حليم الفرجي – رغيف السماء.. قصة قصيرة

أين منصور يا خالة ؟؟
: لا أدري ، هو لم يظهر منذ الصباح ؟؟
وأردفت واصفة إياه بالمستهتر ، ثم كالت عدداً لا حصر له من الشتائم. خرجت مسرعاً كي لا تلحظ ابتسامتي متعجباً من طريقتها في التعبير عن حبها لمنصور وحيدها ذي العين الواحدة. الخالة سعدى هي داية القرية ، منصور كان وحيدها الذي رُزقت به بعد محاولات عدة للإنجاب، لم تفلح في بداية الأمر إلى أن ذهبت للشيخ عبده بعدما نصحتها نساء القرى بذلك، وبعد تعويذات عدة أخبرها بأنها ستنجب صبياً مختلفاً عن بقية الصبية ، يتردد في القرية أن الفتى نصف جني وإلا كيف حملت به سعدى برحم ميت شؤم على بقية من حملت بهم سابقاً.
لم ألحظ عليه شيئاً مختلفاً ، فنحن رفقة منذ سنوات عمرنا الأولى لولا بعض العمش في عينه اليمنى تحول مع الوقت الى عمى في تلك العين إذا اسميناه اختلافاً ، ومع هذا أستطيع القول بأنه كان طيب القلب ، محباً للجميع لم يكره أحدا ، كما كان نشيطاً فوق العادة لا تفارق الابتسامة وجهه، ذو جثة ضخمة ولون أسمر جميل. ورغم هذا كان الجميع يتجنب رفقته وينعتوه بأبشع الألقاب.
جمعنا اليتم والفقر، كما كنا بفصل واحد واشتركنا في مغامرات كثيرة ، حيث كنا نتسلل في الليل لسرقة بعض الحلوى من دكان القرية وأحيانا نغافل المزارعين ونسرق بعض القمح وذات مرة حاولنا سرقة بعض التمر من منزل شيخ الجامع الذي وصفنا بعد افتضاح أمرنا بالعصاة اللذين سيذهبان للنار حتماً ، وأمر بقطع أيدينا لولا تدخل بعض وجهاء القرية، في حينها نظر لي منصور قائلاً :
لايهم أين سنذهب؟! المهم ألا نجوع ثانية ياصديقي!
كان منصور لايزال يمارس دور الأخ الأكبر كلما خرجنا معا فيبادر لطمأنتي عند كل مشكلة نقع فيها وكنت أثق بكلامه ، وأحتمي به كثيراً. قررت والدتي إرسالي للمدينة لإكمال تعليمي هناك عند قريب لنا وفي حقيقة الأمر هي تريد إبعادي عن منصور .
مرت ثلاثة أعوام ومع هذا كنت أعود في كل مرة لأسأل عنه بالخفاء ، لقد عاهدنا بعضنا أن لا نفترق أبداً ، وكانت أمه دائما تقول لي :
منصور لا أخ له سواك فلا تتركه .
اصبح في كل مرة التقي به يخفي وجهه مني ، هناك شيء قد قُتل بداخله ، لم يعد ذاك الفتى كثير المرح بل غَدَا شخصاً متجهماً حزيناً ومنكسراً .. عدتُ في المساء لأسأل عنه ، وجدته جالساً عند مدخل بيتهم يحدق في المارة بعينين وجلتين ، لم يستقبلني كعادته ، كان سلاماً بارداً ، أعي أنه يحمل لي عتباً بقلبه ولعل مقابلتي بروده ببرود أكثر قد زاد الفجوة بيننا . لحظات من الصمت نهضت بعدها عائداً فناداني –
آدم نظرت اليه دون أن أجيب - أتظن ياصديقي أن الجنة لايدخلها عاصٍ ولا بليد ولا قبيح مثلي؟!
ومن قال لك ذلك ؟
شيخ الجامع يصفني دائماً بالعاص الذي سيذهب للنار ! أولم نسرق عندما أحسسنا بالجوع وأردنا أيضاً تذوق الحلوى التي لم نملك ثمنها ؟ وكان هذا منذ زمن بعيد ؟ لماذا لا يغفرون ياصديقي ؟!
لم استطع إجابته ، كنت أتذوق الخذلان في كلامه والخيبة من تخلي الأصدقاء والفقر والوحدة أيضاً .. مضى عام على تلك الحادثة ، لم أعد إلى القرية من حينها، ربما هي رغبة الهروب من كل مايذكرني بخيبات منصور. منصور الذي كنت أراه من خلال وصفهم له ونسيت أني كنت شريكه في تلك الخطايا . اليوم صباحاً وصلتني رسالتان إحداها من أمي وأخرى كانت عبارة عن رسالة عاجلة مختصرة علمت لاحقاً أنها من طرف الخالة سعدى (احضر حالاً - لقد مات منصور) كان علي أن أجيبها لو بقيت داخلي ذرة واحدة من الوفاء ، ودون أدنى تأخير توجهت الى القرية وكان وصولي قبيل الغروب ، شاهدت رجال القرية عائدين من المقبرة وهم يقسمون أنهم رأووا نوراً قادماً من السماء باتجاه القبر المعد لمنصور ، توجهت لدار أم منصور ، وجدتها صامتة لاتعي مما حولها شيئا ، قبلت رأسها وكفيها وكأني أقدم اعتذاراً لمنصور عن تقصيري ، ناولتني صندوقاً تقول أنه أوصاها قبل أيام أن تعطيه لي في حال عدت للسؤال عنه ولم أجده ، عندما فتحته وجدت بعض الدفاتر القديمة والقصاصات وصناديق حلوى فارغة قديمة أيضاً ، ثم ورقة تبدو أنها رسالة كتبت بخط ضعيف ( أقسم لك ياصديقي أني أرى الجنة ذاتها التي لن يدخلها عاص أو قبيح بعين واحدة ، أراها كل ليلة وأشم رائحتها مشابهة لرائحة رغيف خبز ساخن و حلوى ) بالجوار كان شيخ الجامع يقسم لجميع أهل القرية أن منصور كان فتاً مختلفاً في كل شيء.


حليم الفرجي – السعودية

نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى