خالد سعيد الداموك - حب في حارة سيئة السمعة.. قصة قصيرة

قبل الحديث عن هذه الحارة السيئة، لا بد من القول أنها قبل قصة عطية بن علي وجهدا بنت نويّش، كانت تستحق سيلاً هداراً من البنزين ينهال عليها من السماء حتى يغرق منازلها ويتسلل إلى حجراتها ثم توقد النار بما فيها ومن فيها.
والقصة التي نريد أن نحكيها هذه المرة، هي عن عطية بن علي الجنوبي الذي يسكن في منتصف الحارة ويعرف ساكنيها كلهم وجهدا بنت نويش التي قاربت الأربعين ولم تتزوج حتى الآن بسبب جلافتها المعروفة عنها. فبعد أن تتالت فضائح ساكني الحارة في أسبوعٍ واحد، قرر وقررت دون اتفاقٍ معلن، أن يكشفا أمرهما المكتوم حتى عن نفسيهما مصغيان لقلبيهما راميان كلام الناس وراء ظهريهما.
كانت جهدا في كل مرة تقطع فيها الحارة، تحمل في يدها عصاً من الخيزران تسمع أزيزها في الهواء وهي تهدد بها المارة الذي ينظرون إليها حتى لو كانت نظراتهم بريئة أو عفوية أو وقعت عليها عرضاً. بل إنها كثيراً ما كانت تصفي بها بعضاً من غيضها من صبية الحارة الذين يسخرون منها فلا تسمع سوى أنينهم وصرخاتهم الموجوعة وهم يفرون من أمامها بعد أن تستنفد تهديدها لهم (عليّ الحرام لأمغطك بذا الخيزران لين تتفخ جنوبك يا الكلب)
أما عطية فقد كان شاباً ودوداً لم يصل الثلاثين من عمره، حسن المعشر، هادئ السليقة، بالغ التردد، لا يعادي أحداً ويبادر إلى الاعتذار عندما يقع بينه وبين أحد الساكنين سوء تفاهم حتى وإن لم يكن مخطئاً.
وبالنسبة لأهل الحارة، فلم يكن أحداً منهم قد تنبه لموقف عطية من جهدا ولا جهدا من عطية كلما التقيا في الأزقة. فقد كان عطية يقف مستقيماً بانضباطٍ تعلمه من وظيفته العسكرية التي يعمل بها مراسلاً كلما مرت به جهدا، خافضاً بصره بخضوعٍ وانكسار، مسبغاً على منظره حزناً عميقاً يذكرك بقصائد الحب القديمة وليست قصائد الحب المبتذلة في زمننا الراهن. أما جهدا فكانت تهدأ عندما تمر بجانبه ولا يعود لسانها إلى الشتائم المقذعة التي تنال بها كل من تمر به ولا تحرك خيزرانها المرنة حتى تجتاز المكان الذي يقف فيه.
هذا الموقف الغريب والمتكرر بينهما لم يثر أبداً ريبة أحد أو يجعله يظن أن هناك شيئاً ما يجمع هاتين الشخصيتين المتناقضتين حتى بدأت الفضائح تتالى في الحارة يوماً بعد الآخر.
ففي اليوم الأول، خرج جميع من في الحارة على صوت أم نزار الحضرية وهي تندد وتشتم وتلعن زوجها وتدفعه من البيت حتى أخرجته بملابسه الداخلية أمام الناس وأقفلت الباب خلفه تاركةً إياه في الشارع. كانت تولول بعلو صوتها محتجبةً داخل فناء منزلهم وترميه بأقذع الشتائم بعد أن شمت فيه رائحة العرق مجدداً. منظره البائس كان يدعو للتعاطف وهو يترنح بإزاره الكاروهات الذي يحيط بنصفه الأسفل و(فنيلته العلاقي) الرثة، متوسلاً إياها بلسانه المثقل بالخمرة من خلف الباب كي تكف عن الفضائح دون أن تستجيب له. فبعد توباته المتكررة وأيمانه المغلظة ألا يعود إلى الخمر التي يعود لها دائماً، عقدت عزماً حاسماً أن تفضحه على رؤوس الأشهاد لتضع حداً لكبائره المُنكرة والفقر الذي يجاهد نفسه في صنعه لعائلته هذا الأخرق. فكلما تحسنت أوضاعه المالية وجرى المال في يده، عاد إلى شراء العرق من الصومالي حسن أيوب الذي يسكن في الحارة المجاورة حتى يصيبه الكسل ويستكين إلى البطالة ويعود إلى الإفلاس. وإذا أفلس راح يشتري بالآجل، وإذا اشترى بالآجل، تضاعف الدين على الدين حتى يصبح من الصعب عليه العودة لحياةٍ متوازنة اقتصادياً إلا بسداد دينه المتأخر وهذا كله يعود بأبنائه إلى التضور جوعاً.
هذه المرة لم تمهله أم نزار حتى يعود بهم إلى متاهات الحاجة، فما أن شمت رائحة العرق في أنفاسه الحارة وهما على السرير، حتى شمرت عن ساعديها متخذةً موقفاً سريعاً قبل أن يتداركهم الجوع فرمته في الخارج أمام الناس عارياً إلا من خزيه. كانت تلعنه وترميه بكلامٍ فاحش كثير التداول في المنطقة الغربية تطال به فرج أمه أو تتهمه فيه بعرض أخته والناس تحاول تهدئتها برفع أصواتهم لها من خلف الحائط دون أن تعيرهم أية أهمية حتى ظن الجميع أنها دخلت المنزل لولا صوت كركرة الشيشة القادمة من الفناء. الرجل المنكسر بذله، ظل يجلس على الدرج ويتلقف المواساة من المارة أو السخرية من بعض الأشقياء الذين اتخذوا من السيارات المتوقفة على بعد أمتار مدرجاً للمسرحية التي يتابعونها. وفي ساعةٍ متأخرة من الليل، فتحت له الباب دون أن تتوقف عن كيل الشتائم له فدخل منزله كقطٍ مبتل.
في اليوم التالي دب شجار بين الجارتين أم شوعي الجازانية وأم مصطفى الشرقاوية بسبب شوعي ذي التسع سنوات الذي شج رأس مصطفى ذي الثمان سنوات. وبدأت الحادثة عندما كان مصطفى عائداً من البقالة في آخر الشارع وهو يلعق في يده آيسكريم فحاول شوعي أن يستجدي لعقةً أو لعقتين منه، ولكن مصطفى كان قاطعاً ودفع شوعي وهو يصرخ في وجهه فأوقعه أرضاً. قام شوعي من سقطته واستعاد شجاعته، والتقط حجراً رآه بجانبه في سقوطه وسدده بمهارة نحو رأس مصطفى الذي كان يغذ في سيره مبتعداً عن شوعي وهو يوليه ظهره. ورغم الإصابة المحكمة التي شرخت رأس مصطفى المربع من الخلف، إلا أنه لم يترك الآيسكريم يسقط من يده وهو يولي هارباً وصياحه يرتد عن جدران البيوت حتى دخل بيتهم باكياً والدم ينثال على عنقه. لم يطل الأمر حتى خرجت أم مصطفى متلفعةً بمشمرها وراحت تدق باب جارتها بذات الحجر الذي شُج به رأس ابنها حتى خرجت أم شوعي التي كانت هادئةً أول الأمر وحاولت بكل ما أوتيت من تعقل أن تمتص غضب جارتها، ولكن ابنة الشرقية لم تكن لتهدأ خصوصاً أن أم شوعي كانت تستخدم في كلامها أل التعريف الطمطمانية كهذه: (امجهلة تضاربوا ما كلفنا فيهم؟)...(تعوذي من امشيطان يا جارة)
ظنت أم مصطفى أن جارتها تسبها ما دامت تكثر من ذكر "أم" في كلامها معتقدةً أنها توازي "أم الصبيان" و"أم السعف والليف" مما أجج غضبها فلم تتوقف عن كيل الشتائم لأم شوعي حتى واكبتها هذه الأخيرة واستعر السباب وتعالت أصواتهن وتجمع الكثير من المارة حتى تدخل زوجي المرأتين وأنهيا اشتباكاً وشيك الوقوع ولكن الله لطف من هذا التصادم الثقافي.
في اليوم الثالث أيضاً لم تتوقف الفضائح، فلقد وقع خلاف جديد بين سفر عبدالله وشريكه في باص "خط البلدة" ضيف الله رجب بعد عودتهما إلى الحارة في نهاية اليوم على حفنة من حبوب الكبتاجون. أخرج سفر "العجرا" الموجودة في الباص وهوى بها على رأس ضيف الله الذي لم يتوان هو الآخر، فاستل سكينه من جيبه وطعن بها سفر في كتفه قبل أن يتدخل الناس ويفرقاهما. وحيثيات الحادثة بدأت عندما كانا يعملان على طريق "البطحاء_ العليا" وفاجأتهما الشرطة بحثاً عن مخالفي نظام الإقامة مما اضطر ضيف الله الذي كان يحمل الحبوب معه إلى ابتلاعها جملةً دون أن يخبر شريكه سفر حتى عادا إلى الحارة. لم يصدق سفر أن ضيف الله ابتلع ثمان وعشرين حبة من الكبتاجون دفعةً واحدة وشك أنه يخبئ بعضاً منها مما دفع الحوار بينهما إلى الجدل ثم الشجار ثم العراك كما أسلفنا.
لقد كانت صادقتهما الوفية وشراكتهما الناجحة مضرباً للمثل بين أهل الحارة قبل أن ينكشف لهم أن عملهما على الباص لم يكن سوى غطاءً لتجارتهم الحقيقية التي يروجون فيها المخدرات.
أما في اليوم الرابع فحدثت فضيحة شرف، فلقد اكتشف عواض الدحيم أن علي البندقالي الأريتيري الجنسية، يقابل عشيقته الخادمة الأثيوبية على سطح منزله بالصدفة. فالبيوت المتلاصقة في هذا الحي القديم كانت تسمح لعلي بعد أن يهاتف الخادمة ويتفق معها على اللقاء، أن يقفز أربعة منازل قبل أن تقفز هي ثلاثة ليلتقيا في المنتصف على سطح منزل عواض حيث اعتادا اللقاء. ولكن زوجة عواض في هذا اليوم كانت تنشر الغسيل على السطح فرأتهما بوضعٍ مخلّ فصاحت بعلو صوتها: (الحق يا أبو غازي، الخوال يتراكبون في بيتك وأنت يا غافل لك الله)
فزع يومها عواض ببندقيته الأوتوماتيكية "الكلاشينكوف" إلى السطح وأطلق النار على علي البندقالي وهو يقفز من سطحٍ إلى آخر ولكنه لم يصبه. الخادمة المقيمة بطريقة غير نظامية، استسلمت لهستيريا الرعب وسط دوي الرصاص وانطوت على نفسها باكيةً في إحدى الزوايا قبل أن يجرها أبو غازي من يدها لتقر له بما حدث وتعترف بشخصية عشيقها. ورغم غضب عواض، إلا أن مغبة إطلاق النار جعلته يتراجع عن ابلاغ الشرطة ويبقى متربصاً بالبندقالي في الحارة لينتقم منه.
كل هذه الفضائح حدثت في أسبوعٍ واحد. لم يكن الناس يبدؤون أحاديثهم عن إحداها حتى تستدركهم فضيحة جديدة سرعان ما ينشغلون بها. كان معظمهم يتناولون الحوادث وأبطالها بالسخرية، أما العقلاء فكانوا يتناقلونها لأخذ العظة والعبرة. أما عطية بن علي فكان الأمر بالنسبة له مختلفاً، فلقد شكلت هذه الفضائح منعطفاً مهماً ومفصلياً في حياته الخاصة جعلته يبادر إلى إنهاء عشقه المكتوم ويفصح عما خبأه عن الناس. فأول ما كان منه، هو أن ظل ليومين أو ثلاثة لا يكلم أحداً، وإذا ما تحدث إليه أحد عن الحارة أو أحد ساكنيها كان يضرط بفمه ويقول: (لا يهمونك، كلهم عيال كلب)
كان يقول لنفسه أنهم كلهم لديهم عيوبهم، وجهدا في المقابل بنت رجال وأخت رجال ويرى فيها ما لا يراه في أي أنثى أخرى فلماذا لا يتقدم لخطبتها ضارباً عرض الحائط بأي سخريةٍ قد يوجهونها إليه أو أي حديثٍ ستلوكه ألسنتهم تجاهه أو تجاهها. وأخبر بعض الشهود، أنه خطبها على قارعة الطريق عندما التقاها وهي تعبر الشارع فاستوقفها ووشوشها فرفعت صوتها وهي تجيبه لتقطع أي إشاعةٍ قد تُذاع عنها وهي تشير إلى باب منزلهم قائلة: (ذاك باب بيتنا. طق الباب تلقى الجواب يا ولد الأجاويد. وبنات الحمايل ما ينخطبون في الشوارع) ثم أكملت سيرها مزهوةً بنفسها رغم أنها خشيت من جلافة ردها عليه.
لم يمض أسبوع حتى انتشر خبر ارتباطهما في الحارة فضحك منه من ضحك وتفاجأ منه من تفاجأ ولكنه غدا حقيقةً رغم أن أحداً لم يتوقعه.
في يوم الزفاف، مُدت عقود المصابيح من أعلى بيت الجنوبي حتى رُبطت بأعمدة الإنارة بالشوارع، وسد زقاق الحارة من أوله وآخره، وبُسطت الفرش أمام المنزل واتخذت مجلساً للرجال. أما النساء فتجمعن في فناء البيت ورقصن وغنين حتى الصباح. جميع من في الحارة شارك في الإعداد للعرس ومن لم يسعفه وقته أو جهده شارك بحضوره فساد الوئام أجواء الحارة.
رقصت أم مصطفى بجانب أم شوعي بتناغمٍ أذهل النساء. اشترى ضيف الله حبوب الكبتاجون على حسابه الخاص واقتسمها مع شريكه سفر وعادت المياه بينهما إلى مجاريها. التقى البندقالي بعواض في العرس، واعتذر له معترفاً بخطئه وقرر اصلاحه بالزواج من الخادمة الأثيبوية فدب الارتياح في نفس عواض وعادت إليه كرامته بعد شعوره السيء أن منزله دنس بهذا الفعل القبيح. أما أم نزار فقد كانت في زاوية الحفل "تعمَر" رأس الشيشة وتتحدث عن أبو نزار بكل حب وتتغزل فيه. لقد كان عرساً تصالحياً مشهوداً بسبب جنوبي أحب بدوية.

خالد سعيد الداموك - السعودية

نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى