ماماس أمرير - لقاء.. قصة قصيرة

أخيرا....
وصل ماسين حسب الموعد المحدد الذي تعودنا أن نلتقي فيه
لملمت شجوني كلها في مصافحة يده الدافئة.
دائما كنت أسبقه إلى الموعد دون أن أحس بأي إحراج.
لم يكن يشعرني بأنني عليّ أن أخفي مشاعري نحوه أو أندم عليها أو أتصنع الدلال والمكر... كان أيضا يعبر عن مشاعره بصدق وطلاقة نفسية سليمة، كان لا يؤمن بالعلاقة الهرمية، ويعتبر كلانا يستحق أن يكون في المكان نفسه
لم نفكر يوما في تغيير المكان، لأن المكان لم يكن مهما تماما، بقدر أهمية اللحظة التي تجمعنا.
لقد غاب عني طويلا، ألتهمته زنازن الوطن طويلا وبقيت وحيدة. غيابه يفقدني غبطتي ووجوده يشعرني بالحرية.
ماسين، دائما يستمع لهواجسي وأسئلتي المحرجة ويتفهمني بود كبير. هذا يجعلني أحلق عاليا، إنه رفيق قلب وصديق مسار، ومستمع جيد ساقه الحظ الجميل إلى طريقي ذات لحظات حالكة، يحيط حيرتي بدفء ويتفهم شروط الصداقة.
قررنا الذهاب إلى الحديقة المجاورة، في الطريق أخذنا مشروبنا المفضل، وجلسنا في ركن منزو بطرف الحديقة التي كانت تزخر بنباتات جميلة تسهر البلدية على تنسيقها وجلب النباتات الغريبة لفضائها حتى تصبح ملجأ للمتنزهين.
جلسنا وظل ماسين ينظر إلي بعطف وحدب.وكأنه يحرضني على الكلام:
-الحدائق أفضل عمل صالح تقدمه لنا البلدية!
ضحك من ملاحظتي ولم يعلق!
-اشتقت إليكَ كثيرا
مسك يدي بحنان وكأنه يرد وأنا أيضا.
-أعرف أنكَ منغنس في تفاصيل الحياة الجديدة التي أملتها عليك ظروف تجربة السجن والمواقف.
إن فكرة الحياة غير صائبة تماما
والأمل أصبح ينهض من الرماد ثم يعود للموت، مثل الفينيق تماما. الأمل مرض عضال لن نشفى منه... أقصى ما يجب التغلب عليه هو جهلنا بذواتنا والعمل على التخلص من هذه التعاسة التي تلاحقنا ويتخبط فيها العقل البشري.
رد ماسين الذي صقلته عذابات الحياة في أعالي الجبال وفي السجون وهو مازال طريا ويافعا:
يا عزيزتي هي مسألة عقليات واهنة تؤمن باختلالات ليست إلا ضد الطبيعة والحياة وتصنع المتاريس والعثرات ومزيدا من الجروح.
حملتْ عيناه حزنا سحيقا وهو ينظر إلى وجهي وكأنه ينشد روحا مريحة:
أركز طاقتي القصوى كلها لمواجهة التداعيات الجديدة....
يا إلهي، هذا الغرور حولنا ينتج الكوارث والاضطرابات والغرق في عويل المقارنات، والثيموس يتضخم بسبب فقدان البوصلة.
هذه الكائنات البليدة تُحمّلنا فوق طاقتنا ولا تفكر في إصلاح الخلل بينها وبين ذواتها؟
ينتجون الخواء والموت والخراب، ونحن علينا تحويل كل ذلك إلى طاقة إيجابية وإلى سبل من القوة والتحدي؟!
أي هراء يجمعنا معهم؟
نظرتُ اليه وقلبي ينز شغفا لأنني عاجزة عن صياغة ردٍ مناسب لكل هذا الدمار الذي يشعر به
نظر إليّ، نظرة امتنان وهو يواصل حديثه:
إن إرباك الحياة واضطرابها ودعمها ببرامج التنمية البشرية الأكثر هشاشة من خرابهم ومن الألم والقتل والتشريد والتفقير، وإيهام الشباب بصنع القيادات، سيدمر الصلة بيننا ولن ننجوا جميعا من صدمة قادمة، الخراب حين يتماسك فإنه يشكل قوة هائلة تشبه تسونامي.
كيف لا يستوعبون ذلك؟
ضغطت على يده لتهدئته وقلتُ:
-لم يعد هناك شيء في هذا العالم لا يختلط بالأوجاع؟
إنه قدرنا!
نحن وهذا العالم لم نعد نتحمل بعضنا
العالم يقتلنا، هذا كل شيء...
نحن نبحث عنا وهو يقتل كل شيء ملهم فينا دون رحمة، كنت دائما أبحث عن حلول توفيقية بيني وبين العالم، لكني في النهاية أفشل، يجب بتْر أي فكرة بائسة هذا هو الحل.
أريد أن أتنفس وكل شيء على طبيعته..!
كنت أتحدث ونظرتي منغمسة في نظرته الحنونة، التي لم تكسرها قساوة الحياة:
-أنت جميل للغاية يا ماسين وهاديء وغير متردد، وأنا خائفة، ربما هذا يرجع لاختلال أوضاعنا. فأنا امرأة في مجتمع تعيس... وأنت رجل يمثل الجانب المضيء من هذا المجتمع، لذلك أتشبت بحبك وبصداقتك بقوة.
صمتنا قليلا ثم بادر بتريدد أغنية أمازيغية أحبها وتثير في نفسي الكثير من الشجن، وكانت تناسب اللحظة.
غنيناها معا كما لم نغنِ من قبل... هذا أثار الحماس بداخل ماسين ونهض من جانبي!
رأيته يقطف وردة من الحديقة... استغربت للأمر؟!
عاد ليقدم لي الوردة، شممتها وشكرته ثم أخفيتها في حقيبتي حتى لا يراها حارس الحديقة، ولمتُه على عدم احترام القوانين...
لكنه أجابني وهو يرسم قبلة على جبيني:
-الحب أيضا يحتاج للمسات كي يصبح حديقة جميلة!
ابتسمت لابتسامته، هذا فتح شهيتي للشوق أكثر، أريد أن أقول له كل شيء، فمنذ غاب عني لم أجد متسعا للكلام، أحدثه وأنا أتذكر بصفاءٍ أول مرة التقيتُه فيها، وكيف أحببته دون تردد، وكيف كان وجهه طافحا بالفرح والحياة والأمل:
-أعشق حياتي وأنتَ إلى جانبي، تُشعرني بالآمان!
الحياة فوضى جميلة أحلم بترتيبها لكن هذا غير ممكن!
غير ممكن!
ثم ماذا قالت لنا الفوضى؟
إنني أراقب كل شيء رتيب بيأس كامل، الفوضى نهاية كل فكرة وصلت إلى سن اليأس.
لكن الفوضى الآن هي تعبير عن خواء بداخل البشر! الجميع يجنح نحو القتل، نحو الفراغ، بلا رحمة. إنهم يفتقدون إلى الجمال، إلى الفكرة السامية للحياة. إن الفوضى من أجل الجمال فكرة جيدة.
إن رؤسنا الصغيرة تشبه تجربة هذا الكون بكل تناقضاته، ويبدو أننا سنبقى هكذا في تناقضات عارمة. لا نستوعبها لكننا نعيشها بشعور مليء بالرضى أحيانا وبالتذمر أحيانا أخرى. حين أتأمل هذا التناقض الجميل الذي هو أساس الحياة، أفكر دائما في التناسق ولا أستطيع فهم ما يجري من تشظي حولنا، فالأفكار كثيرة، ومثيرة، ومدهشة، والحزن مربك، ومقلق.
لكنكَ وهذه الأشجار التي تقف شامخة رغم التهديد البشري، تعطيني أملا أكبر في الاستمرار، والنجوم التي تتلألأ فوق رأسي تعطيني أملا في الحلم، ومع ذلك ما زلت أعي أنني مجرد ذرة تافهة ستتحلل يوما ما دون أسف ولا معنى. والأحلام مجرد ومضة للمرح لمواجهة عبث الحياة والقدر. في غيابك أصبحت طقوسي بسيطة وغير مرتبة، وتطلعاتي تفوق مساحة الكون... أحلامي تبدو لأول وهلة وكأنها قداس قديم. صلاته تبدأ مع شوق الروح، والانزياح في قلبي ومضات ورؤى سحيقة...
أتدري يا صديقي:
-كانت فصول المطر تثيرني، كانت تشعرني كم أنا بحاجة إلى دفئك! والمدى يعطيني إحساسا أبدياً بتفقد الكون ومجاراته، وكأنني لا أبرح هذا الجرح، أذكر جيداً أن الحياة كذبةٌ مستساغة وأن الحلم ماهو إلا مسافة ملتوية نحو اللاشيء. لكنك تعطيني إحساسا أكبر بأنكَ حقيقتي الوحيدة في هذه الحياة.

-هذا ما يشدني إليكِ، رد ماسين.
ووجهه الطافح بالحزن والشوق يحتويني، فالسجن له تأثيرات بشعة على روح الإنسان، هكذا بدا ماسين حزينا وصامتا، وأنا أحاول استرداد الكلام إلى شفتيه حتى يخرج المرارة التي بداخله.
ابتسمت له بود بالغ:
أحاول أخذك للبعيد لنكون أكثر قربا، أعرف أن منطق العالم غريب لم أستوعبه طيلة حياتي، وأنت أيضا....
إن السماء مجرد غلاف أزرق يفصلنا عن المدى السحيق ومع ذلك نتصور أن فيها من التجليات الحزينة الكثير، الكثير!
السماء هي الرب!
لكننا مؤخرا اقتحمناها واخترقنا غلافها، واكتشفنا أن لا سبع سموات ولا شيء سوى الفراغ المظلم ....
هذا مؤلم من أجل إيماننا السحيق بأنه يجب أن تكون هناك عدالة تجلس على طبقة الأوزون تنتظر نداءاتنا وصرخاتنا لتدعمنا بعدلها. العدالة التي لا تتحقق إلا تحت التراب؟
العلم أيضا زاد من قلقنا أكثر؟!
أحيانا أتصور نفسي رادوبيس والعالم زوجة أبي؟!
صدمات دفينة، ورغبة سحيقة بتفجير هذا العالم، لعل الرماد يزهر.
يبتسم ماسين
-لا تقلقي يا عزيزتي مثل هذه الصدمات تجعلنا نفيق من السبات وحين نعتاد على الأمر سننسجم مع طبيعة الوجود لأنه هكذا: غموض وتناقضات. إن جماله في هذه الاكتشافات المذهلة.
أحسست ببعض الراحة وربما هذا ما يشدني لهذه اللحظة التي تحملني بعيدا وتجعلني أرغب في الكلام معه هربا من اللغة الجوفاء التي حولنا، لغة نبتلعها ببلادة وصمت:
-وأنا صغيرة كنت أسأل نفسي ومن حولي
هل الرب لديه أطفال مثلي؟
هل الرب ينام على الغيمة؟
الجواب كان دائما: هذه الأسئلة حرام!
كنت أحلم أن أحلق في السماء، كنت أشتهي أن ألمس غيمة بأصبعي الصغير؟!
لا أستطيع أن أعبّر لك عن شعور طفلة صغيرة تحمل الكثير من الأحلام والدهشة والأسئلة وتبتلعها في جوفها خوفا من التأنيب.
هذه الأسئلة كانت تؤرقني وأنا طفلة! وأتصور الرب مرة أبا حنونا ومرة أبا صارما يكره طرح الأسئلة. وأحيانا أتصور أبي نبيا صامتا يكره أن يزعج الرب بأسئلتي فأعدل عن التفكير في هذا.
خيال مشتعل وأسئلة طفولية متواصلة.... لكنني مع الأيام يئست من الحصول على جواب يقنعني! رغم أن خيالي ظل مشتعلا، وضميري غير واثق من شيء.
عندما كبرت بدأت الأشياء تصغر أمامي وتتضاءل، حتى الجواب نفسه لم يعد مهما بالنسبة لي... فقد علمتني المعرفة أن الفهم هو الأمل لأرواحنا وأن الحياة مجرد سؤال، وألم، وبعض المرح الطاريء. والحقيقة هي التي نعيشها وليست التي نتصورها.

-إننا لن نفلح في تصحيح الحركات اللإرادية للعقل، ستظل تؤجج تعاستنا إلى الأبد
لكن هذا لا يمنع أن نقول أننا نحب؟!
هذا ما قاله ماسين وهو يحرضني على الحلم.
وبدا وجهه حزينا أكثر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى