كتاب كامل جورج سلوم - الفصل الخامس من رواية عنق الزجاجة

الفصل الخامس -

تريّث..



بالنسبة له .. يعود أدراجَه إلى بيته أو إلى ثلّة من صِحاب يجتمعون ليلعبون الورق .. ويكمل سهرته حتى ليشرف على النوم وتتهالك أجفانه .. يحسده صديقه المتزوّج لأنّ زواجَه قد تأخّر .. يناوله سيجارة أخرى بلا مبالاة ويشعلها له .. ويقول له :

- تريّث يا أخي كما قال طبيبك ..والطريق الذي ستدخله راغباً قد خرجْتُ أنا منه كارهاً .. لا فرق بيني وبينك إلا اشتياقك لدخول عنق الزجاجة الزوجيّ .. وسيكون فاتحةً للوقوع في مستنقعِ الأزمات العائلية .. أسرةٌ وأولاد ومدارس وغيرها .. ونقيقٌ منها ونهيقٌ منك ..وأولادٌ تفرح بولادتهم وتضربهم بعدها بلا سبب ، وتكره يدك التي ضربتهم .

أنت أسعد مني .. تلتقي بخطيبتكَ كلّ يوم وهي بأجمل حُللها .. تتلاطفان تتغازلان .. تتسايَران في مشوارٍ لذيذ .. وكلٌّ منكما ينامُ بعدَها ملءَ جفنيه .. أما أنا !؟

قال ذلك وكان يرمي بأوراق اللعب بعصبيّة حتى ليكاد أن يكسر طاولتها .. وكلّ ورقة تهزّ كؤوس الشاي .. وتنفض رماد السجائر المنتشر على وجهها كالغبار.

تبّاً لعنق الزجاجة هذا الذي نعشقه .. وكلّ خميسٍ له موعدٌ معنا نحن الأزواج العرب .. نصلّي إلى أعناق زجاجاتِ زوجاتنا ونجثو على عتباتهنّ.. ويصبح عنق الزجاجة قِبلتنا .. ونحجّ إليه .

وتبتهل الزوجات رافعاتٍ أرجلهنّ.. والدّعاء ألا يستفيق الرضيع ويبكي طالباً الرضاعة .. فتحار الزوجة من ترضع أولاً صغير القوم أم كبيرهم ؟

طاولتهم كانت كميدانِ معركة .. كرٌّ وفرّ وصياح وشتائم وغالبٌ ومغلوب .. ودخانٌ يخيّم في سمائها من قصف المداخن الفموية .

كلّ مواطنيكَ فلاسفة يا أحمد .. ولكلّ فلسفته في الحياة .. وكلهم محشورون في أعناقِ زجاجات متنوّعة كالفئران والقطّ يتربّص بهم .

حقيقةً .. لا ضرورة لاستعجال الأحداث ودعِ الأيام تفعل ما تشاء .. والاعتياد على فترة الخطوبة أجمل من التسرّع الذي لا رجعة منه .. تكفيه صداقتها ورفقتها وندّيتها في الردّ على طروحاته وفلسفاته..

يجد متعة في مشاكستها كفرسٍ حرون لا تمكّنه من امتطائها ولو خيّل إليه أنّ انقيادَها سهلٌ .. فيكتفي بالتأمّل فيها والأمل بوضع اللجام في فمها .. عندها ستنقاد إلى حظيرته راضيةً مرضيّة .

لا يكذب على نفسه إن قال أنه يحنّ إليها كأنثى ويحلم بها .. ويقضي لياليه معها في فراش الحلم يستحضِرها إليه متى عنّت على باله .. وعينه لا تفارق ثغرة نحرها وامتداداته نحو عنقٍ شامخٍ للأعلى وصدرٍ فسيح بالأسفل .. شاعرٌ عذريٌّ كاذب يدّعي الطّهر في مفرداته .. ولكنّه مفتونٌ بما وراء الرداء..

وتريّثه الظاهر ما هو إلا ضبطٌ للعواطف وادّعاء لإمكانية صداقةٍ روحية بين رجل وامرأة .. لا معنى لتلك الصّداقة ولا استمراريةَ لها لولا الإيحاءات الجنسية ، وإلا فما فَرْقُها عن صداقة رجل ..

صحيحٌ أنه ماعاد غازلها أو تغزّل بها .. لأنها ما عادت تستمتع بتلك الكلمات تزعِجُها .. وتعتبرها نوعاً من التحرّش ليقترب بها من عنق الزجاجة .. فاتّفقا ضمنياً على التأجيل والخلود للعبة الوقت والانتظار .. ويقولان كلٌّ في قلبه .. لنتريّث أفضل ، فالقصة على ما يبدو طويلة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى