كتاب كامل جورج سلوم - الفصل الرابع من رواية عنق الزجاجة

الفصل الرابع -

استعطاف وانعطاف



في مشوار المساء الذي صار اعتيادياً كنوعٍ من العلاج الفيزيائي لقلبه المُجهَد يسيران معاً على غير هدى وبغيرِ هدفٍ مُعلَن ..

كأنّها ممرّضة طُلِبَ إليها تحريك المريض في حديقة المشفى بعد الجراحة ! ..وقد تساير الممرّضة مريضاً لا تعرف منه إلا اسمه ، لذا ينتفي الحديث بينهما إلا من ابتساماتٍ سطحية ..تسايره خطوة بخطوة ..ولا يجمعهما معاً إلا الأوامر التي صدرت بأنْ يسيرا معاً.

وتبتسم الممرضة لكلّ خطوة يخطوها المريض لأنّ عمليّته الجراحية قد نجحت ..ويبتسم المريض ويسعد لأنه يُمسِكُ بيدها فلا يفلتها ، ويتمنّى ألا تنتهي رياضته..يشتهي أن يقع فتلملم أشتاته ..تحتضنه ..تحاول أن تحمله فلا تقدر ..تجرجره إلى أقرب مقعدٍ خائفةً عليه ..يختنق فتجري له تنفّساً اصطناعياً فمَاً لفم فلا يصحو ..فينقلب شعرها على وجهه وتضخّ أنفاسها في صدره ..ولا يصحو ..وعندها ستستنجد بالطبيب فيصحو قبل أن يصل!



تتأبّطه ويستند إليها كي لا يقعْ ..ولو تركته سيترنّح وقد يسقط .. كأنّه طفلٌ تعلّمه المشي في خطواته الأولى ..كالأم الحنون ، وينتظر منها قطعة الحلوى لو أكمَلَ مشوارَه ..ولا حلوى لديها - تلك الأم- وتعرف أنّ جائزته التي يرجوها أن تصل معه إلى شقّته فقط .

هناك يريد أن يأكل الحلوى من عنق زجاجتها !

تبّاً لكَ ولمشاويركَ المفخّخة .



وكانت تنظر في ساعة يدها وكأنّها تقول له أنها تأخّرت عن أهلها ..وتخيّلت أمَّها تنظر إلى ساعة الجدار بعين ..والعين الأخرى على الباب الذي يجب أن ينفتح الآن وتدخل منه ابنتها مُتعَبةً مهمومة ..وكأنها مُذنِبة .

وتعرف البنت أنّ والدتَها القلقة تُرهِفُ السمع لتتبيّن خطوات ابنتها على الدرج صاعدةً ، والبنت تخبِطُ الدّرجات بكعبها تخبيطاً عندما تصعد إلى بيتها في استباقٍ لمنحِ الأمان لمسمعِ الأم المتيقّط وقلبِها الواجف ..عندها فقط تغمض الأم أجفانها وتستسلم للنوم ، فقد دخلت العصفورة إلى العشّ.



مشاويرُهما المشتركة ما منحتها السعادة المرجوّة ..كأنّها واجبٌ عليها مفروضٌ فرضاً..لذا صارت ترى الوقتَ طويلاً ..والحديثَ مملّاً مكرّراً .. ليس كأيّ حديثٍ بين خطيبَين .. بل أشبه بأحاديث زوجين عتيقين اصطدما بجدار التدبير المنزليّ والترشيد الماليّ ففضلا السكوت كي لا يتصايحان في قارعة الطريق ..لذا أكثرت من مراقبتها لعقارب الوقت التي بدت لها بطيئة الدوران ، وكأنّ ساعتها أصابَها عُطلٌ ما فتسأله عن الوقت في ساعته .



وهو يفهم أنّ نظراتها المتكرّرة إلى ساعة يدها إيذانٌ بانتهاء المشوار .. لكنّه قال:

-ها وقد صرنا قريبين من شقّتي ..أفلا تكحّلين أعتابَها بقدميكِ ؟



لكنّها انعطفَتْ عنه ولم تبالِ باستعطافه ..أفلتته وقفَلَتْ راجعة إلى بيتها ..هي تعرف ما يريد وتعرف أنه يقترب بها كلّ مساء من بيته رويداً رويداً .. وعلى سياسة الخطوة خطوة ..وكلّ مترٍ يتقدّم به معها يعتبره إنجازَه اليوميّ .. ويخفق قلبها إذ ترى طريقَها يضيق شيئاً فشيئاً ..إنه يدفعُها أو يجذبها إلى عنق الزجاجة ولا تريد العبورَ منه الآن ..وما حان وقته فالقصّة على ما يبدو طويلة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى