عبد القادر وساط - النور الساطع

مساء الجمعة 16 أبريل 1972، كان الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا يركب طاكسي، عائدا إلى البيت الذي يكتريه، بإحدى ضواحي مدينة سوتشي.
كان حزينا جدا. والحق أن الحزن لم يكن يفارقه منذ عامين. أي منذ انتحار صديقه الكاتب يوكيو ميشيما. كان يقول لنفسه " لقد عشت بعده عامين وهذا كثير. هذا كثير جدا." بَيْدَ أنه كان يبذل جهدا كبيرا لإخفاء أفكاره تلك عن الآخرين.
بعد انطلاق السيارة، نظر إليه السائق بعض الوقت في المرآة الأمامية، ثم قال له:
- أنا أعرفك جيدا يا سيدي. أنت الكاتب كاواباتا ياسوناري.
ثم صمت قليلا وأضاف:
- وكيف لا أعرفك وأنت أول كاتب ياباني بل أول كاتب آسيوي يحصل على جائزة نوبل للآداب؟
ابتسم كاواباتا ولم يقل شيئا. قال له السائق:
- اسمي كينتا إيتشيرو.
كانت السيارة قد دخلت بهما ذلك النفق الطويل، الذي يسميه سكان المدينة " نفق الأشباح."
شرع السائق يحكي لكاواباتا عن شبح المرأة الشابة " أكيكو"، الذي يلاحق السيارات هناك مع بداية الغسق. قال إنه رآها مرة تجري خلف سيارته هو وقد انبعث من شبحها نور أبيض يعمي الأبصار.
علق كاواباتا قائلا:
- ذلك شيء طبيعي بالنظر إلى اسمها! أليس معنى هذا الاسم هو "النور الساطع"
قال صاحب الطاكسي:
- غريب هذا الذي يحدث في مدينتنا...الموتى يعودون. كثيرون منهم يركبون الطاكسي...
ضحك كاواباتا وقال:
- جلهم مسالمون لا يؤذون أحدا، فيما أحسب...
نظر إليه السائق مرتابا بعض الشيء، ثم عاد يتحدث عن المرأة الشبح:
- يحكي الناس يا سيدي أنها ماتت بداء السل وهي في الخامسة والعشرين.
قال كاواباتا:
- والدي أيضا مات بهذا الداء. وكذلك أمي التي لم تعش بعده سوى سنة واحدة.
ساد صمت، ثم عاد كاواباتا يقول للسائق:
- لقد ماتا وأنا طفل صغير. والغريب أني لا أتذكر أي شيء عن طفولتي بينهما. كل ما أذكره أن أبي كان طبيبا وأنه كان يدعى" إيكيشي." أما أمي فكان اسمها"جين." أين اختفت ذكريات تلك المرحلة، يا تُرى؟ وكيف؟ هل ينحلُّ الإنسان في الماضي كما تنحل قطعة السكر في الماء؟
بعد لحظة، عاد الكاتب الياباني يقول للسائق:
- قلت لي إن اسمك إيتشيرو. يا للمصادفة العجيبة! أنا كتبت سيناريو فيلم سينمائي بعنوان " الصفحة المجنونة". بطل هذا الفيلم يسمى هو أيضا إيتشيرو. كان بحّارا، ثم أصبح حارسا بمستشفى للأمراض العقلية. وهو المستشفى الذي كانت تُحتجَز فيه زوجته منذ شهور. منذ أن حاولت الانتحار غرقا مع طفلها الرضيع، فمات طفلها الرضيع ولم تمت هي.
كان السائق يتابع ما يقوله كاواباتا باهتمام شديد. وكان مسرورا لأنه يتحدث معه بتلك التلقائية.
واصل الكاتب حديثه قائلا:
- هل تعرف ما كان اسم تلك المرأة المجنونة؟ لقد كانت تدعى أكيكو ! النور الساطع! نعم. هي أيضا كان اسمها أكيكو.
بعد ذلك شرع الرجلان يتحدثان عن الكتابة. قال السائق:
- أنا أستغرب كيف يستطيع إنسان كتابة روايات وقصص. إنه أمر يبدو من قبيل المعجزات. أنا مثلا أشتغل سائقا. أركب سيارتي وأشغل المحرك وها كل شيء على ما يرام وها هي السيارة تنطلق دون متاعب. أما أن يجلس المرء ويكتب رواية، فذلك شيء يصعب على من كان مثلي أن يتخيله!
قال كاوباتا:
- قد يكون المرء كاتبا دون أن يكتب شيئا. أنا عرفتُ شابا مجنونا، كان يُسَلّم لوالدته كل مساء، قبل النوم، صفحات بيضاء، ويطلب منها أن تقرأ عليه ما كتبه فيها. لقد كان مقتنعا أنه يؤلف رواية. وكانت الصفحات البيضاء بالنسبة إليه مكتوبة ومليئة بالأحداث! وكانت الأم تشرع في القراءة بصوت مسموع، كأن الصفحات مكتوبة بالفعل، وعندئذ ينام الفتى المجنون وهو رائق المزاج.
كان السائق قد أوصل كاواباتا قرب منزله. نزل الكاتب بعد أن أدى ثمن الرحلة، وتوجه رأسا إلى بيته، الذي يقع في الطابق الرابع من عمارة حديثة البناء.
أحس مؤلف" الجميلات النائمات" بتلك الكآبة الصماء التي تسكنه تطفو من جديد، وعاد يتساءل كيف بقي حيا سنتين كاملتين بعد انتحار صديقه يوكيو ميشيما.
" سنتان كاملتان ؟ هذا كثير!
توجه نحو مسكنه بخفة الأشباح، رغم السن والتعب. وعندما بلغ باب العمارة، وجد ناسا كثيرين مجتمعين هناك. ورأى سيارتي شرطة وسيارة إسعاف واقفة عند المدخل.
خفق قلبه بعض الشيء. لكنه قصد أحد المتجمهرين وسأله برباطة جأش:
- من فضلك سيدي، أنا من سكان العمارة. هل يمكنني معرفة ما يحدث؟
أجابه الرجل بلامبالاة:
- حالة انتحار... انتحار بواسطة الغاز...المنتحر كاتب معروف. اسمه ياسوناري كاواباتا...أول ياباني يفوز بجائزة نوبل للآداب!...انتحر صباح هذا اليوم...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى