جودت جالي - المثلي.. قصة قصيرة

كانوا يعطون كلا منا علبة سجائر أسبوعيا، تنتهي خلال يومين أو ثلاثة ونحن آنذاك في معسكر، ربما شغله حراس الحدود سابقا، في مكان منقطع عن كل شيء على الحدود البلغارية مع صربيا. يجهزوننا ببعض الطعام ومستلزمات النظافة، ولدينا من الوقت أكثر من اللازم، نحن القادمون من بلدان عربية وأفريقية شتى، لنقضي الوقت نتمشى في الساحة المسيجة بالصفيح المغلْوَن، تحت سماء تحيط زرقتها جبالٌ يخيل إلي أني يمكنني في الأيام المشمسة أن أمد يدي وألمس صخورها وأشجارها ذات الألوان الخريفية. ثلاثة جمعتنا تلك الغرفة دون سابق معرفة، أنا وعيسى والذي سأسميه (سين)، يشغلنا التفكير بمصيرنا أكثر مما تشغلنا قلة الطعام والسجائر.

قال عيسى «إذا لم يسمحوا لنا بالعبور هذه الايام قد لا نستطيع أبدا. يقولون هناك مشاكل وربما تقوم حرب أهلية». فقال له سين ساخرا «وما هي وكالة الأنباء التي سمعت منها؟» نظر اليه عيسى بانزعاج وهو يراه يدخن بارتخاء واستمتاع، متمددا على سريره، واضعا يدا تحت رأسه فيما يضع بين أصابع اليد الأخرى سيجارته وينظر الى السقف غير مبالٍ بعذابنا ونحن نتحسر على عقب سيجارة. أضاف عيسى «كل المعسكر يعرف. لا تتمظهر علينا بهدوئك. ربما تمنع صربيا أي مسلم من عبور أراضيها». قلت ﻠسين «هيا أعطنا من سجائرك سيجارتين ولا تكن لئيما». قال دون أن تتغير قسمات وجهه «لو تطلع روحاكما. أنتما تخشنان القول لي دائما بشأن الكثير من الأمور التافهة». قال عيسى «أتركه! هذا يريد أن نخدمه مقابل بعض السجائر اللعينة».

لم أحنق عليه ولكني كنت أتألم كلما اقتطعت قصاصة من دفتري الصغير، الذي أسجل فيه خواطري، لألف سيجارة من حفنة تبغ حصلنا عليها إذ لم أستسغ لف السيجارة بورق صحف ومجلات قديمة وجدناها في المكان. أما هو فقد كان ثعلبا ولم أعرف كيف يحصل على حصة مضاعفة، الى أن شاهدته غير مرة واقفا في ناحية بعيدة من السياج يتحدث مع شابة من المهاجرات تقف في الجانب الآخر في القسم المخصص للنساء. لقد عثر على جانب من صفيحة يمكنه أن يدفعه على قدر فتحة صغيرة ثم يعيده. كان الاتصال بالنساء ممنوعا، ولكنه تدبر أمره، وعندما شاهدته يتحدث معها أول مرة لم أتبين أنها امرأة حتى اقتربت منهما لكني تراجعت فورا. أعترف أن سين كان وسيما حقا والفتاة، التي لم أعرف من أين هي، جميلة برغم ما يبدو من هزال على وجهها الظاهر من الفتحة التي يدير لها ظهره للتمويه. ربما كانت تدعي أنها مدخنة لتستلم له حصة. ثم تبين لي أن السجائر ليست الشيء الوحيد الذي حصل عليه منها.

«يقال أن لاجئين يعبرون بالرشوة يوميا بالحافلات المريحة من نقطة على الحدود في الجانب الآخر من هذه الجبال أمام أنظار الحراس، ونحن أتى بنا حظنا العاثر من هذا الطريق وحبسونا في معسكر تزورنا فيه كل شهر لجنة لا تعطي تصريحا لأحد». لم يكن سين حاضرا ليسمع نواح عيسى هذا، ولكنه «اقتحم» علينا الغرفة بعد قليل وهو يلهث: «جاءت اللجنة!» هز عيسى يده هازئا «اللجنة،هه.. أقبض!». جلس سين وأخذ يتحسس شيئا في جيب داخلي. «لكني سأعبر اليوم فيما ستقضيان الشتاء هنا». قلت «كيف وهم لا يصرّحون بالعبور الى الآن حتى للسياسيين؟» ضحك «سياسيون لاجئون! هذه لا تمشي هنا، ستريان ما الذي يمشي!» ودون مزيد من الايضاح ألقى بما بقي من سيجارته وأخرج مرآة وعقبيْ قلمِ حمرةٍ وقلم كحل. حمّر شفتيه ثم كحّل عينيه ومسح خديه بقليل من أحمر الشفاه. نظرنا اليه مندهشين، والحق أقول لكم، صار شكله أنثويا تماما. «ماذا تنوي أن تفعل؟» وضحكنا من القلب. هز رأسه ساخرا من ضيق أفقنا. لم نعرف ماذا كان ينوي أن يفعل بالضبط إلا حين دخل على اللجنة أمام ذهول المحتجزين الآخرين الواقفين معنا في الطابور، ومما سمعناه يقوله للمترجم «أنا مثلي، وفي بلدي يتعرض المثليون الى المضايقات وحتى القتل....». سمعنا ضربة ختم القاضي على أوراقه. خرج الينا بابتسامةٍ عريضةٍ محمَّرةٍ جعلتها تكشيرته بمنتهى القبح فيما كنا، أنا وعيسى، ننظر اليه كالعادة بحقد تخالطه الحسرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى