين الأماكن التي اختارها فضاءات للكتابة. فما دامت الغاية من الكتابة تعرية الحياة الهامشية وفضح أبعادها المغيبة في الكتابات الروائية والقصصية السابقة، فإن أفضل الأماكن تظل تلك التي يرتادها الناس تخفيا، كالحانات والمواخير والدروب الضيقة وأحياء القصدير التي يعمل على مواراتها خلف الأسوار العالية من الإسمنت. وكلها أماكن ذات صفات سالبة.
الشخصيات الروائية:
من أهم المكونات الأساسية في إنتاج وبناء العمل السردي؛ الشخصية الروائية والقصصية. لأنها العنصر الفاعل والمحرك للأحداث والمحفز على تنامي النص السردي (Texte narratif). وقد تم التحايل على مفهوم الشخصية الروائية لدى العديد من منظري الأدب، في محاولة منهم لتغيير البنية العامة والسائدة في بناء الشخصية الروائية. فسميت "العامل" و"الفاعل"، كما عمد البنيويون الجدد أو الروائيون الجدد إلى تفكيك مكوناتها وأبعادها وخصوصياتها إلى درجة محوها ومسخ ملامحها. ومما يضفي على الشخصية الروائية والقصصية الحيوية أبعادها المختلفة، وصفاتها المميزة، ووظيفتها الاجتماعية والفكرية...داخل واقع النص، وأفعالها. ومن الأبعاد التي تعطي الشخصية الروائية عمقا واتساعا؛ البعد الجواني المرتبط بمشاعر الشخصية الداخلية، وهواجسها وأفكارها الخاصة والحميمة. والبعد البراني، المرتبط بهيئة الشخصية ووضعيتها الخارجية. والبعد الاجتماعي الذي يحدد الوضعية التي توجد عليها الشخصية في عالم الحكاية (المتن القصصي). وإذا ما نظرنا في رواية محمد زفزاف "محاولة عيش" فإننا سنجده يولي الشخصية الروائية أهمية كبيرة، كما هي الحال بالنسبة للمكان. ولا يهمل محمد زفزاف التركيز على الأوصاف، وهي أوصاف سالبة (ناقصة) سواء من خلال الاسم أو الكنية واللقب. أو من خلال التركيز على العيوب الخارجية الخِلْقية. ويعطي محمد زفزاف الأولوية للبعد الاجتماعي. وهو في هذا لا يختلف عن جيله ورفاق دربه (إدريس الخوري، والمرحوم محمد شكري). فالأدب بالنسبة لهم التزام وتعرية للعيوب الاجتماعية، وارتباط بالواقع والحياة. ودائما مع التركيز على البعد النقدي في الكتابة. نقد المجتمع وسلوك الناس.
1.2.2- أنماط الشخصيات الروائية: في رواية "محاولة عيش" يصنف محمد زفزاف شخصيات الرواية إلى:
1- البطل السالب: وهو الشخصية المحورية التي تتنامى عبر السرد قصة حياتها، ويعطيها الكاتب اسما محددا (حميد)، ووظيفة اجتماعية (بائع صحف متجول)، وسلوكا خاصا (قبل وبعد التعرف على الذات واكتشافها من خلال العلاقة ب (غنو)، أو علاقة الخطوبة بشخصية (فيطونة)...). قبل هاتين العلاقتين (التجربتين في الحياة) كان حميد شخصية رزينة خاضعة مستسلمة لقدرها. وبعدهما أصبح له كيانه وامتلك لسانه من جديد. يقول الأم في النص:"...إن هناك شيئا ما يدور في رأسه، لقد تغير كثيرا. فكرت أن الرجل عندما تتغير عادته، فإنما المرأة هي التي تفعل به ذلك..." ويضيف النص:" لكنها مع ذلك تريد أن تعرف كل شيء. خشيت أن تكون هناك امرأة أخرى غير فيطونة، النساء حراميات، أحابيلهن كثيرة، لكن حميد لم يعد يصمت ويحني رأسه مثل عجل، أصبح الآن يواجه أباه وأمه. يرفع عينيه في أعينهما. يستطيع أن يكذب بثقة." ص (155). (والبطل السالب: شخصية رئيسية (محورية) مناقضة لشخصية البطل. ولا تحمل أية خصائص مميزة للبطل التقليدي، كالشجاعة والأفعال الخارقة. بينما البطل؛ شخصية خرافية أو عادية تمتلك صفات مميزة وهو شخصية محورية ورئيسية في الحكاية. ومن صفات البطل التقليدي القدرة الخارقة والإقدام والشجاعة..). وإذا كانت الأوصاف سالبة بالنسبة لباقي الشخصيات الروائية فإن محمد زفزاف استثنى منها شخصيتين: شخصية حميد المحورية، بعد التعرف على الذات من خلال تجربة الحياة، وشخصية غنو في مواقفها الإنسانية رغم أنها في الواقع الافتراضي للحكاية مجرد بغي تقتات على جسدها. إلا أن الكاتب جعل قصتها سرا، لمح إليه دون تصريح. وهو في ذلك يلتزم بجوهر الخطاطة التي رسمها لروايته. حتى لا يتحول من التركيز على حكاية (حميد) إلى حكايات صغرى جانبية كما يفعل كتاب تجريبيون آخرون. يقول السارد ملمحا لحكاية (غنو) الصغرى:"...إنها قذرة فعلا، كوخنا في العوامرة أحسن من أية براكة من تلك البراريك. لو لم تقع تلك الحادثة لكنت بقيت مع أبي وأمي وإخوتي. العوامرة أفضل لي بكثير.
كانت تتحدث كما لو كانت تهذي، حميد يستمع إليها، يندهش، لا شك أن وراء كل فتاة من هذا النوع حادثة. قال حميد: - أية حادثة ؟ - لا يهم، فعلها ولد الريس فهربت بنفسي، إنك متعب. حاول أن تنام. لا أريد أن أتكلم أكثر." ص.ص (151.150). يكشف محمد زفزاف عن خبايا الشخصية بالتلميح للحادثة، وبالتصريح بالرغبة في العودة إلى الدفء الأسري والاجتماعي. ورفض الشخصية الروائية للوضعية المزرية التي تعيشها والتي كان السبب فيها ذلك الحادث اللا إرادي. (...)
بناء الرواية:
أصبح الآن تعبيرا الخطاب (Discours) والقصة (Histoire) أكثر وضوحا بعد جهود جيرار جنيت، ومحللي الخطاب السردي. وإذا كان الخطاب يقصد به الصيغة التي تنظم بها أحداث الحكاية، فإن القصة هي المتن الحكائي. وهنا سنقف عند (القصة) كمتن حكائي. ونبرز الطريقة التي قام فيها الكاتب بتنظيم الأحداث والوقائع حتى يتمكن من بناء خطابه الروائي. محمد زفزاف من الكتاب الواقعيين الملتزمين بوظيفة الأدب الاجتماعية. وطريقته في الكتابة لم تخضع للتجريب. بل اكتفت بالاحتفاء بالقصة في تراتبيتها. وتنامي أحداثها تناميا مطردا. وروايته "محاولة عيش" نموذج للقصة المنظمة المطردة البناء. 1.3- الفصول: بنى محمد زفزاف متنه الحكائي على مدى اثني عشر فصلا، كالتالي: * في المرسى، وعلى ظهر الباخرة. * الحصول على عمل كبائع صحف متجول. * كسب المال وتغير أحوال الأب والأم. * في حانة "وهران بار". * مطعم "المادريغال" وصاحبته اليهودية. * في مقهى "الأركاد"
* زيارة المقدم وأزمة "البراكة". * إدعاء وافتراء الزوجة (الأم) على الجارات. * خطبة فيطونة لحميد. * حميد وغنو. * إنسانية غنو ليلة زفاف حميد. * مفاجأة ليلة الدخلة.
2.3- بناء القصة:
يبني محمد زفزاف القصة (المتن الحكائي) بطريقة متواترة الأحداث. وهو في ذلك يخلص للقصة أكثر من خوضه في التجريب القصصي الذي بدأ وقتها في المغرب يشهد حضورا خاصا على يد عدد من الكتاب أذكر منهم أحمد بوزفور، ومحمد عز الدين التازي، وأحمد المديني...ومحمد زفزاف يشكل في هذا الاتجاه جيلا مع صديقيه المرحوم محمد شكري، وإدريس الخوري حفظه الله ورعاه. والقصة عندهم التزام أخلاقي وأدبي تجاه الواقع والفئات البسيطة التي لا لسان لها، كما يقول إدريس الخوري. فالكاتب لسان من لا لسان لهم. ينوب عنهم ، وينقل همومهم. وبالتالي يشاركهم حياتهم ومشاغلهم، ويصور أوضاعهم البائسة. من هنا يمكن للقارئ والدارس الوقوف على سيرة حياة (حميد) ضمن القصة «المتن الحكائي». سيرة حميد وهو يحاول أن يكون له حضور ووجود في هذا العالم الواسع القاسي. لكنه يفشل في تحقيق ذلك الوجود. والأسباب مختلفة أهمها طبيعة شخصية حميد التي حددها الكاتب محمد زفزاف بدقة متناهية. تعبيرا عن وجود فئات أثقل عليها القهر حتى محا وجودها وطمس معالم شخصيتها. ولهذا وصفناه بالبطل الفاشل، أو مضاد البطل "Antihéros" كما في التحليل السردي للرواية والقصة القصيرة.
فحميد كما بينا لا يحمل أية خاصية أو صفة مميزة من خاصيات ومميزات البطل التقليدي كالشجاعة والإقدام وروح المغامرة. بل عكس ذلك، حميد شخصية، كما يصورها محمد زفزاف في الرواية، مسالمة سالبة لا رأي ولا موقف لها. لا رأي ولا موقف له من زواج، من فيطونة، من غنو، من العمل، من الحياة. يخفض عينيه كلما أهانه أحد (أمه، والده، زملاؤه، شرطي الحراسة في الميناء...). يحب (غنو) لإنسانيتها ولكنه لا يقوى على الارتباط بها لوضعيتها، ولخطبته من (فيطونة) دون رغبته أو رأيه. يأخذ منه الحارس نقوده وشرطي آخر الملابس التي منحتها له المرأة اليهودية فلا يجد في نفسه قوة على الردع سوى الاستسلام والهروب.يقول النص:"
- إيه أنت! تعال، ماذا تحمل تحت إبطك ؟
- صحف.
- الأشياء الأخرى تحت إبطك ؟
- ثياب.
- أرني تلك الثياب.
مد حميد الحزمة للشرطي. أخذ هذا الأخير ينشرها في الفضاء أمامه ويتأملها قطعة قطعة ثلاثة أقمصة وسروال، خطرت للشرطي فكرة:
- من أي سطح عمارة سرقتها ؟
- والله لم أسرقها، أعطتها لي اليهودية، إنها تسكن في هذه العمارة.
- اسكت يا كلب. إني أعرف أمثالك، الشكوى في المركز كثرت من كثرة سرقة السطوح. قل لي من أي سطح سرقتها؟
- أقسم لك. لم أسرقها، أعطتها لي اليهودية.
- اسكت لا تفتح فمك القذر.
جمع الشرطي الثياب تحت إبطه. ترك الدراجة متكئة على عمود كهربائي. وقال لحميد:
- انتظر هنا، سأتلفن للمركز حتى تأتي سيارة الشرطة لتأخذك أيها اللص.
دخل الشرطي إلى أقرب محل ليتلفن. وقف حميد لحظة يفكر فيما يفعل. لم يكن في مستطاعه إقناع الشرطي، إنهم قذرون، فهم أن الشرطي لابد أن يبتز منه تلك الأثواب. أخذ يجيل النظر حوله، ثم أسعفته البديهة وأطلق رجليه للريح. كان يركض لينجو بنفسه." ص. ص (121.120). إنها بعض الصفات السالبة التي تحدد ملامح الشخصية. وبالتالي تؤثر على نماء القصة، وتحدد قصديتها. المغامرة الوحيدة التي قام بها، كان لها تأثير إيجابي عليه، هي نجدته لغنو، وارتباطه بها. ذلك الارتباط الذي جعله يكتشف ذاته من جديد. ومن هنا تكون (غنو) شخصية فاعلة وهامة في تطوير تنامي النص السردي. وبناء الحكاية المركزية، وتحديد التغييرات الأساس في شخصية حميد. أما تغير أحواله مع والديه فكان نتيجة تأثير غنو فيه، واكتشافه لذاته. وتتدفق القصة (المتن الحكائي) مطردة متواترة متسلسلة: الحصول على العمل، تغير أحوال الوالدين ومعاملتهم لحميد، بناء البراكة وخطبة فيطونة، الاستعداد للزفاف، مفاجأة ليلة الدخلة.
3.3- بناء الخطاب: تعد القصة مادة الرواية. وهي مكون له بناؤه الداخلي والخارجي الخاص، الذي يخضع لرؤية الكاتب (وجهة النظر- Point de vue). ويقصد بها: الزاوية التي من خلالها يتكون الحكي. وتنقسم وجهة النظر إلى ثلاثة أنواع: وجهة النظر الداخلية، ووجهة النظر الخارجية، ثم وجهة النظر الكلية. ويقابل كل واحدة منها تبئير محدد على التوالي: تبئير داخلي، وتبئير خارجي، ثم التبئير الصفر (Focalisation zéro). والخطاب الروائي عند محمد زفزاف يراوح بين وجهة النظر الخارجية، عندما يرصد الكاتب الشخصية الروائية (حميد) من الخارج. ولا يسمح لنفسه بالتدخل في تشريح أو تفسير الخبايا النفسية للشخصية سوى تلك التي تظهر على سلوك (حميد) أو ترتسم على ملامح وجهه. ويراوح بين وجهة النظر الكلية التي تصبح فيها الرؤية والتبئير في الدرجة الصفر. والكاتب يتساوى مع الشخصية الروائية في المعرفة. وإذا عدنا إلى البناء الخارجي للحكاية، المسمى خطابا (بعض المنظرين يساوون بين مفهومي الحكي "Récit" والخطاب "Discours" ) نجد الكاتب قد غير في بناء القصة "Histoire". فبدأ بالمحيط العام والمكان المنفتح (المرسى)، وسرد كل ما يحدث من عنف واعتداء وخوف وتربص وتريث وحذر، وصراع الشرطة مع المشردين واللصوص والباعة المتجولين الذين يبحثون عن فرصة دخول البواخر الراسية بالميناء. من أجل الحصول على بعض الدولارات الأمريكية أو بعض الأغراض كالملابس وغيرها. إنه مدخل عام يعرض الأجواء العامة التي ستنتج ضمنها خيوط الحكاية. الفصول المتبقية لا تختلف عن البناء الداخلي للقصة. أي أن الخطاب هنا يوازي القصة. وهذه صفة من صفات القصص والروايات الواقعية التي تحتكم إلى التسلسل المنطقي للأحداث. وبالتالي التسلسل المنطقي لخط الكتابة. ومحمد زفزاف وجيله ممن رسموا ملامح الاتجاه الواقعي الانتقادي في الرواية المغربية يؤمنون بخطية الحكاية. وبأولوية القصة على الخطاب. ولكن يمكن الحديث هنا، وخصوصا عند محمد زفزاف، عن اجتهادات إضافية مرتبطة بتوسيع أطراف القصة ببعض الإشارات والتلميحات وليس ببعض القصص والحكايات الصغرى الضمنية. مثل التلميح إلى الحادثة التي دفعت (غنو) إلى مغادرة دوارها بالعوامرة واللجوء إلى احتراف الجسد بالمدينة (القنيطرة). ومن اجتهادات هذا التيار الواقعي المغربي تطويع اللغة القصصية والروائية. فلا يمكن للخطاب الروائي أن يعبر عن الأهداف العامة التي رسمها الرواد في هذا الميدان دون تطويع اللغة القصصية لتصبح أكثر تعبيرا عن الواقع والهامش والفئات المستضعفة في الأرض. أولئك الذين لا لسان لهم. أولئك الذين ألجم الخبز لسانهم وحد من طموحاتهم. ويتمثل تطويع اللغة في خلق لغة وسط تمتاح من الفصحى والعامية. لأن الشخصيات في عالم "محاولة عيش" بسيطة التكوين. تبيع الصحف لكن لا تقرؤها. ولا يتم خلال الرواية الحديث عن التعليم أو تعلم الشخصيات الروائية. إنها شخصيات تحاول أن تعيش. أما سؤال الحياة بكرامة فذلك بعيد المنال.
البعد الاجتماعي والتربوي:
الأدب عند محمد زفزاف ذو وظيفة اجتماعية. والوظائف الاجتماعية كثيرة ومنها الوظيفة الجمالية والتربوية والمعرفية. فما هي المعرفة التي يقدمها لنا محمد زفزاف في "محاولة عيش" ؟ وما هي القيمة التربوية التي نجدها في الرواية ؟ يقدم محمد زفزاف من خلال رواية "محاولة عيش" معرفة اجتماعية مهمة. وأهميتها تتمثل أولا في كشف الغطاء عن فئة اجتماعية هامشية مهملة، لم يكن مسموحا لها بدخول عالم الكتابة. وكانت تعتبر غير قابلة لدخول المتخيل الأدبي. لأنها وعالمها الذي تعيشه لا يقدمان فائدة معرفية أو قيمة جمالية للقارئ. وحتى عندما يتم الحديث عنها (الفئة الدنيا) في الأدب العالمي (الواقعي والعاطفي) فإنما لاستدرار العواطف، والتأسي على البؤس وأحوال الموت البطيء للإنسان (بؤساء فيكتور هوجو،بدون عائلة لهيكور مالو، و في السجن قصص قصيرة لماكسيم غوركي...). بينما في أدب الواقعية الاجتماعية حيث انتقاد الأوضاع البائسة للفئات الاجتماعية الدنيا فإن الغاية من حضور الفقر وكل أشكال العنف الاجتماعي والانحرافات، تتمثل في فك نظام الحياة وطريقة عيش ومنطق تفكير. وهنا القيمة المعرفية. فما كان يثير العاطفة بالأمس أصبح اليوم يستدعي التفكير والتدبير من أجل فهم الظاهرة والبحث لها عن حلول ممكنة. ومحمد زفزاف خير من حدد الظاهرة إبداعيا وكشف عن نظام العلاقات داخل بنيتها الاجتماعية المغلقة. فالكتابة في رواية «محاولة عيش» عن (حميد) ومجتمع السكارى والمنحرفين، وعالم "أحياء الصفيح" لا يريد إثارة عاطفة لدى القارئ بل يريد أن يعري واقعا قائما بذاته. وقد اعتمد محمد زفزاف على الأوصاف الناقصة والسالبة للشخصيات (الأعرج، المسلول، الكسول، السليط اللسان...)، وعلى نمط العلاقات بين سكان دور الصفيح (حديث الجارات، إدعاؤهن، النميمة والغيبة...)، وعلى الوظائف الاجتماعية البائسة (خادمة، بغي، عاطلة، بائع صحف...)، وعلى الأماكن السفلى (البراكة، الحانة، الغرفة الضيقة...)، وعلى السلوك الشاذ المنحرف (المرتشي، الجبار المعتدي...). إنه عالم يقوم على نظام خاص، وليس حالة تستدعي العاطفة الإنسانية. أما القيمة التربوية فجليلة ويمكن الوقوف عليها من خلال دراسة، كما حاولنا، شخصيتي (حميد) و(غنو). لأن الأول ضحية تربية والديه: الأب الكسول الذي لم يقم بدوره في توجيه الابن وإعطاء المثال على الجد والعمل من أجل الخروج من وضعية الفاقة والعوز. والأم، التي تهين الأب وتعيره بكسله أمام أبنائه. و(غنو) التي تظهر في الرواية (القصة:المتن الحكائي) كنتيجة لحادث طارئ، اجتماعي، أخلاقي. أما معدنها المختلف تعلن عنه من خلال عدم رضاها عن العمل الذي فرض عليها، وتحترفه. ومن خلال حسن معاملتها لحميد (منقذها، ومخلصها) وتقديمها الإسورة له ليلة زفافه.
(٭) إشارة:
* محمد زفزاف: الأعمال الكاملة.2.الروايات. منشورات وزارة الشؤون الثقافية. ط1. 1999م.

ــــــــــــ
الكاتب: ؟
المصدر: الاتحاد الاشتراكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى